In Literary Criticism
في النقد الأدبي
Daabacaha
-
Lambarka Daabacaadda
-
Noocyada
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله ﴿الرَّحْمَنَ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ٣، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ٤،﴾ والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ﷺ، وعلى آله وصحبه ﵃.
ظل النقد الأدبي العربي يتابع الفنون الأدبية منذ نشأتها، فيهتزُّ الناقد من أعماقه بالقبول قصائد اشتهرت في العصر الجاهلي، وعلقت على أستار الكعبة، وأطلقوا عليها المعلقات أو المذهبات أو المسموطات. كما أطلقوا على بعض الشعراء ألقابًا تدل على الجودة مثل المرقش، والنابغة، والمهلهل، والمتنخل، أو صفات كذلك مثل: الحوليات وعبيد الشعر، ولامية العرب، كما قالوا: هذا بيت القصيد، وأصحاب المراثي، وغير ذلك من الأحكام النقدية العامة، وكان الرواة يتناقلون هذه الأحكام والنظرات العامة مشافهة جيلًا بعد جيل، أو يرددونها على المجالس الأدبية، التي كانت تعقد في عكاظ وذي المجاز، والمربد، والمجالس الأدبية للخلفاء والنقاد والأدباء مثل: مجالس سكينة بنت الحسين ﵂، وعمرو بن العلاء، وعبد الملك بن مروان، وخلف الأحمر، وحماد الرواية، والأصمعي، والمفضل الضبي، ثم جاء عصر تدوين النقد الأدبي، فظهرت بعض الرسائل والصحف النقدية، مثل: رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب وصحيفة بشر بن المعتمر المشهورة، ووصية أبي تمام لتلميذه البحتري، وغيرها.
كانت هذه الرسائل والصحف والوصايا الرائدة في تدوين الحركة النقدية، سار على هديها ابن سلام في طبقاته، وابن قتيبة في الشعر والشعراء، والمرزوقي في شرح الحماسة، والجاحظ في البيان والتبيين والحيوان، والمبرد في الكامل، وأبو على القالي في الأمالي، وابن طبا طبا في عيار الشعر، وقدامة بن جعفر في نقد الشعر، وجواهر الألفاظ، والآمدي في الموازنة، والقاضي الجرجاني في الوساطة، وأبو هلال العسكري في الصناعتين، وابن رشيق في العمدة، وعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وابن الأثير في المثل السائر، وابن شهيد الأندلسي في التوابع والزوابع وابن بسام في الذخيرة، وغيرهم من النقاد والقدماء.
1 / 3
تناول هؤلاء النقاد قضايا النقد الأدبي في فنون الأدب المختلفة، لتوضيح القيم الخلقية والفنية في اللفظ والمعنى، والمضمون والشكل، والأسلوب والنظم والصورة الأدبية، والموسيقى والإيقاع، والعاطفة والخيال، والذوق الأدبي، والدربة، وقضية عمود الشعر، وقضية الجمال والحلاوة والجلال، وقضية السرقات الأدبية، ومن خلال هذه القضايا النقدية تعددت المدارس الأدبية والنقدية، فكانت مدرسة المحافظين على عمود الشعر العربي، ومدارس التجديد، والمولدين، والبديع، والصنعة، والتصنيع وغيرها.
واتخذ النثر الفني أيضًا اتجاهات مختلفة، ومدارس أدبية متنوعة، تأسست على يد عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع، ومدرسة الترسل على يد الجاحظ، ومدرسة ابن العميد، ومدرسة المقامات، ومدرسة الفاضل، وغير ذلك من الاتجاهات النقدية في النثر الأدبي.
أصبح هذا التراث النقدي العربي الأصيل بروافده المتنوعة، واتجاهاته الكثيرة ومدارسه النقدية المختلفة، مصادر النقد الأدبي الحديث، يقوم في تجديده على الأصول النقدية القديمة، والمقومات الفنية، والمدارس النقدية، ينبض بها في جميع اتجاهاته الحديثة، ومدارسه النقدية المعاصرة في المحافظة والتجديد، مثل: مدرسة البعث والإحياء ومدرسة المحافظين المجددين، وجماعة أبولو، وجماعة الديوان، حتى أصبح النقد العربي الحديث مرحلة تاريخية جديدة، تعاقبت بعد مراحله الأصلية والعريقة في العصور القديمة.
نسأل الله ﷿ أن ينفع به إنه نعم المولى ونعم النصير.
٣٠ رمضان المبارك ١٤٢٠ هـ
٧ من يناير ٢٠٠٠م
علي علي صبح
1 / 4
القسم الأول: عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي
الباب الأول: الآمدي الناقد الأدبي
الفصل الأول: الآمدي الناقد الأدبي
...
القسم الأول
الباب الأول: عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي
الفصل الأول
الآمدي الناقد الأدبي
١- هو أبو القاسم الحسن بن بشر يحيى الآمدي الأصل، البصري المنشأ، ولد بالبصرة فلما بلغ سنَّ الشباب توجَّه إلى بغداد، واختلف إلى مجالس العلماء. يتلقى عنهم اللغة والنحو والأدب. ثم عاد بعد حين إلى البصرة، كاتبًا للقضاة من بني عبد الواحد، ثم برز في الأدب وصارت له شهرة واسعة فيه، وانتهت إليه رواية الشعر القديم، والأخبار في آخر عمره. وقد ألف كتبًا كثيرة في الفقه والنقد، ذكرها ياقوت في الترجمة التي عقدها له، وكان فوق ذلك شاعرًا مجيدًا، رُويت له مقطعات شعرية كثيرة، وتوفي أخيرًا بالبصرة سنة ٣٧٠هـ.
٢- والآمدي صاحب كتب كثيرة نذكر منها:
كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء.
