Naag ka timid Kambu Kdis
امرأة من كمبو كديس
Noocyada
إهداء
بت الجزار
العاشق
امرأة من كمبو كديس
حذاء ساخن
الحكاية الكاملة لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!
صاحبة المنزل
محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها
ضلالات
أسنان لا تغني
Bog aan la aqoon
الأخدود
إهداء
بت الجزار
العاشق
امرأة من كمبو كديس
حذاء ساخن
الحكاية الكاملة لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!
صاحبة المنزل
محاربة قديمة تحسم المعركة وحدها
ضلالات
Bog aan la aqoon
أسنان لا تغني
الأخدود
امرأة من كمبو كديس
امرأة من كمبو كديس
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى روح الجميلة، النظيفة، النقية، الشفيفة، مريم بت أبو جبرين، أمي.
عبده بركة
بت الجزار
Bog aan la aqoon
بدأت أفكر في الموضوع بصورة قاسية بعد أن تحرك الباص مباشرة متجها نحو الخرطوم، الأفكار المظلمة تنتابني بين لحظة وأخرى لدرجة أنني تمنيت أن أجدها قد توفيت ولو في حادث سير. كنت لا أعرف كيف تلتقي أعيننا بعد أن حدث منها ما حدث، هل سينتابني ذلك الشعور الحلو الذي دائما ما يسيطر علي وأنا أراها وهي تكبر يوما بيوم وتزداد عقلا وخبرة في الحياة وجمالا، ويتجلى وجهها الأسود الحلو الناعم براءة؟
كنت حينها أحس كما لو أن كل خلية في جسدي تتجدد وأنني أكثر طمأنينة وأقرب للحياة مني إلى الموت، بالرغم من تقدم العمر وأمراضه الكثيرة، وأكثر ما يعذبني فكرة أنها خانتني، خانتني أنا بالذات، ولكني أيضا أفكر في الأمر من جانب آخر، من جانبي أنا؛ لأنني ما كنت أنظر لعلوية كامرأة أبدا، يبدو أنني أضعها في مكانة رجل ما فوق الأربعين كامل النضج ومستقيم السلوك، أما أن تذهب علوية مع رجل غريب إلى خلوة وأن يغويها أو يلمسها مجرد لمس، بكامل رضاها ودون أن تحس ولو بعقدة الذنب أو خيانة الثقة التي أعطيتها إياها ... وأن ... لا ... أمر لا أصدقه!
كيف يتسنى لعلوية ابنتي أنا، التي أنشأتها منشأ سليما وربيتها من مال حلال اكتسبته بعرق جبيني وأودعت من أجلها مالا في البنك تسحب منه لمصروفها كما شاءت، أن تتزوج زواجا عرفيا، أكون أنا آخر من يعلم، كل القرية تعرف ذلك، جميعهم، جميعهم إلا أنا! لماذا تجعلني صغيرا تافها أمام الناس وأنا ما يملأ عيني تراب الدنيا كلها؟ كيف تنظر إلي؟ ماذا تقول؟ هل تنكر ذلك؟ أتبكي؟ ربما.
هي نفسها ضحية لذئب لا يرحم، لقد قرأت كثيرا في الجرائد عن زواج الطالبات العرفي، ولكني أحلته إلى أسباب مادية، إطلاقا لم أفكر لحظة في علوية، أن تكون علوية واحدة من هؤلاء البنات المطلوقات - كما كنت أسميهن، وما زلت - البنات اللائي عجزت أسرهن في توفير مصروفهن أو تربيتهن تربية كريمة تكسبهن العفة أو ربطهن في البيوت.
لم أستشر أحدا في كيف أتصرف، لقد وضعت سنوات خبرتي الطويلة في العمل المدني والعسكري وتجاربي الحياتية ومخزوني المعرفي موضع التحدي، فإذا لم أتمكن من عبور هذه المحنة وحدي بكل هذه المكتسبات فلا فائدة من الحياة التي عشتها.
هذا التشجيع للنفس لم يمنع الضعف والانكسار الذي أحس به الآن والخوف، نعم الخوف الحقيقي من أنني أقوم بفعل قد يحسب ضدي؛ بل قد يسيء إلي وإلى أسرتي وآخرين غيري، في الحقيقة كنت مرتبكا عكس ما أبدو عليه في الظاهر، بحثت في جيوبي وجدت أنني أخذت ربطة من المال عشوائيا تحتوي على خمسمائة ألف جنيه سوداني، حسبتها مرتين، انقطعت دائرة البلاستيك التي تحيط بها، أدخلت المبلغ كله في الشنطة محتفظا برباط البلاستيك المقطوع.
اصطدمت أصابعي بشيء صلب بالداخل، إنها السكينة الكبيرة، دخلت الشنطة نتيجة للاستعجال أو الإحساس الداخلي بأنني قد أحتاج إليها، أو ربما دسها لي شخص فكر في الأمر بطريقة مختلفة، أخذت ألهي نفسي بلعبة قديمة كنا نلعبها في طفولتنا مستخدما رباط النقود المقطوع، كنت في حاجة لأي فعل يلهيني عن التفكير في علوية، عندما أجدها سأفكر في الحلول في ساعتها، لا أحب أن يملي علي أحد رأيه حتى ولو كان أخوها.
في المقعد المجاور امرأة أربعينية غير متزوجة، طوال الطريق تقرأ مجلة حواء، يفوح منها عطر قوي، تسرق النظرات إلى لعبتي من وقت لآخر، وكنت أهتم بها، ولكنني أخفي ذلك بصورة جيدة، كما أنني لا أحب التحدث والونسات أثناء السفر؛ لأن السفر فرصة جيدة لكي أخلو إلى نفسي دون أن يزعجني أحد، قد أنام، النوم أيضا لا يتوافر في حياة سريعة ملآنة بالكد والجري وراء الرزق، ولكن من أجل من؟ - بتكلم معاي. - منو؟ أنا آسف، رأسي ملآن بالمشاغل وظاهر علي قاعد أكلم نفسي، معليش، أزعجتك.
قالت وهي تلم ثوبا أنيقا إلى جسدها: ولا يهمك؛ الناس كلها مشغولة.
حاولت النوم حتى لا أتكلم مثل المجنون، وضعت رأسي على المقعد الأمامي، أغمضت عيني، أخذت أفكر: أين تكون علوية الآن، في أي وضع؟ في النوم نزلت علي ملائكة الأسئلة بجواب خطير. •••
Bog aan la aqoon
نزلت عند الجامعة بعد أن أكد لي سائق التاكسي أنني سوف أجدها أو أجد صديقاتها في ذات المكان الذي أنزلني به، وفعلا وجدتها بسهولة ويسر، وربما هي التي وجدتني، حين رأتني من مسافة بعيدة وأنا أمر أمام الكافتيريا هرولت نحوي ومعها صديقتان، وجدت نفسي دون شعور مني أنظر أولا إلى بطنها، بصورة غير طبيعية، وربما لاحظن ذلك، علقت الصديقتان على أنني أبدو كما لو كنت أخا لعلوية وليس أبا، يشرن إلى مظهري الخارجي وما يتوهمنه من صغر السن، كن يتحدثن باستمرار، أسال نفسي أنا أيضا باستمرار: كم منهن متزوجة زواجا عرفيا، كم منهن يدعرن، كم منهن عفيفات؟ عندما خلوت بعلوية، فاجأتها دون مواربة أو مراوغة: أنتي متزوجة زواجا عرفيا مش كده؟!
قالت - وقد انهارت تماما من هول المفاجأة: عرفت! - نعم، عرفت.
وبحركة سريعة سقطت على رجلي، أخذت تبكي بصورة جعلتني أتعاطف معها، وربما أقف في صفها، إذا كنت أكثر صراحة أقول إنني لمت نفسي، بدت لي طفلة في عهدها الأول، تجمعت بعض الطالبات، سألن إذا كان قد توفي أحد أفراد الأسرة أو أن هناك خبرا أسوأ، ولكن لم نجب بشيء. طلبت منهن أن يتركننا سويا لبعض الوقت، لم تستطع أن تقول شيئا، كانت تنظر إلى الأرض وتبكي في صمت، قلت لها: انخدعت فيك يا علوية، انخدعت.
قالت بصوت مبحوح: كنا حنعلن زواجنا قريبا جدا، ولكن كل شيء بإرادة ربنا. - القرية كلها تعرف، ما عدا أنا فقط، الجميع يضحك علي.
سألتها: وين الزول ده؟ •••
قالوا لي إنه في الحصة الآن، بعد ربع ساعة يمكنني مقابلته، شربت الماء البارد جلس قربي خفير ثرثار، ما ترك شيئا لم يسألني عنه، لم ينجدني منه سوى الجرس الذي دق كمطرقة في رأسي، قال لي الخفير وهو يشير بفمه ويده وعينيه نحو أستاذ يمر أمامنا: ده هو أستاذ سالم.
فالتفت الأستاذ إلي ومضى ظانا أنني أب لأحد التلاميذ، ولكن الخفير صاح فيه مناديا: الزول ده من الصباح منتظرك، يا أستاذ.
