Labo Haween Ah Oo Ku Jira Hal Haweenay
امرأتان في امرأة
Noocyada
وتسمع صوت أبيها وهو جالس في الصالة، قابع في مقعده الأسيوطي، فتخفي الورقة تحت كتاب المطالعة، وتقرأ من الكتاب بصوت عال، يرن في أذنها كصوت واحدة غيرها، واسمها فوق الغلاف يبدو تحت عينيها غريبا، كاسم تلميذة أخرى، مطيعة ومؤدبة، تسمع الكلام وتعمل الواجب، وتدفن حقيقة نفسها في طيات الورقة المختفية.
منذ وعت الحياة وهي تسأل نفسها السؤال: لماذا كل الأشياء التي تحبها محرمة؟ حتى الطعام يفرضون عليها أنواعا منه لا تحبها، تدسها أمها في فمها، وحين تستدير تبصقها في الصحن. وأبوها بينه وبين خطوطها عداء، ما إن يراها فوق ورقة حتى يمزقها أو يكورها ويلقي بها بعيدا مع القمامة ونفايات البيت.
كالحاجز الطويل الضخم كان أبوها يقف بينها وبين نفسها الحقيقية، يحول بينهما بضخامة جسمه، وصوته القوي الخشن، وكفه الكبيرة وعينيه الكبيرتين القابعتين في مدخل البيت. حين يرن صوته: بهية! تدرك أنه ينادي واحدة غيرها، لكنها ترد وتقول: نعم، ويسألها: عملت الواجب؟ وترد بصوت مطيع مؤدب: نعم. ويتصل صوتها إلى أذنها بكلمة نعم، فتعلم عن يقين أنه ليس صوتها.
حين يختفي أبوها من الصالة، وتصبح في حجرتها وحدها تستطيع أن تسمع صوتها الحقيقي، وتستطيع أن تحدد ملامحه ونبرته الخاصة، كما تحدد ملامح وجهها، وبأصابعها الرفيعة تخلع التكت البيضاء بالاسم المستعار من فوق الغلاف الأزرق، وبسن الريشة فوق الصفحة البيضاء تحدد كل الأشياء كما تراها على حقيقتها، وحين ترسم أباها تصنع له عينين حمراوين وشاربا طويلا أسود وكفا كبيرة وأصابع تلتف حول عصا طويلة.
لم يكن لأبيها شارب طويل أسود، لكنها في ذهابها وعودتها من المدرسة كل يوم كانت ترى الشرطي قابعا في كشكه الخشبي على ناصية الشارع. لم تكن ترى من وجهه إلا شاربا طويلا أسود، وحين تقترب من مكانه تسرع الخطى وأحيانا تجري، وتظل تجري حتى تصل البيت.
أما العصا الطويلة فكانت تهتز أمام عينيها كل صباح وهي جالسة وراء درجها الخشبي في الفصل، وصوت المدرسة يرن في أذنيها بنبرة حادة كنبرة أبيها: بهية شاهين! عملت الواجب؟ في اللحظة الأولى تظن أن المدرسة تنادي واحدة غيرها، وتطبق شفتيها في صمت، لكن الصوت الحاد يرن مرة أخرى: بهية شاهين. فتنتفض واقفة وترد بالصوت المؤدب المطيع: نعم.
اليوم الوحيد الذي كانت تحبه هو يوم الجمعة، فهي لا تذهب إلى المدرسة، ومن السرير الصغير تنزلق بخفة إلى كرسيها الأحمر، ومن وسط الكراسة تشد ورقة بيضاء، وتلتف أصابعها الصغيرة حول الريشة، وتحرك يدها فوق الورقة وتصنع خطوطها، وأحيانا تخرج من طيات حقيبتها قلما أحمر، أو أزرق، أو أخضر، اشترته بمصروفها من الدكان المجاور للمدرسة، أو استعارته من زميلة، وتلون الخطوط، وتصنع للشجرة أوراقا خضراء، وللبحر ماء أزرق، وللدم لونا أحمر، كيف عرفت أن الدم لونه أحمر؟
أول بقعة دم حمراء رأتها في حياتها كانت فوق سروالها الصغير الأبيض، ترسمها كالدائرة الحمراء القانية وسط الصفحة البيضاء، وعينا الطفلة الصغيرة دائرتان واسعتان مذعورتان، وجسمها صغير ورفيع كجسم العصفور يرتجف وراء الجدار، وعيون كثيرة كالدوائر الواسعة تحملق، وتدفن سروالها بأصابعها المتورمة الصغيرة في حفرة وراء الجدار، وتسير في الشارع بغير سروال، تنفذ الريح الباردة بين ساقيها تحاول أن ترفع فستانها عن فخذيها، لكنها تشد الفستان بيديها الاثنتين وتقاوم الريح، وتسير فوق الشارع الأسفلت تتدلى من بين أصابعها الصغيرة الحمراء حقيبة جلدية منتفخة بالكراريس وكتب الحساب والمطالعة.
وحين تقترب من الكشك الخشبي تسقط من بين ساقيها فوق الأسفلت نقطة حمراء قانية، تفترش الأرض على شكل دائرة حمراء، تتسع وتكبر وتصبح في حجم قرص الشمس، يحملق فيها الشرطي بشاربه الطويل الأسود، ويمد أنفه من وراء الكشك متشمما رائحة الدم، وتلقي حقيبتها على الأرض وتجري لاهثة إلى البيت. •••
حركت رأسها الثقيل فوق الوسادة ورأت الحقيبة الجلدية المنتفخة بكتب التشريح فوق مكتبها الصغير، وفوق المكتب جمجمة، وكشاكيل، وكوب ماء فيه وردة حمراء. نهضت وقربت أنفها من الوردة، لمحت بطرف عينها النتيجة معلقة على الجدار، فتذكرت موعد الامتحان. رصت الكشاكيل والكتب أمامها وجلست تحملق في الجمجمة، جمجمة إنسان مات منذ سنين، اشترتها من فراش المشرحة بثلاثة جنيهات. كانت في العام الماضي بجنيه واحد، لكن الأسعار ارتفعت والجثث شحت وأصبح لها سوق سوداء، يشترك الحانوتي مع فراش المشرحة، مع خفير المقابر، وحين يدهس الترام الجسد المجهول الذي عاش ومات دون أن يعرف لنفسه أبا أو أما «يسمونه العديم الأهلية» يبرز على الفور الحانوتي وفي يده الأب، أي أب، يؤجره بالساعة، ويلقي الأب برأسه فوق الجسد الميت ويبكي بدموع مزيفة، كدموع الآباء الحقيقيين، ويتسلم الجثة ويوقع عليها باسمه وتصبح ملكه الخاص، يصنع بها ما يشاء، تماما كما يمتلك الأب ابنه ويصنع به ما يشاء.
Bog aan la aqoon