كتاب تفضيل امرئ القيس على الجاهليين.
كتاب معاني شعر البحتري.
كتاب الرّدّ على ابن عمار فيما أخطأ فيه أبو تمام.
كتاب فرق ما بين الخاص والمشترك في معاني الشعر.
كتاب تبيين غلط قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر.
كتاب ما في عيار الشعر لابن طبا طبا من الخطأ.
وأهم كتبه هو كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري.
1 / 7
ونلاحظ أن الآمدي قد ظهرت شهرته. وارتفع صيته في القرن الرابع والدولة الإسلامية واسعة الرقعة والثقافة العربية بعيدة المدى. قد هضمت شتى الثقافات وأحالتها غذاء عقليًّا سائغًا، على أن الآمدي قد درس وبحث، وثقَّف وهذب نفسه بهذه الثقافة العربية في روحها. المتنوعة في ألوانها.
والآمدي كما نلاحظ في الموازنة ذو عقل حصيف، وفكر ناضج، وثقافة واسعة وهو لا يسير وراء العلماء والأدباء وإنما يظل في الطليعة مجددًا لا مقلدًا، ومتبوعًا لا تابعًا، سواء في اللغة أم الأدب أم النقد. ونلاحظ أن الآمدي من الذين يؤثرون في الأدب الروح الشعرية المطبوعة: التي تميل إلى إيثار اللفظ والأسلوب. فهو لا يرى الشعر إلا صحة تأليف وعذوبة لفظ وجمال نظم، وهو لا يرى هذا الرأي في الشعر وحده، بل يجعل البلاغة كذلك مقصورة على جمال اللفظ والأسلوب وحدهما وموافقتهما للنهج العربي في صحة التأليف وجودته. أما المعاني وسموّها. والحكمة الإنسانية وروعتها. والخيال وإغراقه، فذلك الترف الزائد عن الحاجة، والذي إن ألمَّ به الشاعر أو الخطيب، فقد زاد في حسن صنعته وبهائها وإلا فالصنعة باقية قائمة بنفسها ومستغنية عما سواها.
ونلاحظ أن الآمدي في هذا الاتجاه الأدبي تابع للجاحظ وأضرابه ممن يؤثرون الروح الشعرية المطبوعة على المعاني الشعرية المبتدعة ويقولون عليك أن تجتذب السوقي والوحشي ولا تجعل همَّك في تهذيب الألفاظ، وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصاد بلاغ١.
على أن الآمدي يخالف النهج الذي يسير عليه قدامة الذي ينصر المعنى على اللفظ، وينادي بضرورة العناية به، ويقول البلاغة في شقَّين: معنى مبتدع، ونظم ساحر، وهو لذلك يجعل مادة الشعر المعاني٢.
أما صاحبنا الآمدي فقد جعل مادَّته اللفظ، وهذا الاتجاه الأدبي الذي سار عليه الآمدي، كان سببًا في إيثاره البحتري وتفضيله والتسامي بشعره، ووصوله إلى الذروة والقمة على غيره من الشعراء، لذلك نلاحظ
1 / 8
أن نقد الآمدي لشعر الطائيين ليس نقدًا للروح الشعرية، بما فيها من جوانب شتَّى، ومن مظاهر متنوعة، وآراء ذهب إليها الشاعر وشخصية فرضت نفسها على نتاجه، وحياة تلون هذا الإنتاج بلونها. وعقلية نبع ذلك الشعر من ينابيعها، واتجاهات جديدة اتجه إليها فنه، ونغمات جديدة أضافها إلى التراث الشعري، وإنما هو نقد للفكرة المجردة ولأسلوبها الشعري الذي ظهرت فيه. إذا كانت الفكرة والأسلوب بعيدين عن النهج العربي. فهو تحكيم للنهج العربي في أسلوب الشاعرين وألفاظهما ومعانيهما، فيردُّ منهما ما يردُّه الطبع العربي، ويقبل ما يقبله، من عناية باستقصاء سرقاتهما الشعرية الكثيرة. فهو نقد عقلي ولغوي أكثر منه نقدًا أدبيًّا شعريًّا، على أن الآمدي لا يكتفي في النقد بالناحية السلبية فقط، بل كثيرًا ما يتَّجه اتجاهًا ايجابيًّا جميلًا، فيأتي بالأبيات التي وقع فيها الخطأ مصحِّحَة أبدع تصحيح، ويلاحظ أن الآمدي حكم في الموازنة "عمود الشعر العربي تحكيمًا شديدًا".
وعمود الشعر هو كل التقاليد الفنية التي كان يتبعها الشاعر الجاهلي في ألفاظ القصيدة ومعانيها وأخيلتها وموسيقاها.
إن ثقافة الآمدي الأدبية العربية كانت تجعله يكثر في الموازنة من الاحتكام إلى التقاليد الأدبية للشاعر الجاهلي، وقد رأى الآمدي احتكام قدامة إلى عقله وإلى موازين أخرى، وثورة النقاد عليه فيما اصطنع من من موازين، لذلك رأى أنه من الأسلم الاحتكام إلى الذوق العربي الشعري القديم وحده.
فإذا رأى قدامة مثلًا خطأ في الاستعارة عند أبي تمام بأن يأتي بها أبو تمام استعارة بعيدة، أو استعارة نابية عن ذوق العربي في الاستعمال كماء الملام، فإن الآمدي لا ينقد الشاعر في ذ لك على أساس خارج عن الثقافة العربية الأدبية، ولكن يعود إلى طريق الشاعر الجاهلي القديم، فيجعلها الحكم في هذه المسألة.