طلب كرسيا، جلس قربي في البرنده سأل ماء من أجلي، كانت يده ملآنة بالطباشير ويبدو مشغولا جدا؛ حيث تتحرك عيناه هنا وهناك بحثا عن مفقود ما، كنت أحاول أن أجد ملمحا فيه يدل على فعلته، ولكنه كان شخصا عاديا مثله مثل كل الناس، قدرت عمره وأخلاقياته وجزره العرقي أيضا، قلت له معرفا بنفسي: أنا من قرية الدومات، هل تعرف زول من القرية دي؟
فكر قليلا، قال: لا. - علوية، علوية، هي من قرية الدومات. علوية! ما بتعرف علوية؟
قال باستغراب: علوية، منو؟ - علوية إبراهيم عثمان وردان. - آه، نعم علوية اللي بتدرس في كلية التربية، أيوه قاعدة تحضر عملي هنا عندنا في المدرسة، في شعبة الرياضيات، أنا رئيس الشعبة.
Bog aan la aqoon
قلت له: بس!
قال: تقصد شنو؟ - أنت متزوجها زواجا عرفيا مش كده؟ «قلت معتمدا الصدمة والمفاجأة كطريقة لها فائدة كبيرة في الحصول على اعتراف المجرمين.»
قام من الكرسي ثم جلس، قال للخفير الذي أرخى أذنيه وأخذ يستمع للحوار بتلذذ تام: امش من هنا، امش شوف شغلك.
ثم قال موجها كلامه لي: ده كذب، علاقتي بعلوية زي علاقة كل المدرسة بها، لا زواج ولا غيره، أنا شخص محترم وأستاذ، وما عندي وقت للهضربا اللي بتهضربا دي، أنت ذاتك منو؟
قلت له ببرود: أنا إبراهيم وردان لواء شرطة بالمعاش، أعمل في سعاية الماشية، برضو بذبح، بذبح باستمرار، عندي جزارة صغيرة في البيت، في وقت الفراغ بشتغل معراقي، عارف معراقي يعني شنو؟ لحظة.
أدخلت يدي في جيبي، أخرجت ورقة بيضاء صغيرة مفتولة، في حجم رأس الأصبع الصغير، في شكل إنسان. - ده أنت سالم علي عباس اللي والدتك نفيسة جبرين العيش.
هززت الشيء أمامه وقمت بوضعه في الشمس، كان يحملق في الشيء بتركيز واهتمام بالغ، وبعد ثوان معدودات هرب الشيء من الشمس بتلقاء نفسه واستقر في الظل، كررت العملية ثلاث مرات. أخرجت خيطا طويلا من الشنطة - النوع الذي يستخدم في صيد الأسماك - بالسكينة الكبيرة قطعت منه ما يقارب ربع المتر، أعدت السكينة في الشنطة، أحطت بالخيط عنق الشيء في شكل أنشوطة، قلت له وهو ينظر في ذهول: ده أنت سالم ودي نفيسة.
وقمت بجذب طرفي الأنشوطة، فمسك عنقه وصرخ في جنون صرخة جمعت كل المدرسة، في دقائق أحاطوا بنا، قلت له: في خمس ثوان فقط حاتموت، أها عرفت معنى معراقي.
قال بصوت مبحوح بينما يتصبب عرقا: كنت حاتزوجها علنا في الإجازة.
انتبهت لكف تربت في كتفي وصوت وقور هادئ: أنا مدير المدرسة، تعال يا حاج إبراهيم، تعال معي إلى المكتب.
Bog aan la aqoon
أخذ بيدي إلى مكتب فسيح تفوح منه رائحة الكتب وعبق الطباشير، أكد لي المدير أنه يعلم بزواج سالم من ابنتي عرفيا، وهو منذ البداية ضد الفكرة، لكنه أيضا أثنى على سالم وخلقه القويم وأنه رجل مسئول، قال: بإمكانه أن يلعب مع البنت، لكنه فضل الزواج العرفي، أكد لي أنه سيلزم أستاذ سالم على إعلان زواجه والآن، وأضاف بحماس: إنه بمثابة ابني. •••
قال المدير - وقد فرغنا من الاحتفال الصغير الذي أقيم في بيته احتفاء بإعلان زواج ابنتي علوية للأستاذ سالم: نحن الآن أصدقاء وأهل، وأنا عندي طلب واحد منك يا حاج إبراهيم، طلب بسيط جدا! - شنو، اطلب أي شيء بسيط أو غير بسيط. - عايز الموضوع بتاع العروق ده، والله أنا عندي مشكلة في الدنيا ما بيحلها إلا الشيء اللي عندك ده، اللي حل مشكلة بتك علوية، حايحل مشكلتي.
قلت له: أنا موافق، ولكن توعدني ما تحدث أي شخص كان لما يدور من حديث بينا الآن، وعد شرف.
قال : أوعدك وعد شرف.
قلت له: الموضوع بسيط، يحتاج إلى رباط بلاستيك النوع اللي بيستخدم في ربط القروش، وورقة صغيرة مقوية وخيط متين، وأستاذ رياضيات جبان، ومدير مدرسة عنده مشكلة معقدة لا أكثر.
يوليو 2004
العاشق
أستاذي العزيز جلال الجميل
أولا اسمح لي أن أبدأ خطابي هذا بقول تعلم أنه مأثور عندي: «قال سيدنا معاوية لابنه يزيد: يا بني من حاول خداعك فانخدعت له، فقد خدعته.» أستاذي، لقد انشغلت كثيرا عنك ولكن تعذرني دائما لعلمك بمشاغل الجندية وغلبتها الكثيرة، ولكني سأواصل ما بدأته في رسائلي السابقة واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. فأنت فوق كل ذلك أستاذي، ولكني أرفض بشدة؛ بل أقولها لك صراحة: إنني لا أتسامح في أن تنظر إلى تركي للمدرسة وانخراطي في صفوف الكلية الحربية كمرحلة جديدة في تطور شبق القتل عندي.
وكما عبرت عن ذلك في رسالتك الأخيرة بالقول: «حيث تتاح لك بشكل منظم قتل شخص آدمي بدمه وبلحمه، بدلا من قتل الكلاب والقطط والأشجار، والتي كنت تسلخها من قشرتها وتدعها تموت تدريجيا في ألم تستمتع به دائما.» هذا يا أستاذي يجانب الحقيقة، بل هو محض افتراء، فدخولي للكلية الحربية كان دافعه وطنيا من الدرجة الأولى فأنت تذكر - بل شرحت لنا ذلك عدة مرات في الفصل - حوادث ديسمبر 1959م، والذي أسمته الصحافة بديسمبر المشئوم - كما قلت لنا بفمك - حيث أحاط الأعداء بالبلاد، من أمريكيين وإسرائيليين من جانب وما يدعمان به المعارضة الليبية بقيادة الخائن معاوية الدكين، وكوبيين وسوفييت من جانب آخر. وهما كما يعرف الجميع يقفان بكل وقاحة مع الحزب البائد أو ما يسمى بحزب العمال بقيادة ذلك الكافر أبو روف سليمان.
Bog aan la aqoon
ولا أحد ينسى ما تقدمه العراق وسوريا والقاهرة لليسار ماديا ومعنويا واستخباراتيا، وتذكر كيف انحاز الشارع كله - بما فيه أنت - في لحظة واحدة، لحظة صدق وطنية غالية إلى الحكومة الوطنية متمثلة في شخص الرئيس، مؤيدة له كحاكم أوحد للبلاد وقائد نهائي أبدي للجماهير. ولست وحدي من ترك المدرسة وانضم للجيش، آلاف مؤلفة من الشباب والعمال وكبار الموظفين وأساتذة الجامعات المنعمين تركوا مكاتبهم المكيفة والوجبات الساخنة واتجهوا إلى جبهات القتال في الشرق والغرب والجنوب والشمال، حيث كانت البلاد في حالة حرب مع الكثير من دول الجوار وكثير من المتمردين العملاء المحليين، إذا كان هذا هو الحال مع المواطنين - بالتأكيد كانت هناك قلة ضئيلة تمثل طابورا خامسا، فئة خائنة أتذكر - كيف تتهمني بشبق القتل لكوني وقفت مع الحق؟!
حسنا كما كتبت لك سابقا، الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وسأبرر لك كل الأشياء من وجهة نظري أنا أيضا وسوف لن تظلمني. أول شخص قتلته، ولو أن كلمة قتلته بما فيها من قسوة لا تعبر عما فعلت به بالضبط، إلا أن قاموسي اللغوي - عكسك تماما - ليس به كلمات أخرى أكثر تعبيرا، المهم أنا متأكد بعدما تقرأ خطابي هذا ستجد كلمة أبلغ وأدق؛ كان أسيرا هزيلا، في الواقع لم نهتم باسمه فليس للأسرى أسماء، قبض عليه عساكري بعد معركة حامية الوطيس، خرجنا منها منهزمين، وبينما كنا ننسحب فارين - وأنا أكتب بالصراحة التي علمتني إياها، أي: أكتب الأشياء كما هي - إذا بنا نعثر على هذا الأسير مختبئا في خندق صغير وقد فوجئ بنا، رفع يديه مستسلما مستأمنا على حياته، طبعا مقابل التخلي عن حريته.