على ذلك نلاحظ أن الموازنة ألفت في فترات منقطعة، يدلنا على ذلك عدم تساوق كل جزء من أجزائها في التأليف مع الذي يليه، وأن روح الآمدي مختلفة في ثناياه، فهو يذكر في آخر كل فصل من كتابه أنه
1 / 9
سيضيف إلى البحث ما سيعثر عليه من أخطاء أو سرقات، وسيلحقه بما كتب وهو حين يقرّر في كتابه الموازنة أنه سيوازن بين شعر الشاعرين فيما يتفقان فيه من الموضوع، والوزن، والقافية، وإعرابها، ويعود فيجعل الموضوع فقط هو أساس الموازنة، وهو يكرر كثيرًا من آرائه ونقده.
على أن كتاب الموازنة للآمدي من أجل الكتب التى ظهرت في النقد والموازنة. ولقد وقع هذا الكتاب أساس نقد الشعر والموازنة بين الشعراء. وهو بحق من أمهات الكتب التي ظهرت في النقد الأدبي وأصوله، وهو أيضا مصدر من مصادر البيان العربي، ومرجع من مراجعه، وقد اعتمد عليه البيان، مع أن الموازنة ليس كتاب بيان وبلاغة، وإنما هو نقد أدبي، وموازنة بين شاعرين، وليس بحثًا في البيان العربي وبلاغته.
والكتاب مقسم إلى خمسة أقسام وكل قسم يسمِّيه المؤلف جزء: فالجزء الأول يورد فيه الآمدي آراء النقاد في شعر "أبي تمام والبحتري" ويستقصي رأي المتعصبين لهذا أو ذاك، ويطلق لهذا الفريق الحرية في مجادلة ذلك الفريق، والجزء الثاني، ذكر فيه أخطاء أبي تمام من المعاني والألفاظ ... والجزء الثالث: يذكر فيه قبح استعارته ومستهجن جناسه ومستكره طباقه، وما ورد من شعره في سوء النظم وتعقيد التركيب، ووحشي الألفاظ مما خلا من بهاء الرونق وعذوبة السمع. ومما جعل التعسف على ديباجته. وظهرت مجاجة التصنيع في أعطاله. ويذكر ما وقع فيه من كثرة الزحافات، التي ضيعت موسيقى أوزانه الشعرية، حتى قال فيه دعبل: إن كلامه بالخطب والكلام المنثور أشبه منه بالشعر الموزون، ونلاحظ أن الجزء الرابع من الكتاب يحلل فيه الآمدي بإيجاز عيوب شعر البحتري مكتفيًا من ذلك ببيان بعض سرقاته، مع نفي الكثير منها عنه، بدعوى أن الاحتذاء كان في معانٍ لا خاصية، حتى ينسب إليه السرقة فيها.
أما الجزء الخامس فيوازن فيه بين الشاعرين في المعاني. التي اتفق موضوعها في شعرهما، ويبدأ تلك الموازنة بكلمة فيها صعوبة نقد الشعر، وأن لهذا الميدان أبطاله ممن عنوا بكثرة النظر في الشعر
1 / 10
والارتياض فيه. وطول الملامسة له. ثم تلاحظ أن الآمدي يبين اتجاهه الأدبي. ... الذي تأثر به في الموازنة. وهو الاتجاه الذي جعله لا يرى بلاغة الشعر إلا في نظمه وأسلوبه وصحة طبعه، ذاكرًا أن الذين قدموا البحتري. إنما قدموه لأن له من ذلك ما ليس لسواه، وإن كانوا لا ينكرون على أبي تمام أجادته في المعاني، وكثرة استنباطه لها، وإغرابه فيها، هذا والآمدي في معظم ما كتب كان ناقدًا، ومحيطًا بكل أسرار اللغة ودقائق البيان، فهو يقف في نقده عند البيت في دقة ملاحظة، وسعة اطلاع. إذا وجد به خطأ في لفظ أو فسادٍ في تركيب، أو إحالة في معنًى. أو بعدًا عن النهج المألوف.
ونلاحظ أن لياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء رأيًا في الموازنة ونصّه: "كتاب الموازنة بين الطائيين في عشرة أجزاء، هو كتاب حسن وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده، والتعصُّب على أبي تمام فيما ذكره، والناس بعدُ فيه على فريقين:
فرقة قالت برأيه حسب رأيهم في البحتري وغلبة حبهم لشعره. وطائفة أسرفت في التقبيح للغضّ به، وأنه جدَّ واجتهد في طمس محاسن أبي تمام، وتزيين مرذول البحتري، ولعمري أن الأمر كذلك، وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام: أصمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا. تشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين، ولو أنصف كل واحد يقدر فضائله لكان من محاسن البحتري، كناية عن التعصب بالوضع من أبي تمام ١.
ولا شكَّ في تأثر الآمدي بآراء النقاد قبله، فهو يعتمد على آرائهم، ويستدلُّ بحكمتهم في النقد، وهو يروى الكثير عنهم في كل صفحة من صفحات الكتاب، وكل موضوع من موضوعاته، ونقل عن الأصمعي، وعن ابن الأعرابي وأستاذهما أبي عمرو بن العلاء، ونقل عن ابن سلام وابن قتيبة وسواهما من أئمة الأدب وعلماء الشعر، وهل هذه الانتقادات الكثيرة التي شحن بها الكتاب إلا صورة لآراء كثيرين من النقاد، التي جمعها الآمدي في موازنته؟ فأصول كتاب الموازنة ترجع إلى نقاد القرن الثالث "١". ومؤلفيه.
1 / 11
وقد صحَّ الآمدي بما يدلُّ على ذلك على أكثر من موضع من كتابه، وفضل الآمدي إنما هو في تدوينها وتنسيقها وإضافة آراء معاصريه إليها وتدبيجها بكثير من آرائه هو، وتعليل ما لم يعلِّل، فقد هضمت عقلية الرجل كل ذلك، فرتبته وأحسنت جمعه والاستدلال به، والزيادة عليه في التحليل والتعليل.