فأمرت بتقييد يديه وحراسته وأخذه معنا أسيرا، ولكن كنا مرهقين ومنهكين من الجري فوق الصخور والأعشاب الشوكية، وصندوق الذخيرة الأخير والوحيد يهد أكتاف العساكر ويتعبهم، فكر رقيب عجوز - دائما ما أنسى اسمه - بأن نفك وثاق الأسير ونحمله صندوق الذخيرة ونتركه يمشي أمامنا، هكذا كان سلفه يفعلون بالأسرى في الحروب، وكان دائما يقول: الأسرى ديل ما ينفعوا لشيء غير استعمالهم كحمير.
كانت فكرة صائبة وموضوعية أثنى عليها الجميع، وأنا لست إلا واحدا من الكتيبة، فربطنا صندوق الذخيرة على ظهره بحبل يمر تحت إبطيه، ولو أن الأسير كان هزيلا إلا أن بعظمه قوة بغل، ربما وهبها الخوف له، الخوف من الموت؛ لأنه إذا فشل في حمل الصندوق يعلم تمام العلم أنه ميت لا محالة، فإذا لم يصلح لشيء فمن الأحسن (يتفسح).
في الحقيقة كان المشي على الأشواك وبقايا الشجيرات والأعشاب الكثيفة متعبا عندما أجبرنا عدة مرات على خوض برك الطين ومرة أخرى أجبرنا على طلوع جبل صغير، وكان من حقه أن يتعب ضعف؛ بل أضعاف تعبنا نحن، طلب أن نسمح له بأخذ بعض الراحة؛ لأن الحبل الذي أدمى كتفه وإبطيه أصبح لا يطاق وقال: الحبل قاعد يضبحني ضبح.
فانتهرته بلهجة عسكرية آمرة أن يجد في السير: وإلا.
كان يمشي كالسكران، يشوط الحجارة ببوته ويخوض الوحل يقع، يرفعه العساكر على قدميه، يقع، يرفعونه، نهدده، يقع ويقوم مثل السكران أخيرا تكوم تحت شجرة مانجو كبيرة وأخذ يشخر من التعب مثل الثور المذبوح، العرق يملأ ملابسه كلها أما وجهه كأنه جمام، ولكن الغريبة فمه جاف وأبيض، كان شكله مزريا وقبيحا وبدأ يؤثر على نفسيات العساكر، فقلت له: قوم ولا نملاك نار!
وشلته جندي في بطنه لحكمة كان يعرفها العساكر بأن الشلوت في البطن مفيد للرأس القوي.
ضربة عسكري همام آخر على وجهه لحكمة أخرى لا أعرفها أنا، وصرخ واحد في أذنيه لحكمة عادة لا يفصح عنها ضباط الصف، وعندما تكلم قال: الموت أحسن، أحسن الموت، أنتم بشر ولا حيوانات!
وهنا لا بد أن أستخدم سلطتي العسكرية وإلا تعطلنا عن الانسحاب، وربما يلحق بنا العدو، فأمرت بالعد من واحد إلى عشرة كفرصة أخيرة له في أن ينهض ويشيل صندوق الذخيرة وينسحب معنا إلى أقرب نقطة ارتكاز، وإلا أمطرته بالرصاص.
Bog aan la aqoon
وأخذ واحد من الضباط المشهود لهم بالأمانة والصدق يباشر مسألة العد، بينما جلس البقية يستطلعون وهم يشاهدون الموقف عن كثب وأعرف أنهم خائفون، وكل واحد منهم في سره يحمد الله أنه لم يكن في محل الأسير، والذي أصبحت حياته الآن بين رقم ما وعشرة، أما هو فبدا وكأنه ذهب في غيبوبة عميقة ودائرة من النعاس يصعب الانفكاك عنه، مستهينا بالتهديد. - ثمانية، تسعة، عشرة.
فصرخت فيه منفعلا: يا وسخ، خذ.
طاخ، في منتصف رأسه تماما، إطلاق الرصاص في منتصف الرأس أصبح سمة مميزة لأسلوبي في الإعدام الشرعي. نعم، العبارة المناسبة أو البديلة القتل هي (الإعدام الشرعي)، وجدتها، لقد كنت دائما تثني على أسلوبي الأدبي في الإنشاء، ولكن الجندية لم تترك شيئا في الرأس، حسنا؛ لدهشتي ودهشة جميع العساكر وربما لدهشته هو نفسه أن نهض ومشى سبع خطوات عسكرية سريعة ومقنعة لحد بعيد، ثم وقف للحظة طويلة وممطوطة وقفة مرعبة وصامتة، صمت حقيقي، ثم بدا وكأنه بصدد أن يلقي تحية عسكرية للواء عظيم غير مرئي قبل أن يسقط فجأة، سقطة عسكرية بارعة على وجهه ويموت، منهيا بذلك عرضا جنائزيا جميلا.
انفجر الجميع بالضحك في لحظة واحدة، هي اللحظة ذاتها - اسمح لي أن أكتب كل شيء - التي تبلل فيها سروالي بسائل حار خرج في لذة مجنونة ورجفة لا توصف، أعترف أنه موت ممتع وبهيج أيقظ في نفسي لذة قديمة منسية، ولكنها ليست كشهية سلخ لحاء الأشجار ولا صب الماء الحار على النمل أو قتل القطط؛ حتى لا يلتبس عليك الأمر.
أستاذي العزيز جلال
في الواقع لم أحس ولو للحظة عابرة بالندم؛ حتى عندما عبثنا في جيوبه ووجدنا صورا لأفراد أسرته وصورة اتفق الجميع على أنها زوجته أو خطيبته أو حبيبته أو حتى داعرة ما، له علاقة حميمة بها، سيدة طويلة لها ضفائر مسدلة على كتفيها، ترتدي فستانا قصيرا يظهر ساقها وردفيها - ما أزال أحتفظ بالصورة، وعندما نلتقي اسألني أن أريك إياها - واتضح لنا أنه شخص مثلنا له من ينتظره ويحبه وربما هو عائل لأسرة كبيرة.
بالرغم من ذلك كنت أتمنى وبكل صدق أن يحيا مرة أخرى فأقتله، إذا كان باستطاعته القيام بذلك الاستعراض الممتع مرة أخرى، أن يجعل جنازته تمشي مشيتها العسكرية الفريدة، ما الذي يجعلني أندم على قتله! لقد استخدمت حقا مشروعا تجاهه، فقتل الأسير أمر مشروع وخيار جائز لا اختلاف عليه. وهو نفسه اختار الموت بقوله: «الموت أحسن.» ولقد أساءنا واصفا إيانا بالحيوانات، أيحق له أن يصف الإنسان الذي كرمه الله بالحيوان؟ وفوق ذلك كله أعطيناه فرصة كافية للتراجع عن إصراره على البقاء تحت شجرة المانجو، وذلك بالعد من واحد إلى عشرة. ذلك زمن كاف لشخص يواجه الموت لكي يتخذ قرارا في صالح بقائه حيا!
أستاذي العزيز
أنا حينما أصوغ هذه المبررات أريد أن أؤكد لك شيئا واحدا وهو أن قتلي لهذا الأسير ليس إشباعا لغريزة حيوانية دنيئة أجدك تتهمني بها من وقت لآخر، إن قتلي الشرعي له ليس إلا تمرين عادي وطبيعي وربما - بشيء من التحفظ - عاطفيا، أضيف أيضا أنه بعد موته ارتفعت الروح المعنوية للعساكر. وبالرغم مما كانوا يشعرون به من أرق وعطش وجوع، حملوا صندوق الذخيرة على أكتافهم، وكأنه علبة كبريت فارغة وأخذوا ينشدون أجمل المارشات العسكرية، وهم يقفزون على برك الطين، ويمشون على نتوءات الصخر الحادة وبقايا الأشجار الشوكية المتساقطة على الأرض مثلهم مثل الغزلان خفة ورشاقة وحيوية؛ خذ الأمر من وجهة نظر عسكرية وجند منسحبين ليس من وجهة نظر أستاذ متقاعد يقضي وقته في حياة آمنة داخل منزله، وقدر أيهما أفيد؟!
هل كان علينا أن نتركه عبئا يغرق أنفسنا في طين الإحباط واليأس - وربما وقعنا تحت الأسر - لكسله وعدم مبالاته؟!
Bog aan la aqoon
ولو أنني بدأت أحس بالغثيان وربما نتيجة المضايقة التي سببها لي السائل - والذي أخذ يخر على ساقي - يغمرني شعور أنه سيلان من الدم، كنت أتحسسه بين الحين والآخر بأناملي آخذا عينة منه لأتفحصها بنظرة سريعة ثم أمسحها على بنطلون الكاكي - في الحقيقة ما كنت أرى ما بأصبعي - إلا أنه بعد تلك الحادثة نفذت إعداما شرعيا في سيدة وثلاثين رجلا، وكانوا يموتون بصورة لا تتعدى المضحكة العادية والمتعة الجنسية المعروفة، ما عدا رجل واحد اسمه «تومي كريستو».