وذلك قيمة كبيرة لا سيما أن كتب النقد في القرن الثالث قد فقد أكثرها، ولا شكَّ أيضًا في أن الآمدي فيما سار عليه من مناهج في النقد والموازنة قد تأثر باتجاهات النقاد قبله ومناهجهم فيما ينقدون، وهل كان النقد قبل الآمدي إلا تحكيمًا للمنهج العربي في نثر الأديب ونظم الشاعر؟ وهل كان ابن العلاء وخلف وحماد والأصمعي وابن الأعرابي وسواهم من الأدباء والنقاد يميِّزون جيد الشعر من رديئه إلا بعرضه على ميزان الطبع العربي، وتحكيم الأسلوب العربي فيما ينقدون؟ وكذلك فعل الآمدي فقد أرجع إلى اللغة العربية بأصالة كل شيء في النقد، فهو ينقد شعر أبي تمام، وينقد البحتري، بتحكيم النهج العربي في شعر الشاعرين، وتحكيم الذوق العربي في كليهما، والأسلوب العربي في أساليبهما الشعرية فيردّ ما تردّه. ويقبل ما تقبَّله. فللعرب طريق خاصّ فيما ينطقون به من أساليب وتركيب ونظم، وفيما يتكلَّمون به من أفكار ومعانٍ وخيالات، وفيما ينظمون فيه شعرهم من أوزان، ولهم نهج خاص في مجازاتهم وتشبيهاتهم واستعاراتهم وتمثيلاتهم، وفيما يتقننون فيه من مقابلة أو طباق أو جناس أو سجع إلى غير ذلك، وذلك النهج العربي الخاص هو ما يجب على الشاعر أن يلتفت إليه، ويسترشد به، ويحتذى حذوه، وينظم شعره على مثاله، ثم هو ميزان النقد وأساسه، والناقد يحكم ذلك النهج الخاص فيما ينقد من شعر، فيقطن لها فيه من جمال وما فيه من قبح، ثم هو يدرك ذلك بطبعه وذوقه، وقد لا يجد إلى تصوير ما في نفسه من شعور بالقبح أو الجمال سبيلًا.
كذلك كان رآي الآمدي في النقد، وعلى هذا الضوء سار في نقد الطائيين، فقد عرض شعرهما هذا العرض، وفلَّاه هذه التفلية، وأخذ يظهر ما فيه من عيوب وأخطاء، ثم وازن بينهما. فيما لهما من روائع وحسنات حريصًا على وحدة الموضوع، إذا تعسَّر عليه مع ذلك مراعاة وحدة الوزن. والقافية وإعرابها. وقد سار نقاد الشعر العربي بعد عهد الآمدي في النقد على هذه الطريقة وذلك المذهب، وصار ذلك الاتجاه خطة علمية مقررة، وأصبح هو النهج الفني لنقاد العرب جميعًا، ومن الواضح، أن هذا النهج
1 / 12
بعيد الصلة عن منهج قدامة بن جعفر الذي فصله في كتابه "نقد الشعر"، والذي بناه على أساس عقلي مع عناية بجميع أصول قدامة من قواعد العقل والمنطق فصدر عن حكمها في النقد، أما الآمدي فقد حكم الذوق الأدبي وحده والروح العربية والاتجاهات الخاصة بالعرب وبلغتهم العربية".
أما تأثر الأمدي بقدامة في بحوث البيان ونظرياته فقليل؛ لاختلاف ثقافة الرجلين واتجاههما. فالآمدي أديب لغوي وقدامة أديب فيلسوف. والآمدي غلطه في كتابه "نقد الشعر١ وهو ينقد رأي قدامه في الطباق وحقيقته ونقده نقدًا لاذعًا تبعه فيه ابن الأثير٢.
ونلاحظ أن الآمدي يذهب إلى أن البلاغة للفظ، وقدامة يجعلها للفظ والمعنى. ويجعل الآمدي مادة الشعر هي الألفاظ ويجعلها قدامه هي المعنى. ولكن الآمدي على كل حال آفاد من نقد الشعر لقدامة واقتبس منه.
منهجه في النقد:
يقول الآمدي عندما يصل في كتابه إلى الموازنة التفصيلية بين الشاعرين "أنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء المعاني التي يتَّفق عليها الطائيان فأوزان بين معنى ومعنى وأقول أيُّهما أشعر في ذلك المعنى بعينه. فلا تطلبني أن أتعدَّى هذا إلى أن أفصح لك بأيهماّ أشعر عندك على الإطلاق فإني غير فاعل ذلك٣.
وهذه بلا شك نغمات جديدة في تاريخ النقد العربي، فالذي ألفناه هو ألا يقف ذَوُو البصر بالتحديد عند تفضيل طبقات من الشعراء على طبقات أخرى على نحو ما رايناهم يجعلون من امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير الطبقة الأولى من الجاهليين، ومن جرير والفرزدق والأخطل الطبقة الأولى من الأمويين، وهكذا بل يعدون ذلك إلى المفاضلة بين أفراد كل طبقة، وفي مقدمة جمهرة أشعار العرب لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب
1 / 13
القرشي، وغيرها من كتب الأدب كثير من المفاضلات التي أقاموها على تعميمات لا استقصاء فيها ولا تجديد.
وأما الآمدي فوجهته وجهة أخرى فهو يبدأ الموازنة بين البحتري وأبي تمام بأن يُورد حجج أنصار كل شاعر وأسباب تفضيلهم له، ثم يأخذ في دراسة سرقات أبي تمام وأخطائه وعيوبه، وأخيرًا ينتهي إلى الموازنة التفصيلية بين ما قال كل منهما في معنى من معاني الشعر يقول: "وأنا ابتدئ٢ بما سمعته من احتجاج كل فريق من أصحاب هذين الشاعرين على الفرقة الأخرى عند تخاصمهم في تفضيل أحدهما على الآخر، وما ينعاه بعضهم على بعض لتتأمَّل ذلك، وتزداد بصيرة وقوة في حكمك، وأن شئت أن تحكم، واعتقادك فيما لعلك تعتقد احتجاج الخصمين به، ونلاحظ أنه يُورد فعلًا حجج كل فريق ورد الفريق الآخر عليه.
لذلك نجد أن الآمدي قد أورد تلك الحجج كما انتهت إليه، وأنها لم تكن من وضعه هو، وأن كل فضيلة فيها هو فضل الجمع والعرض والربط.
وعندما انتهى من هذا الفصل قال: "تمَّ احتجاج الخصمين بحمد الله، وإنما ابتدئ بذكر مساوئ هذين الشاعرين، لأختم بذكر محاسنهما وأذكر طرفا من سرقات أبي تمام وإحالته وغلطه وساقط شعره، ومساوئ البحتري في أخذ ما أخذه من معاني أبي تمام وغير ذلك من غلط في بعض معانيه. ثم بين معنى هذا وذاك فإن محاسنهما تظهر في في تضاعيف ذلك وتتكشف، ثم أذكر ما انفرد كل واحد منهما من معانٍ "ملكها ولم يسلكها صاحبه، وأفرد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه وبابًا للأمثال. ثم أختم الرسالة فأضع عند ذلك بابًا لاختيار المجرد من شعريهما. وأجعله مؤلفًا على حروف المعجم ليقرب متناوله بالاختيار المجرد ويسهل حفظه وتقع الإحاطة به١.
وعلى ذلك نستطيع أن نستخلص من أقواله هذه روحه في الدراسة، فهي روح ناضجة، وروح منهجية حذرة ويقظة، وهو يتناول الخصومة كرجل بعيد عنهما يريد أن يحدد عناصرها ويعرضها ويدرسها. فإن قصر حكمه على الجزئيات التي ينظر فيها، فقد يكون البحتري أشعر في باب من أبواب الشعر أو معنى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعر في ناحية
1 / 14
أخرى، أما إطلاق الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جملة، فهذا ما يرفضه الآمدي ولا يجب أن يطلق على أيهما أشعر للتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في العشر ولا يرى لأحد أن يفعل ذلك، فيستهدف أحد الفريقين، لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر: امرئ القيس، والنابغة وزهير، والأعشى، ولا على جرير، والفرزدق، والأخطل، ولا بشار ومروان. ولا على أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم، لاختلاف آراء الناس في الشعر وتباين مذاهبهم فيه.
فإن كنت أدام الله سلامتك ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري أشعر عندك ضرورة.... وإن كنت تميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة، التي تستخرج بالغوص والفكرة ولا تلوي على غير ذلك، فأبو تمام عندك أشعر، دون أن أفضل أحدهما على الآخر، ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقا في الوزن والقافية وإعراب القافية وبين معنى ومعنى، فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي تلك، ثم أحكم آلت حينئذٍ على جملة ما لكل فيهما، إذا أحطت علمًا بالجيد والرديء".
إذن فالآمدي لا يريد أن يتحيز لأحدهما على غير بينة أو عن هوى، إنما يلاحظ أن من ينتصر لهذا الشاعر أو ذاك إنما يفعل ذلك لميله إلى اتجاه خاص في الشعر، وأما هو فلا يريد أن يفصح بتفضيل أحدهما على الآخر تفضيلًا مطلقًا، ولكنه يقارن بينهما مقارنات موضوعية. ويترك الحكم الكلي للقارئ. وهذا بلا شك منهج علمي سليم. ومذهب رجل يرى المذاهب المختلفة، ويقبلها. ويسجلها، ثم منهج ناقد دقيق يرفض كل تعميم مخلّ ويقصر أحكامه على ما يعرض من تفاصيل.
ونستطيع أن نقرر أن الآمدي لم يقصد إلى التحيز لأحد الشاعرين ضد الآخر، وذلك إذا أخذنا بأقواله السابقة، ولكننا لا نستطيع أن نكتفي بتلك الأقوال فقد تكون روح الناقد الفعلية مخالفة للخطة التي يعلنها، وقد يكون في نقده ما يتعارض مع تلك الخطة.
يجب أن نفرض فرضًا كهذا، وذلك لأن كل تلك الأقوال لم تمنع النقاد اللاحقين بأن يتهموا الآمدي بالتعصب على أبي تمام، حتى بلغ الآمر أن رأى فيه الباحثون المحدثون مقابلًا للصولي في تعصبه لذلك الشاعر، فمن أين أتت هذه التهمة؟ !!
1 / 15
ذوقه الأدبي وتعصبه
للفصل في هذه المشكلة الهامة يجب أن نقرّر:
أولا: أن التعصب معناه الفنِّي هو الانحياز كلية إلى ما تتعصب له، فلا ترى منه إلا الخير، وتقلب سيئاته حسنات مسوقًا بالهوى متحملًا الأسباب لتجميل القبيح والمبالغة في قيمة الحسن، وهذه حالة نفسية لا وجود لها في كتاب الآمدي لا صراحة ولا من وراء حجاب. فهو رجل يتبع في النقد منهجًا محكمًا. فيدرس ما أمامه، معللًا أحكامه، قاصرًا لها على التفاصيل التي ينظر فيها، رافضًا إطلاق التفصيل.