في السابع من مايو 1985م رقيت إلى رتبة عميد وتسلمت قيادة جبهة الحرب الشرقية على مشارف مدينة تسني الإستراتيجية يحيط بنا جيش المتمردين من جهة الشمال والأحباش من الجنوب والإرتريون من جهة الشرق، يعني كنا في وضعية ما نسميه بالكماشة. وضع مثل هذا يحتاج إلى رجل حاسم وشجاع ليس لكي لا يسقط المعسكر؛ فإن المعسكر لن يسقط، نحن نعرف إستراتيجية حرب العصابات، إنهم يهدفون إلى تكبيدنا أكبر خسائر ممكنة في الأرواح والعتاد، فلو أخلينا المعسكر - وهو أكبر معسكر لنا بالشرق - فإنهم لن يستولوا عليه، يجب أن يبقى مصيدة، يجب أن تبقى به آليات ويبقى به عساكر ومؤن كموضوع لشغبهم.
ولكن على قائد الجبهة أن يتخذ إستراتيجية دفاعية هجومية، ذات أقل خسائر ممكنة، ويسميها العسكريون القدامى: «سهر الدجاج ولا نومه»، فإذا هاجمنا العدو ندافع عن أنفسنا، وإذا لم نهاجم رميناهم بالمدفعية الثقيلة والمقذوفات الصاروخية ونحن في موقعنا تحت دفاعاتنا، أما جواسيسنا ومصححو نيراننا فقريبون من مواقعهم، بالتالي جواسيسهم ومصححو نيرانهم يتسكعون بالقرب منا؛ لذا عندما قبضنا على «تومي كريستو» قرب همدهئييت لم يكن سهلا أن نصدق ادعاءه بأنه رجل مريض يبحث عن أعشاب السنمكة - كانت بالفعل لا تنبت إلا على منخفض صغير قرب المعسكر - وهذا الرجل أدخلني في تجربة غريبة وغامضة ومؤذية جدا، ما زلت أعاني من آثارها إلى اليوم، وما زالت تنط إلي وعلي كلما شرعت في القيام بتنفيذ عملية شرعية، ولو أنني لا أعتبرها سوى مؤامرة بذيئة قام بها الشيطان ضدي أنا بالذات - وأنت تعرف مكائده - أقل منها إشارة إلهية ليست في صالحي.
بالعكس أنا رجل تقي جدا وأعتبر نفسي داعية دينيا أفشي المعرفة الدينية بين من أقودهم، ضف إلى ذلك ميولي الإنسانية العميقة - ولقد أبديت أنت ذات مرة ملاحظة تشير إلى هذا الأمر - ويدل على ذلك تبرعي السخي المتواصل للمنظمة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان، ويدل ذلك إحساسي بالغثيان إثر تنفيذ كل عملية شرعية، كما لو أنني ابتلعت ذبابة كبيرة.
ويدل على ذلك بحثي المستمر عن عقوبة أقل من الموت وبإمكانها إسكات الخصم أو تحييده للأبد، ويدل على ذلك اكتشافي لطريقة سهلة للعملية الشرعية؛ حيث لا يتألم المحكوم عليه كثيرا؛ لأنها تؤدي إلى الموت الفوري، وهي إطلاق النار في منتصف الرأس بالضبط، وأتمنى من منظمات حقوق الإنسان ومن المشرعين الأمريكيين أن يأخذوا بها كأسلوب أمثل وأكثر إنسانية من غيره في تنفيذ أحكام الإعدام في سجون العالم.
أستاذي جلال
أنا لا أحب أن أتحدث عن نفسي كثيرا؛ فأنا من أولئك القلة من الرجال الذين لا يجيدون ولا يحبون أن يعرفهم الناس بواسطة ألسنتهم، فلن أخوض في ذلك، دعني أكتب لك عن تلك المؤامرة الشيطانية الغامضة بقيادة من يدعى ب «تومي كريستو».
جاء حرس الدورية برجل فوق الخمسين بقليل، قالوا: إنهم وجدوه يتمشى بالقرب من معسكر همدهئييت، وادعى بأنه مريض ... إلخ، وقد تعلمنا من التجربة ألا نثق في كل ما يقوله المعتقلون ولا حتى في القليل المنطقي منه، قام عساكر الاستخبارات في التحقيق معه مستخدمين - من أجل التوصل للحقيقة، مع العلم بأنها قد تكون في صالحه - كل ما تعلموه في الدورات التدريبية وما استحدثوه هم بأنفسهم، ولكن ظل الرجل على ادعائه، فاعتبر جاسوسا جيد التدريب، فكثير من جواسيس المتمردين يأخذون جرعات عالية ومتقدمة في الخارج، واعتبر أيضا من ذوي الرتب العسكرية العالية. وجيء به إلي كدليل على اليأس وفقدان الأمل في التوصل إلى معلومة مفيدة منه بالرغم من أنهم خلعوا ثلاثة من أظافر رجله وثلاثة من أظافر يده اليسرى، وانتزعت كل رموش عينيه حتى بدا شكله مثيرا للإشفاق والضحك معا، سألته: أنت جاسوس؟
قال - وهو يرتجف من الإعياء: لا، أنا رجل مواطن عادي، كنت أفتش عن سنمكة عشان أتعالج بها، وناس الحلة كلهم عارفني، حلة ضبابين. - حلة ضبابين المحتلنها المتمردين؟ - أيوا، ولكن نحنا مواطنين ما عندنا أي علاقة بالمتمردين نحن همنا في عيشنا وأولادنا. - كويس، لو كنت مواطن ما عندك علاقة بالمتمردين ليه ما جيت وانضميت لجيش الحكومة عشان تحرر بلدك منهم؟!
قال - بعد أن بصق في الأرض شيئا لم أتبينه في حينه، ولكني عرفت فيما بعد أنها إحدى أسنانه: الحرب يقوم بيها العساكر ونحن المدنيين ما عندنا معرفة في الحرب، نحن للزراعة والحصاد.
Bog aan la aqoon
انظر يا أستاذي جلال إلى الموضوعية التي اتبعتها في حواري معه، وانظر إلى الخبث الذي يجاوبني به، حقيقة يصعب التعامل مع الجاسوس جيد التدريب؛ لأن له مقدرة لا تحدها حدود على إثبات براءته. مما أغضبني، فشتمته بأبشع الألفاظ، وكثيرا ما أشتم الذين بصدد الإعدام حتى إذا ردوا شتائمي أغضبوني وجدت دافعا فوريا لقتلهم، وأكثر ما يؤلم - صراحة يا أستاذي - أن يظل المحكوم عليه باردا وطيبا ووديعا وطائعا إلى آخر لحظة إطلاق النار عليه، مثل هذا التومبي، أما إذا كان لئيما أحمق متمردا فإن قتله أريح للنفس وللضمير وأكثر رفعا للروح المعنوية.
فأخذته ومعي حرسي الخاص، والذين دائما قربي كظلي إلى حفريات خارج المدينة تستخدم كدفاعات دائمة، استخدمتها أنا للتنفيذ الشرعي، طلبت منه الاعتراف كطلب أخير، ولكنه قال بفم مرتجف مملوء بالبصاق الدامي: أنا مريض جيت أشيل سنمكة وبس.
فعمرت مسدسي كإنذار أخير يعرفه العسكر تماما ووضعت فوهة المسدس في منتصف رأسه، وعندما أضع فوهة مسدسي على هذا المكان يصعب علي عدم الضغط على زر إطلاق النار؛ لأنني حينها - وهذا سر أبوح إليك به لأول مرة - أحس كما لو كنت في الثانية الأخيرة قبل الإيراق، والعاشق يعرف كم هي حرجة تلك اللحظة وحاسمة يصعب الرجوع عنها أو تضييعها.
قال: إن لديه أطفالا صغارا وثلاث نساء، وإنه العائل الأساسي للأسرة؛ لأن ابنه الأكبر سيتزوج قريبا ويرحل عن الأسرة، وقال باستطاعته أن يفعل أي شيء أطلبه منه لإثبات براءت. قال كل ذلك - على ما أعتقد - في أقل من ثانية، قلت له ببرود أعصاب: اعترف بأنك جاسوس أو مصحح نيران، ولازم تديني دليل قوي على كلامك، وما عايز منك أكثر من ده.
عندما فقد الأمل قال: إذا لا تقتلني، أعمني، اقطع يدي أو رجلي، فالموت ما شيء ساهل، الموت ما لعب.
الآن وجدت الكلمة التي بإمكانها إشعال فتيلة الشجار بيني وبينه. - لعب يا وسخ تتجسسوا وتقول لعب.
وأخذت أركله بمقدمة البوت لكنه ظل باردا، فقط يحاول أن يعتذر وهو يحك مكان الشلوت، وافتعلت أيضا من هذه الأخيرة خصاما جديدا وانتهرته في غضب. - أيوه، تتلوى زي الكلب، يا جاسوس يا خائن، خذ.
وفي اللحظة التي تحركت فيها سبابتي للضغط على زرار إطلاق النار وجدت نفسي - وهذا ليس حلما ولا وهما ولا تخريفا - وجدت نفسي محمولا على أسنة رماح حادة توخزني في كل ذرة في جسدي، يحملني أقزام بيض لهم أعين لامعة كالمرآة كبيرة ومؤذية، كانوا يسيرون بي نحو بوابة ضخمة صفراء، وهي في الحقيقة ليست سوى جمرة كبيرة تستخدم كبوابة للجحيم، وكنت أعرف هذه المعلومات دون أن يقولها لي أحد، كانت مسجلة في ذاكرتي منذ أن ولدت.
وعرفت أيضا أنه سيرمى بي في الجحيم الآن بعد أن يقرأ ملاك - جاء للتو - كتابا ضخما مكتوبا عليه بحبر أسود - وهو كتاب أسود أيضا - كان يقرأ لي الأعمال الخيرة التي قمت بها قبل أن أحضر إلى هذا المكان على أسنة الرماح، وعندما فرغ كنت أتوقع قدوم ملاك آخر ليقرأ كتاب سيئاتي، ولكن يبدو أن ذلك لن يحدث، مما أوهمني بأنه لا سيئات لي، ولكن حينما أغلق كتاب الحسنات وخزني في مؤخرتي، ملاك أم شيطان؟ لست أدري، وخزة ما زلت أعاني منها إلى اليوم - وسأريك موضع الجرح عندما نلتقي - وهي دليل واضح على أنني لم أتوهم الأشياء، فصرخت بكل ما أوتيت من قوة مما أفزع رجلا وسيما آمنا محمولا على فراش أخضر بهي على غيمة صفراء وتحوم فوقه العصافير والفراشات ويتبعه رهط من الحوريات في ذات اللحظة، عدت حيثما كنت سابقا، أقف خلف الجاسوس، واضعا فوهة مسدسي في منتصف رأسه وإبهامي يتحرك نحو ضغط زرار إطلاق النار.
فابتسمت، ابتسامة على ما أظن كانت كبيرة جدا، وباردة فابتسمت وأنا أحس بوخز الرمح في مؤخرتي ثم ضغطت على زرار إطلاق النار.
Bog aan la aqoon
قل يا أستاذي: هل كان علي أن أحرمه من الجنة وأحرم نفسي!
تلميذك الزين
ملحوظة:
هذا الخطاب مثل الوثيقة الوحيدة التي قدم بواستطها العميد الزين طه للمحكمة الدولية في لاهاي؛ لمحاكمته كمجرم حرب.
امرأة من كمبو كديس
في صباح قائظ من يوم خريفي، بينما كنت أتسكع في شوارع المدينة - كعادتي منذ أن طردت من وظيفتي للصالح العام قبل سنتين - سمعت صراخ أطفال وما يشبه التهليل والتكبير، وأصوات نسوة تندفع إلي مع ريح السموم الصباحية، آتية من جهة تجمع سوق النوبة. كان نهيق حمير الأعراب القادمين من أطراف المدينة هو الصوت الوحيد المعتاد بين مظاهرة الأصوات تلك، هادئون كانوا دائما رواد سوق النوبة، يساومون في هدوء وخبث وحنكة، يشترون ويبيعون في صمت وكأنهم يؤدون صلاة خاصة، نعم قد يسمع نداء موسى السمح الجزار بين الفينة والأخرى، وقد تتشاجر بائعتان، وقد ... لكن تهليل وتكبير وصراخ أطفال! وكفرد أصيل في هذه المدينة أمتلك حسا تشكيكيا عميقا هتف في: إن هنالك شيئا ما في سوق النوبة.
وكما يتشمم كلب الصيد أثر الأرنب البري تشممت طريقي إلى المكان.
عزيزة - ابنة كلتوم بائعة العرقي، كنا نحن قطيع المثقفين نطلق عليها أخصائية العرقي - مرت أمام وجهي كالطلقة الطائشة وهي تحمل على كتفها أخاها الصغير منتصرا، غير عابئة بصرخاته المتقطعة المخنوقة، بلعابه اللزج والتي تثير الشفقة في قلب أقسى شرطي في العالم الثالث. كان أعجف صغيرا، له عينان مستديرتان لامعتان كعيني سحلية.
أعرفها جيدا وأعرف أيضا أنها عائدة من عند أمها كلتومة التي تبيع الكسرة نهارا بالسوق، فكان لزاما على عزيزة أن تحمل منتصرا الرضيع ثلاث مرات في اليوم إلى أمها بالسوق لكي ترضعه رضعة الصباح، رضعة النهار، ورضعة الغداء، وتحرص كلتومة أشد الحرص على ألا تفوت على ابنها الصغير رضعة واحدة حتى لا يمرض مرض الصعيد، ويموت؛ لأن منتصرا كان نزقا شقيا وهباشا، فما كانت كلتومة ترغب في إبقائه معها في السوق.
صرخت فيها: يا بت، يا عزيزة.
Bog aan la aqoon
التفتت إلي بسرعة رشقتني بنظرة عابرة وجدت في سعيها إلى حيث تشاء، ولكني ومن خلال لمحتي الخاطفة لوجهها والتي لم تتعد ثلاث ثوان، رأيت بؤسا وألما مكثفا متقنطرا على وجهها الصغير الأملس، بؤسا لا يمكن إخفاؤه أو احتماله لدرجة أنني تيقنت في نفسي أنه لو قسمنا هذا الحزن والبؤس على كل مشردي العالم لما وسعوه. وفي نظرتها السريعة كانت أسئلة أيضا غامضة ومبهمة ومحيرة في نفس الوقت، جريت وراءها صارخا: يا بنت.
أنا وأصدقائي من أبناء أعيان البلدة ومثقفيها نفضل أن نسكر من عرقي بلح كلتومة، وفي بيتها الصغير في كمبو كديس؛ فهي امرأة أمينة صديقة، حيث إنها لا تسرقنا - كما تفعل الحبشيات وكثيرات من بائعات العرقي - آخذة منا ثمن عرقي لم نشربه، عندما نثمل وتلعب الخمرة بعقولنا الصفراء، أو تغش العرقي بالسبرتو أو الماء أو غير ذلك من فنون السرقة «إنني لا أطعم أبنائي الحرام».
كما أنها كانت دائما حافظة لأسرارنا وخبائث فضائحنا، «أنا عن نفسي عندما أسكر أفقد مع وعيي وقاري واحترامي وأصبح حيوانا مثقفا لا أكثر، فقد أتبول في ملابسي وأتقيأ على صدري، وإذا لم يحدث هذا أفشيت كل أسراري الأسرية وتحدثت عن أبي - ضابط المجلس - وقلت علانية ما يعرفه الناس عنه، وما لا يعرفونه؛ بل أفشيت ما أعرف من خططه المستقبلية في سرقة التموين والجازولين ... إلى آخر مآسي يومي وأسرتي»، فكانت كلثومة - والحق يقال - تسمع باهتمام ولكنها لا تقول شيئا، وكنا جميعا نحترمها ونقدرها مثل أمهاتنا، وبالتالي «عزيزة» كانت لنا أختا صغرى. - يا بنت ... قفي.
أمسكت بكمها القصير، ودون أن تنظر إلي قالت بصوت مبحوح تخالطه صرخات «منتصر» الحامضة المتدفقة تباعا: أمي. - أمي قبضوا عليها. - «...»
إذا فهمت كل شيء وشعرت بأن الدنيا أظلمت فجأة أمام عيني، وأن شعري تحول إلى دبابيس مسمومة توخزني في جلد رأسي، ولم أستطع أن أقول أو أفعل لها شيئا سوى زلق كفي من على كتفها الصغير المتعب، في برود، تاركا إياها تمضي لتذوب في بحر مآسيها ومحنتها و«منتصر» مبللا صدرها بلعابه اللزج الملبن يصليها بصرخاته وندائه المتواصل - بلثغته الحلوة الممتعة رغم مأساة الموقف - لأمه «أتوما.»
كثيرا ما كنت أخجل من نفسي عندما أجدني عاجزا أمام موقف ما، فإذا حدث ذلك بالأمس لذهبت إلى جلال الجميل القاضي ودار بيننا الحوار التالي: - صدر القرار منك؟ - كنت مجبرا ... فأنت تعرف، لا شيء بأيدينا تماما. - ولماذا كلتومة ... فهي تعول أطفالا وزوجها مقتول في الجنوب منذ سنوات. - لم يكن الأمر بشأن كلتومة وحدها.
ولكن حظها، فلا بد - كما تعرف - أن يكون هنالك ضحايا، قالوا: إن الوالي في زيارة جاسوسية في كل مكان، ويجب أن يعرف أن الناس هنا تعمل، تحارب الفساد ... إلى آخر الأوهام. كما أن كلتوم كانت تعلم بقرار التفتيش؛ لقد أخبرها «أحمد صالح.» - ولكنهم وجدوا عندها جالونا من العرقي وثلاث زجاجات مليئة بعرقي البلح. - هذا تلفيق من الشرطة، فقد كانوا يخبئون هذه الأشياء في عربتهم، فهم غالبا لا يجدون شيئا عند هؤلاء النسوة. - وما العمل؟ - كالعادة نخفف الحكم ما أمكن وبدلا من السجن نضع الغرامة وصديقاتها يقمن بمساعدتها في الدفع كما يفعلن دائما. - هذا ما كان يحدث إذا وقعت إحدى «زبوناتنا» في قفص الشرطة، ولكن أين اليوم «جلال الجميل؟!» - فإن القاضي الجديد لا يشرب العرقي ولكن فقط الويسكي «والأنشا»، ويدعي مخافة الله والتقوى! وبالتالي يصعب الوصول إليه حتى الآن على الأقل.