ثانيا: لما أن لم يفضل الشعر الطبيعي السهل على الشعر المتكلف المتصنع. فهذا ليس سيئًا وهو من حق كل ناقد، والذوق هو المرجع النهائي في كل نقد. وإنما يأتي خطر تحكيم الذوق عندما نتخذه ستارًا لعمل الأهواء التحكيمية، التي لا تصدر في أحكامها عن نظر في العناصر الفنية. وإحساس صادق بما فيها من جمال أو قبح، أو عندما يكون ذوقًا غفلًا لم تجتمع فيه" الدربة إلى الطبع، كما يقول الآمدي نفسه. "فالذوق الذي يعقد به هو ذوق ذوي البصر بالشعر، وهؤلاء لا يستطيعون عادة أن يعلِّلوا الكثير من أحكامهم، وفي التعليل ما يجعل الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة، وإن كنا لا نذكر أن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤدِّيها الصفة، على حدِّ قول إسحق الموصلي، كما نؤمن بأنه ليس في وسع كل أحد أن يجعلك في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك من نفسك ولا في نفس ولده ومن هو أخص الناس به سبيلًا، ولا أن يأتيك بعلة قاطعة ولا حجة باهرة، وإن كان ما اعترضت فيه اعتراضًا صحيحًا، وما سألت عنه سؤالًا مستقيمًا. لأن ما لا يدرك إلا على طوال الزمان ومرور النهار والأيام لا يجوز أن يحيط به أحد في ساعة من النهار".
وأخيرًا: فإننا نؤمن بأنه "لن ينتفع بالنظر إلا من يحسن أن يتأمَّل، ومن إذا تأمَّل علم ومن إذا علم أنصف١".
1 / 16
إلى كل تلك الحقائق فطن الآمدي على نحو يدعو إلى الإعجاب، وهو في ذاك يعود بنا إلى التقاليد الأدبية الجميلة، الصادقة النظر كتقاليد ابن سلام، الذي تحدث عن الفروق بين المثقف وغير المثقف أصدق الحديث.
وبالرجوع إلى كتاب الموازنة نفسه نجد أن المؤلف لم يتعصب للبحتري، كما لم يتعصب ضد أبي تمام، وإنما هذه تهمة اتهمه بها النقاء واللاحقون عندما فسد الذوق، وغلبت الصنعة والتكلف على الأدب العربي، ونظر هؤلاء المتأخرون في بعض انتقادات الآمدي لسخافات أبي تمام ووساوسه. ولم يوافقوا على تلك الانتقادات لفساد أذواقهم فقالوا: إن الرجل متعصّب ضدّ أبي تمام أو تعصب ضد البحتري.
الذي لا شكّ فيه أن الآمدي لم يكتب كتابه أيام عنف الخصومة بين أنصار أبي تمام والبحتري، وذلك لأن أبا تمام توفي سنة ٢٣١هـ والبحتري ٢٨٤ هـ والمعركة قد احتدمت فيما يظهر بعد موتهما مباشرة، حتى بلغت أقصاها في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، ونحن وإن كنا لا نملك من الكتب التي أُلفت في تلك الفترة غير أخبار أبي تمام للصولي إلى أننا نجد في هذا الكتاب ما يكفي للدلالة على مبلغ الإسراف والعنف، اللذين صحبا تلك المنازعات حول الشاعرين، فالصولي كما رأينا هو الذي يجب أن يتّهم بالتعصب لأبي تمام، وهو الذي يجب أن يرفض الكثير من أحكامه، بل ومن أخباره، لوضوح هواه وفساد ذوقه، وكثرة ادّعائه.
وأما الآمدي فقد جاء بعد أن كان الزمن قد هدأ من حدة الخصومة، وكان الأدباء قد أخذوا في الالتفاف حول رجل آخر هو المتنبي.
1 / 17
جاء الآمدي إذن بعد تراخي الزمن فوجد عدَّة رسائل في التعصب لهذا الشاعر أو ذاك كما وجد ديوانهما قد جمعا. وتعدَّدت منهما النسخ قديمة وحديثة، ونظر في كل تلك الكتب فوجد فيهما إسرافًا في الأحكام، وعدم دراسة تحقيقية. وضعًا في التعليل أو قصورًا، فتناول الخصومة بمنهج علمي أشبه ما يكون بمناهجنا اليوم. بحيث نعتقد أن هذا الكتاب خير ما نستطيع أن نضعه بين أيد الدارسين كمثل يُحتذى للمنهج الصحيح.
1 / 18
الآمدي وتحقيقه للنصوص الأدبية
نلاحظ أن المؤلف يرجع إلى النسخ القديمة حين يحقق الأبيات، وإلى هذا يشير غير مرة في كتابه فيقول "ص ٨٩" "حتى رجعت إلى النسخة العتيقة التي لم تقع في يد الصولي وأضرابه، وذلك عند نظره في قول أبي تمام.
دار أحل الهوى عن ألمَّ بها ... في الركب إلا وعيني من منائحها
وفي ص: ١٦٥ يقول: "وما رأيت شيئًا مما عيب به أبو تمام إلا وُجد في شعر البحتري مثله ألا أنه في شعر أبي تمام كثير وفي شعر البحتري قليل، ومن ذلك اضطراب الأوزان في شعر أبي تمام، وقد جاء البحتري ببيت هو عنده أقبح من كل ما عيب به أبو تمام، ومن هذا الباب قوله:
ولماذا تتبع النفس شيئًا ... جعل الله الفردوس منه براء
ثم يضيف: وكذلك وجدته في أكثر النسخ جعل الله الخلد منه براء فإن لم يكن هذا فقد تخلص من العيب.
وهكذا نراه رجع إلى النسخ الأخرى لتحقيق النص قبل الحكم عليه، وذلك سواء أكان الشعر من شعر أبي تمام كما رأينا في البيت الثاني أو من شعر البحتري، وهذه أولى مراحل النقد المنهجي السليم المستقيم.