جسدها النحيل المتعب يرقد على الكنبة في وسط سوق السبت وقد أهالوا عليه صفيحة من المياه لا تزال تقطر من جلبابها القطني الرخيص إلى نهاية الجلد، ولو أنها لا تحفل بكتل البشر التي تحيط بها «مشفقة أو شامتة»، إلا أنها كانت تحاول إخفاء وجهها ما أمكن بين ساعديها، وتحاول بقدر المستطاع وبجدية ألا تصدر منها تنهيدة، آهة، صرخة ألم أو مجرد زفير مندفع قد يخيل للشرطيين أو القضاة أو الجلاد أو جمهور المتفرجين أنه توجع من وقع سوط «العنج» الأسود المشرب بالقطران، والذي يصلي ظهرها مشقا مبرحا ممزقا لحميات عجفاء بائسة.
وعندما استطعت أن أجد لنفسي مكانا أشاهد من خلاله ما يحدث كان الشاويش السمين يصرخ بغلظة: ثمانية وثلاثين إإيه، هوب. - تسعة وثلاثين إييه، هوب. - أربعون، إيييه، آآه، تماما مولانا ... أربعون جلدة.
قال القاضي - وعلى فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولا من خلالها أن يكون تقيا عادلا محبوبا وحاسما في نفس الوقت: هيا قومي، استغفري ربك الله وأعلني توبتك، توبة نصوحة أمام الجميع. - نظرت إليه كلتومة نظرة فاحصة عميقة - أحسست أنها معتصرة من خلايا كبدها - ثم بصقت على الأرض بصاقا داميا مرا. وأقسم أن جميع المتفرجين؛ الأعراب ذوو الجلابيب المسودة من الأوساخ، والتي تفوح منها رائحة وبر الجمال والحمير، وقطرانها وروثها بسياطهم وسيوفهم ، الشماسة، أبناء الشوارع المتشردين، أصحاب المتاجر؛ أغلقوا دكاكينهم مضحين بقدر من المبيعات كبير في سبيل أن يحضروا المحاكمة. الكلاب الضالة الحذرة المختبئة خلف العشب متجنبة أعين الناس، وغير الضالة أيضا.
Bog aan la aqoon
أسراب الحدأة والغربان والتي تضع حلقة في السماء ناعقة، «المثقفاتية» مثلي والذين ليس بإمكانهم فعل شيء غير التعليق الذكي الصائب المبرر غير المقنع لغير شريحتهم والمثير للضحك والسخرية من نساء؛ «الكسرة»، العرقي، الشاي وغيرهم من الكادحات، أعضاء المحكمة «المتفلقصين» كمخصيي القرون الوسطى، صديقاتها البائسات، موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون «معها أو مع السلطة» الجميع، الجميع بدون فرز «أقسم أنهم جميعا أحسوا بمرارة هذا البصاق وكأنه مقذوف في عمق حلوقهم مر كنقع الحنظل.»
ودون أن تحرك فوهتي عينيها عن وجهه انتعلت حذاءها البلاستيكي القديم وشقت طريقها عبر الجمع مصوبة وجهها المجهد شطر بيتها - ساعية بخطى ثابتة سريعة - رغم ما بها من إرهاق، فكان عليها أن تسرع حتى لا تفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.
حذاء ساخن
عندما انتصف النهار في ساعة الملازم حديث التخرج المستبد، كانت الشاحنة المجروس عند التقاطع الرئيسي، وعلى السائق أن يتجه شرقا ويسلك الطريق الترابية المؤدية إلى الموقع العسكري الحدودي، الذي يبعد مائة ميل عن مدينة كسلا، لا عربة غير هذه المجروس العجوز على الطريق، لن تكون هناك عربة أخرى، فالمنطقة معلنة كمنطقة عمليات حربية، حولها تنتشر أودية من الألغام البشرية، أما القرى المحيطة بها فهي خالية تماما من السكان، تسكنها الوطاويط، الحيات، الكلاب، القطط المتوحشة والذئاب، حولها الجنود نصف أموات، نصف أحياء، نصف بشر، يعتصمون بجثث آلاتهم الثقيلة، مدافع الهاون، الراجمات وما لا يدري أحد من المميتات.
الشاحنة المجروس تنهق على الشارع الترابي الوعر وهي تقفز على الخيران التي تظهر فجأة أمام السائق، كأنما يدفع بها شيطان ماكر على الطريق، مختلطة سحابة الأغبرة الكثيفة بحر الشمس الصيفية المذاب في الهواء، كان الملازم حديث التخرج المستبد يركب يمين السائق، لئيما متكبرا، يرى بينه وبين نفسه، بين فينة وأخرى، أن الله ما خلق هذا الكون إلا ليصبح مسرحا لعنجهيته، في الحق كان لا يرى في الكون غير فرقته العسكرية ومعسكره الحدودي، إذا اتسعت مخيلته فالعالم هو السودان، أما بقية الدول فهي دول خائنة وعدوة وحتما سيعينه الله على فتحها، أنا حرسه الخاص، أستقل صندوق العربة الضخم المفتوح على السماء مباشرة، لا تحجبه عن الشمس غير الشمس ذاتها. كنت أشوى ببطء؛ فلست أكثر من مجند يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية كرها، وقد ألحقت بها بينما كنت في سفر إلى الخرطوم، بحثا عن وظيفة ما أسد بها رمق أفواه تخصني، صادفت إحدى الكشات، ولو أن كثيرا مما معي من المكشوشين هربوا، إلا أنني استسلمت للأمر الواقع: فلأي واقع بديل أهرب!
الشمس تشويني، أنا مغطى بغبار أحمر ناعم ملعون، أحمل على كتفي بندقية ج3 ثقيلة، محاولا بقدر الإمكان أن أكون في وضع الاستعداد، وأن أكون منتبها، متفحصا الخلاء حولنا، الصحراء قاحلة، ليست بها شجرة واحدة أو حيوان، دعك من إنسان، تبدو الحجارة الصغيرة عليها من بعيد في أحجام الجنادل، هذه الميزة مكنتني - وأيضا السائق والملازم حديث التخرج المستبد - أن نميز وجود رجل على بعد أميال كثيرة، ملابسه البيضاء تجعله كبقعة كبيرة من الضوء بعيدة، بعيدة تصغر كلما قربنا منها، ثم تبيناه: رجل شيخ يحمل إبريقا وجرابا صغيرا وعصا يتوكأ عليها، ولأن الضابط حديث التخرج المتغطرس لديه وهم أن كل من وجد وحيدا على مسافة من منطقة عسكرية هو جاسوس؛ أوقف الشاحنة المجروس الضخمة: انزل يا حارس، وكن في وضع الاستعداد؛ لأنني سأستجوب هذا الجاسوس، فإذا بدرت منه أية بادرة عدوان أطلق الرصاص في الرأس أو القلب.
وكنت صائدا ماهرا (قناصا)؛ لهذا السبب اخترت كحرس لهذا الملازم حديث التخرج المتغطرس. - حاضر سعاتو.
وكلمة سعاتو هذه تعمل في نفس الملازم حديث التخرج فعل السحر؛ فابتسم.
قال العجوز القوي والذي يحمل إبريقا ومخلاة من جلد الماعز صغيرة على ظهره، يرتدي سروالا وقميصا نظيفين، يمشي حافيا، وجهه نظيف، ولو أنه معروق ويبدو عليه الإرهاق: تشيلوني معاكم لقرية سماورا؟
القرية على بعد عشرين ميلا من حيث وجدناه ، تأكد الملازم حديث التخريج أن هذا الشيخ لم يزرع ألغاما، إلا أنه أفتاه قائلا: دي عربية جيش ولا نشيل شخصا مدنيا، واحمد الله على أننا لم نقتلك، تأكد لنا أنك لست سوى سابل جائع منبوذ لا معرفة لك بزراعة الألغام وأمور الحرب، مجرد ملكي ساكت.
Bog aan la aqoon
كالعادة آخر من ركب هو أنا، تحركت الشاحنة المجروس تاركة الرجل للشمس: جحيم فوقه، جحيم تحته، وسرنا لمسافة مائة متر فقط، توقفت العربة وعندها قفزت على الأرض في وضع الحماية وسألت: توقفت العربة من تلقاء نفسها؟
أجاب السائق.
وقدر ما حاول السائق إشعال المحرك إلا أن محاولاته كلها فشلت، فنطاس الوقود ملآن، البطارية مشحونة، الأسلاك جيدة التوصيل ناقلات الوقود والحركة فاعلة، لا شيء، لا شيء على الإطلاق، وبينما السائق يحاول مرة أخرى إشعال المحرك إذا بالرجل الشيخ قريب منا قائلا: تشيلوني معاكم؟ - ابعد من هنا، وإلا أمرت العسكري يديك طلقة في صلعتك دي.