والآمدي كذلك يملك روح النقد العلمي الذي ينظر في صحة نسبة الشعر، وهو في ذلك تلميذ لابن سلام، ومن ثمَّ نراه لا يقبل ما ينسب إلى الأعراب انتحالا، ولدينا في الجزء الذي لا يزال مخطوطًا من الموازنة مثل دالّ في هذا. يتحدث المؤلف بمناسبة أبيات يدرسها عن التقسيم، فيقول: "كان بعض شيوخ الأدب تعجبه التقسيمات في الشعر، وكان مما يُعجبه قول عباس بن الأحنف:
وصالكم هجر وحبّكم قلى ... وعطفكم صد وسلمكم حرب
1 / 19
ويقول: هذا أحسن من تقسيمات إقليدس. وقال أبو العباس ثعلب: سمعت سيد العلماء يستحسنه يعني ابن الأعربي، وليس هو عندي من كلام العرب وهو بكلام المولدين أشبه:
وأدنو فتعصيني وأبعد طالبًا ... رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبي
وشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتخرج من بعدي تتمر من قربي
والآمدي في هذا لا يكتفي بملكاته الخاصة في دراسة هذين الشاعرين والموازنة بينهما، كما لا يكتفي بنسخ السابقين على نحو ما فعل غيره فيمن يروُون أحكام الخبر، أو ينقلون عن السابقين مع إغفال ذكر أسمائهم -لم يفعل الآمدي شيئًا من هذا، وإنما فعل كما نفعل نحن اليوم عندما نريد دراسة مسألة من المسائل، فنجمع الكتب التي وضعت في تلك المسألة، وننظر فيها بنفس ما نقل منها، ونعتمد ما نعتبره كسبًا نهائيًّا ثم نراجع ما نراه خطأ، ونكشف عما ترك من الظلال.
ولقد جاء الآمدي كما قلنا بعد أن كانت الخصومة حول البحتري الذي يمثل عمود الشعر وبين أبي تمام كرأس لمذهب البديع. قد أسالت مدادًا كبيرًا، وكانت الكتب العديدة قد ألفت في كل ناحية من نواحيها، فكان من مقتضيات المنهج الصحيح أن يجمع كل تلك الكتب ويدرسها قبل أن يأخذ هو في الموازنة بينها، وهذا ما فعله.
نظر فوجد "أكثر من شاهد وراوٍ من رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي لا يتعلق بجيده جيد مثله، ورديئه مطروح ومرذول - فلهذا كان مختلفًا لا يتشابه، وأن شعر الوليد بن عبيد الله البحتري صحيح السبك حسن الديباجة ليس فيه سفاسف ولا رديء ولا مطروح، ولهذا صار مستويًا يشبه بعضه بعضًا، فوجدهم قد اختلفوا بينهما لغزارة شعريهما، وكثرة جيدهما وبدائعهما، ولم يتفقوا على أيهما أشعر، كما لم يتفقوا على أحد مما وقع التفضيل بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمن فضل البحتري ونسبه إلى طلاوة النفس، وحسن التخلص ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المأتي، وانكشاف المعنى، وهم الكتاب والإعراب.
1 / 20
والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة. ومنهم من فضل أبا تمام، ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يُورد مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصنعة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفة الكلام، وإن كان كثير من الناس قد جعلهما طبقة وذهب قوم إلى المساواة بينهما وإنهما لمختلفان؛ لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوع على مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ، ووحشي الكلام، فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور، وأبي يعقوب وأمثالهم من المطبوعين أولى، ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة، مستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل ولا هو على حد طريقهم لما به من الاستعارات البعيدة. والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه وعلى أني لا أجد من أقرنه به؛ لأنه ينحط عن درجة مسلم لسلامة شعر مسلم، وحسن سبكه وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب، ولك هذا الأسلوب لكثرة محاسنه وبدائعه واختراعاته، ولست أحب أن أطلق الحكم بأيهما أشعر١.
وعدا كلام ناقد مؤرّخ يرى الخصائص، ويفسّر الظواهر، ويحاول أن يقيم التسلسل بين المذاهب المختلفة، فهو يُخبرنا عمن يفضلون أبا تمام، أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصفة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفة الكلام.
وهو يحدثنا عن مذهب كل منهما "عمو الشعر عند البحتري، والبديع عند أبي تمام".
وهو يربط بين الشعراء المعارضين للبحتري من مذهب أشجع السلمي ومنصور وأبي يعقوب، وأبو تمام يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه. وهذا ليس تعصبًا، وهو وإن فضل شعر مسلم على شعر أبي تمام فإنه لم ينكر على هذا الأخير أكثر محاسنه وبدائعه واختراعاته، كما يرفض أن يطلق الحكم بأيهما أفضل.
1 / 21
النقد الموضوعي عند الآمدي:
بعد أن تحدث الآمدي عن السرقات التي تسببت إلى كل منهما، أخذ في دراسة النقد الموضوعي فتحدث عن:
١- أخطاء أبي تمام وعيوبه وأخطاء البحتري وعيوبه.
٢ محاسن أبي تمام ومحاسن البحتري.
٢ - الموازنة التفضيلية بين الشاعرين اللذين يتتبع معانيهما معنًى معنًى.
وهذه الأبواب ليست متساوية في القيمة ولا في الكعبة، فباب الأخطاء والعيوب يشمل جانبًا كبيرًا من الكتاب "أخطاء أبي تمام" وعيوبه من ص ٥٤ - إلى ١٢٤، وأخطاء البحتري وعيوبه من ص ١٥٠ إلى ١٦٦"، وأما باب محاسنهما فلا يعدو عدة صفحات "من ص ١٦٥ إلى ١٧٤".
وعلى العكس من ذلك بألب الموازنة التفصيلية واستقصاء المعاني فهذا هو الجزء الأساسي من الكتاب. ولقد نشر بعضه "من ص ١٧٤ - إلى ١٩٧ من الكتاب المطبوع" وأما الباقي فلا يزال مخطوطًا وقد قارنَّاه بصورة فوتوغرافية لهذا الجزء الموجود بدار الكتب المصرية ضمن صورة كاملة للكتاب من أربعة مجلدات المجلدان الأخيران يبدأن من ص ١٧٤، ١٨٧. الجزء المشهور، ثم يستمران إلى أن ينتهيا عند باب المديح، أول للجزء المنشور، ثم يستمران إلى أن ينتهيا عند باب المديح، أول ما أبدأ به من مدائحهما ذكر السؤدد والمجد وعلو القدر، ثم ما يخصّ من تلك دون غيرهم من الخلافة وما يتصرف عليه القول من معانيهما مثل ذكر الملك والدولة وذكر ما يختص أهل بيت النبوة من المدح دون سواهم، ومن ذلك ذكر طاعتهم والمحبة لهم والمعرفة لحقهم. وذكر الآلة التي كانت للنبي ﷺ فصارت إليهم، وذكر علو القدر وعظم الفضل، وذكر تأييد الدين وتقوية أمره، وذكر الرأفة والرحمة، وذكر إفاضة العدل، وإقامة الحق، وذكر سداد الرأي وحسن السياسة والتدبير والاطلاع بالأمور والحلم والعقل، وذكر الجلال والجمال وما إليها والجهارة والهيبة، وذكر كرم الأخلاق، وذكر ما ينبغي أن يمدح به من الشجاعة واليأس ... وبالفعل يستعرض الآمدي كل هذه المعاني بشأن
1 / 22
الخلفاء إلى أن ينتهي المخطوط عند الجلال والجمال وما إليهما، والجهارة والهيبة وذكر الأخلاق ولينها. وذكر ما ينبغي أن يمدح به من الشجاعة والبأس، وهذه هي المعاني التي أكثر منها الشاعران، بل كل شعراء العرب، كما لا نجد مدحًا من دون الخلفاء من ولاة وأمراء ووزراء وغيرهم. ممن مدح الشاعر كما ترى في ديوانيهما، وأنها حقا لخسارة كبيرة حين لا نستطيع أن نعثر على بقية الكتاب، خصوصًا وأن الباقي منه يمثل جزءًا كبيرًا جدًّا، وفي الجزء الذي لدينا أدلة وإشارة واضحة للجزء المفقود. منها قول المؤلف في اللوحة ٢٤، وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد الشبياني.
وقد كان مدحًا يضني السرير ... والبهو يملؤه بالبهاء
مضى خالد بن يزيد بن مزيد ... قمر الليالي وشمس الضحاء
ويضيف "وهذا يمر في المراثي".
إذن فهناك باب في المراثي التي قالاها والموازنة بينهما لم يصلنا، وهناك هو أكثر من ذلك ... فالمؤلف يقول "ص ٣٣" وأفراد بابًا لما وقع في شعريهما من التشبيه وبابًا للأمثال، وأختم بهما الرسالة، وأضع ذلك بالاختيار المجرد من شعريهما، وأجعله مؤلفًا على حروف المعجم. ليقرب من متناوله ويسهل حفظه، وتقع الإحاطة به إن شاء الله. وليس لدينا في الجزء المنشور ولا في المخطوط هذان البابان عن التشبيه والأمثال فهما لا شك ضمن الجزء المفقود وهذه كلها مسائل شاملة.
1 / 23
الفصل الثاني: تبويب الكتاب عند المؤلف:
أبواب الكتاب:
وكتاب الموازنة عند أبي الحسن الآسدي مقسم إلى اثنى عشر قسمًا. وكل قسم ادَّعاه المؤلف باب.
١- فالباب الأول "من ص ١ - ص ٤٦" وفيه أورد المؤلف محاجة مفندة ومدعمة بالأدلة والبراهين، ويبيّن كلًّا من أصحاب أبي تمام المتعصبين له وأصحاب البحتري المفضلين إياه. ومنهم المؤلف الذي ينتحل الأعذار للبحتري بلسان مرهف حاد.
٢- والباب الثاني من "٤٦ - ١٢٠" وفيه أحصى الآمدي سرقات أبي تمام الشعرية، وذلك بعين الباحث المنقب.
٣- والباب الثالث من "١٢٠- ٢٢٦" وهنا عدَّد الآمدي وندَّد في شيء من التحامل والتعصب على الرجل من أخطاء أبي تمام في الألفاظ والأساليب والمعاني.
٤- والباب الرابع من "٢٢٨، ٢٧٢"، وذكر فيه أخطاء أبي تمام من قبيح الاستعارات ومستكره الجناس، ومرذول الألفاظ، ومستهجن الطباق وسوء النظم وفساده، والحق يقال أن مثل أبي تمام في شعره كمثل القاضي الفاضل في نثره فلقد أولع كلاهما بفن البديع حتى خرجا إلى التكلف الممجوح.
٥- والباب الخامس من ٢٧٢ - ٢٧٥" وفيه أخطاء أبي تمام من الزحاف واضطراب الوزن، وكأني بثلاثة أرباع الموازنة قدحًا في الطائي.
٦- الباب السادس من ٢٢٧- ٣٤٧" وفيه أحصى سرقات البحتري من أبي تمام وغيره.
٧- الباب السابع من "٣٤٨- ٣٧٩" وذكر فيه أخطاء البحتري في المعاني التي دافع عن الكثير منها.
1 / 25