ذهب الرجل دون أن يقول شيئا وتحركت العربة لمسافة مائة متر أخرى ثم توقفت من تلقاء نفسها، وبينما يحاول السائق إشعال المحرك إذا بالشيخ: تشيلوني معاكم؟
فانتهره الملازم حديث التخرج المتغطرس، الذي يظن أنه ما خلق الله العالم إلا ليكون مسرحا لخيلائه. - امش يا زول!
ثم خاطبني الملازم حديث التخرج المتغطرس قائلا: إذا اقترب هذا الرجل منا مرة أخرى أطلق عليه النار.
فاقترحت على الملازم حديث التخرج المتغطرس اقتراحا دعمه السائق، قائلا: ليه ما نشيلو معانا ما ح يكلفنا حاجة. - أنا المسئول وأنا اليشاء! أنتو شنو غير عساكر حاجات لتنفيذ الأوامر.
لا أدري كيف أحسست بأن الشخص هو الذي بقوة خفية كان يوقف العربة ثم يطلقها، وأن له كلمة قوية على الأشياء وأنه يستطيع، وأنه يفعل وأنه يريد، لكن كيف أجعل الملازم حديث التخرج المستبد يفهم، ولو أن السائق قد فهم ويبدو ذلك من تقعر عينيه كلما توقفت العربة. سمعت كثيرا عن الأولياء والصالحين، قرأت طبقات ود ضيف الله، لكن كان ذلك لمجرد قراءة كتاب مهم لرجل جامعي مثلي، يجب أن يعرف الكثير عن السلطنة الزرقاء وبنيتها الروحية، كنت أفكر: لن أؤمن بهذه الخرافات إلا إذا رأيت معجزة ما بعيني.
ثم تطورت الفكرة في ذهني، لماذا لم أتمكن من معرفة حقيقة هذا الرجل؟ لماذا لم أقنع الملازم حديث التخرج المتغطرس، إنها فرصة وضاعت، إنه طريقي لكي اعتزل حياة المادة بكل ضغوطها ومآسيها وأعيش نقيا شفافا زاهدا، متجولا في الأرض أنشر المعجزات هنا وهناك. إنه يقودني إلى النقاء الإنساني الروحي، الذي هو حلم كل شخص، أن أمتلك المقدرة على التواجد أينما شئت! أصبح صاحب سلطة على كل شيء حتى على الآلة، ولكن في العودة قد نجده على الطريق، عندها لن أبرحه، إلا بعد أن أعرف كل كبيرة وصغيرة بعد أن أفض أسراره، ولو كلفني ذلك العمر كله.
بينما أنا في هذا إذا بنا نصل قرية سماورا، ذلك بعد مسيرة ساعة كاملة بالشاحنة المجروس، عبر الطريق الترابية الوعرة، قرية سماورا كغيرها من القرى الحدودية، خالية من السكان مسكونة بالذئاب والنسور والصبرات، كثير من الكلاب والقطط التي توحشت، هناك شخص واحد فقط يجلس تحت شجرة على جانب الطريق، عندما توقفت العربة قربه وجدناه هو ذاته الشيخ ذو الإبريق صاحب مخلاة الجلد، الحافي، ذو الوجه النظيف العرق، عندما شاهده الملازم حديث التخرج المتغطرس جحظت عيناه، جف ريقه، حاول أن يهبط إليه، ربما ليقبله في رجليه، ليرجوه أن يسامحه، دمعت عيناه، لكن فجأة أمسك به السائق في كتفه، همس في أذنه، فتصبب الملازم حديث التخرج المتغطرس عرقا غزيرا، أدار السائق المحرك بسرعة رهيبة.
Bog aan la aqoon
كنت أرقب كل شيء بحذر ولكني لم أحاول أن أفسر ما حدث ولم تكن لدي الرغبة في ذلك وانطلقت المجروس - الشاحنة العسكرية العملاقة - مخلفة وراءها غابة من الغبار وأخذ الغبار يهبط على رأسي وأنا جالس على الأرض متخفيا خلف قطية صغيرة حتى لا يراني السائق أو الملازم حديث التخرج المتغطرس بالمرآة، وعندما تأكدت تماما من أنه ليس بالإمكان رؤيتي خرجت من خلف القطية وذهبت نحو الشجرة التي كان الشيخ يجلس تحتها، ولم أجد أي أثر يدل عليه ، نعم كانت هناك بقايا ماء على الأرض حيث يبدو أنه توضأ، ولكن هي لحظات فقط، ليست أكثر من دقيقة واحدة؛ بل ما يزال جعير المجروس مسموعا وغباره يغرق المكان. وأخذت أصرخ وأنادي بأعلى صوت: أيها الشيخ ... أيها الشيخ ... أيها الشيخ ... ولكن ليس من مجيب.
أخذت أبحث عنه داخل المنازل المهجورة فلم أجد سوى الكلاب والتي ذعرت لرؤيتي، حيث إنها لم تر إنسانا حيا منذ سنوات مضت، كانت الكلاب المتوحشة تنبح خلفي وتحاول عضي وإعاقتي، كانت القطط تخرج هاربة من القطاطي المهجورة فزعة، خرج ضبع كبير من إحدى الحجرات المهجورة وهرب، فهربت خلفه الكلاب حيث تركتني بحثا عن فريسة سوف تصبح أكثر إشباعا، كانت القرية خلاء، في الحق أصبت بهلع شديد وأنا رجل أعزل؛ حيث تركت البندقية على صندوق العربة حتى لا يجدوا في البحث عني من أجل البندقية هكذا تعلمنا: البندقية أهم من الجندي - اترك بندقيتنا عندنا واذهب إلى الجحيم وحدك.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة مساء وأنا ما أزال أنادي وأبحث عن الشيخ طالبا منه - بصراخ حاد - أن يأتي إلي؛ لأنني أؤمن به وأريد أن أصبح له تلميذا وخادما وحواريا، إنني سوف أنفق ما تبقى لي من عمر في خدمته، لقد وجدت الآن طريق الله ولن أتخلى عنها أبدا، جلست تحت الشجرة ذاتها حيث كان يجلس، كنت تعبا مرهقا وخائفا أيضا، الشمس الآن تذهب نحو المغيب وبالقرية لا شيء سوي الكلاب المتوحشة والذئاب وربما الأشباح أيضا، نعم أنا شخص مادي ولا أومن بهذه الأشباح، ولكن الآن آمنت، هناك أمور أعرفها بالباراسيكلوجي والميتافيزك، نعم، هل لبنية عقلي المادية الصرفة أن تؤمن بأن هناك نفرا من بيننا يمكنهم فعل أشياء خارقة للطبيعة؟
أناس يتواجدون حيثما شاءوا وكيفما أرادوا؟ أناس لديهم سلطان على العلم نفسه، العلم الصرف، يمنعون متحركا من الدوران؟ يمنعون بندقية من أن تطلق النار؟ يختصرون الأميال في خطوة، الآن لا شيء فوق مقدرة هذا الإنسان! أعرف أنه لا عربة سوف تأتي بهذا الطريق، وأنني لا محالة مأكول، إما أن تتعشى بي الكلاب أو الذئاب وربما القطط المتوحشة والتي رأيتها بأم عيني تأكل بعضها، قرب الشجرة قطية قديمة، درت حولها، لها باب قديم من الزنك، قمت بدفع الباب ببطء، داخل الحجرة عنقريب كبير يملأ معظم المكان، به هيكلان عظميان لطفلين، أغلقت الباب بسرعة وهربت، جريت بأسرع ما أستطيع على الشارع الترابي الوعر، كنت لا أعرف إلى أين أنا ذاهب، المهم كنت أحس بالطمأنينة كلما ابتعدت عن هذا المكان المرعب، والشمس تذهب بعيدا نحو الغروب: يا أيها الشيخ، أين أنت؟
كان فمه يرتجف وعيناه تزدادان اتساعا كلما بعدت الشمس عنه ولا أحد، كانت القرية تمضي بعيدا عني، بعيدا، بعيدا، إلى أن اختفت أخيرا، توقفت، قرأت المكان من حولي، الشمس كانت خلف ظهري، إذا أسير شرقا، فإذا واصلت السير ولم يعقني عائق ولم يتفجر تحت رجلي لغم فإنني سأدخل الحدود الإرترية بعد مسيرة عشر ساعات، ولكن لماذا لم أنتبه بأن هنالك ألغاما مزروعة بين هنا وهناك ولا أحد يعرف كيف يتجنبها، الآن أحسست بالرعب الحقيقي؛ لأنني إذا خرجت حيا من هذا الحقل سأعتبر نفسي وليا ورجلا صالحا يأتي معجزات ذلك الشيخ الغريب.
وهنا أخذ العرق يتصبب على وجهي وبين فخذي وتحت إبطي، وأخذت أمشي كالحرباء واضعا رجلا على الأرض في خفة وبعد تردد أسحبها، إنه سوء تصرف من جانبي، جعلني أترك الشاحنة المجروس تمضي بدوني، لماذا لم أتريث؟ نعم، إذا تركت هذا جانبا، لماذا عندما هربت من الهيكلين العظميين لم أتخذ طريق المجروس، وهي الطريق الوحيدة الخالية من الألغام، والغريب في الأمر أنني كنت حارسا للمهندسين العسكريين الذين قاموا بزراعة الألغام حول هذه القرية ألف لغم شخصي مغطاة بالبلاستيك حتى لا تتمكن أجهزة العدو النازعة للألغام اصطيادها، ولكن لا ذنب لي، فقد كنت مجرد منفذ للأوامر وأنا في داخلي وصميمي ضد هذه الحرب وقتل الإنسان؛ لأنه لا خصومة لي مع أحد ولا معرفة لي بالذي أحاربه، فكيف أقتله؟
كان يمشي كالحرباء، تماما كالحرباء ...
والشمس تجري لمستقر لها ، وحيد خائف ومتردد، قد ينقذه فجأة في الوقت المناسب، نعم، هكذا في القصص والأحاجي وكتاب الطبقات، فإن الأولياء يتدخلون لإنقاذ مريديهم في اللحظات الحاسمة، وأنا أثق في هذا الرجل، إنه رجل صالح ... إنه رجل صالح، إن لم يكن نبي الله الخضر ذاته! والذي يتجول في العالم منذ بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ناشرا الحكمة والمعرفة بين الناس، من أدراك؟!
ليته عرف من جدته عنه الكثير، لكن وعلى حقيقة القرية المهجورة والقطاطي المسكونة بالهياكل العظمية والقطط التي تأكل بعضها، فكر في الشيخ نفسه، قد يكون شبحا من الأشباح من أدراك؟!
ما كان يؤمن بالبعاتي واعتبره ظاهرة ورثها المجتمع السوداني أو المخيلة السودانية من النوبة أجدادهم قبل ستمائة ألف سنة قبل الميلاد، حيث كانوا يؤمنون بأن لكل إنسان في هذا العالم كا وبا وهذا الباء هو صنو الإنسان، وعندما يموت الأخير يكون الصلة بينه وبين الآخرين في الحياة الدنيا وأنه نسخة عنه، والآن أنت محاصر، الموت تحت أقدامك، ألغام الموت حولك، ذئاب وكلاب وقطط متوحشة، الموت من حيث لا تدري أشباح، ورغم كل هذا كنت متفائلا بأنني لن أموت، قد تعود الشاحنة المجروس للبحث عني إذا افتقدني أحدهم، ولكن يا ترى بماذا همس السائق في أذن الملازم! لا، لا، إنه رجل طيب وصالح، أنا أثق به أنه ليس ب «كا» ولا ب «رجل صالح» وسينقذني! بل سيتخذني حواريا له.
Bog aan la aqoon
أيها الشيخ، أيها الشيخ!
وكمن يؤذن في مالطا لا سميع ولا مجيب، وأخذ يمشي كما كان يمشي كالحرباء، وتمنيت أن يكون هذا الذي أنا فيه ليس سوى كابوس لا أكثر، سأستيقظ وأجد نفسي في أمان الله وحفظه على سرير في المعسكر وحولي جند يدخنون والحرس يصيح بين حين وآخر: ثابت!
الحياة مدرسة ولكن لا يدخلها إلا الحمقى، مثل هذا الدرس الذي أتعلمه أنا ولا أحد غيري، يستحقه الملازم حديث التخرج المتغطرس.
تذكرت في هذا الحين بالذات إدجار آلان بو، القلب الذي أخبر السر، القط الأسود، برميل خمر أمنتنلادو، قناع الموت الأحمر ، الحقيقة في قصة اغتيال فلادمير، سقوط بيت، ماذا ... جيفا في ديو مور جبو، كنت أمشي وإذا حدث وسلمت وقصصت لشخص ما حكايتي هذه سيظنها ضربا من الخيال، كنت أمشي كالحرباء وغابت الشمس، عجبت لماذا لم يصبني لغم حتى الآن، نعم، إنه لا مجال لذلك؛ لأنه لا توجد ألغام بالأرض طالما توجد الذئاب والحمر السائبة حول المكان.
وبمجرد أن خطرت هذه الفكرة في ذهنه انطلق جاريا، يجب علي أن لا أؤكل سهلا، يجب ألا أستسلم للموت، ومرت بذهنه معارك خاضها؛ جثث تموت بسهولة، يقف الشخص هناك ما أن تطلق عليه رصاصة تصيبه في صدره أو رأسه حتى يستسلم للموت ببرود، هكذا مات أصدقاؤه أيضا، مات جنود كانوا برفقته في الخندق، مات جنود أعداء، هكذا نساء سقطن وأطفال موتى أمام عينه عندما قذف صديق له جرانيت في مخبأ بين صخرتين اتخذته بعض الأسر ملجأ لها، ولكن لن يموت هكذا رخيصا وباردا، وهكذا الرجل التقي العنيد، لا يريد أن يستجيب لندائه ولترحيبه، رجل قاس، لا يلين له قلب، لا يرحم ولا يهزه رجاء، لا شفقة! ليتني! ولكن هل تنفع ليت؟!
وعرف الآن ما لم يهمس به السائق في أذنه وأنه تورط، والأسوأ إحساسه بأنه خدع، والإحساس بالخديعة كالاستحمام بماء آسن، قرأ في سره:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، ولأنه كفر به؛ عرفه أكثر وأوضح، عندما كفر به تفتحت بصيرة كان يعميها الإيمان الكامل المطلق: الكفر مفتاح الفرج.
عند الحادية عشرة ليلا بالضبط - هكذا كانت تشير ساعته - سمع حرس المعسكر يصرخ: ثابت!
وعندما ثبت قدمه على الأرض أحس بشيء يرفعها، لم يسمع دويا كالذي سمعه كل المعسكر واستيقظ عليه الجنود النائمون وانبطح الحرس على أثره على الأرض وأخذ يطلق النار بطريقة عشوائية هستيرية، لقد كان الحارس مرهق الأعصاب نتيجة للسهر المتواصل وعدم أخذ قسط كاف من الراحة، لم يسمع دويا ولكنه رأى ضوءا قويا كثيفا يعم المكان كله، ثم لم يعد يشعر بشيء سوى ظلام قاتم.
يناير 2000م
Bog aan la aqoon
الحكاية الكاملة لمأساة الأستاذ صابر الدقيس!
قال له الملحق الثقافي ذو التغضينات الجميلة على وجهه الثري الناعم الملآن، قال له وهو يقلب شهاداته بكفه البيضاء ذات الأصابع النظيفة الشهية، قال وبشفته ابتسامة مراوغة، ظنها الأستاذ صابر في بادئ الأمر نوعا من مظاهر الثراء التي تعم المكان كله، ولكنه اكتشف بينه وبين نفسه فيما بعد أنها ليست سوى مسحة حزن كان لا بد منها لخلق جو ملائم لما سيقال، قال له: بصراحة يا أستاذ شهاداتك الجامعية كلها ممتازة ومدارسنا في حاجة ماسة لشخص مثلك يمتلك المؤهل.
ثم صمت قليلا قبل أن يضيف بصوت خفيض عميق وكأنه يحدث نفسه: ماجستير في التربية، ليسانس لغة عربية بدرجة الامتياز، دبلوم كمبيوتر مع خبرة في التدريس لمدة عشرين عاما؟ هذا نادر الحدوث.
ثم أضاف وبصوت عال ولهجة حادة بعض الشيء: ولكن لا رجعة فيما قلته لك! لقد انتهى التقديم! كم هو مؤسف.
ثم صمت ولم يكمل، وكأنه يريد من الأستاذ صابر أن يقاطعه، ولكن الأستاذ صابر والذي يعرف أن السكوت من ذهب، كان يحب أن يحتفظ بذهبه، في الحق ما كان لديه ما يود قوله؛ فقد قال كل شيء للملحق الثقافي والذي استجوبه فيما يقارب نصف الساعة، لم يترك شاردة أو واردة إلا أشبعها سؤالا؛ بدءا من عمره وانتهاء بصحة زوجته. لذا عندما لم يكمل الملحق الثقافي جملته نهض واستأذن أن ينصرف، ولكن الملحق ذا الأصابع البيضاء الشهية أشار إليه بالبقاء.
بعد أن أجرى عدة مكالمات، ابتسم وجهه السمين الثري مظهرا أسنانا منتظمة عليها صفرة فاقعة وقال: أنت رجل محظوظ، ورد للملحقية عقد قبل خمسة دقائق، أي: أثناء وجودك هنا، على هذا المقعد، وطلبت الموثق أن يحضر الآن ويحاورك في شأنه.
قبل أن يجد الأستاذ صابر وقتا لكي يبتسم، إذ بالموثق يدخل وفي يده حقيبة. - الموثق أبو يزيد الدينوري. - الأستاذ صابر الدقيس.
لأبي يزيد الدينوري أيضا أنامل بيضاء شهية، يجيد التحدث مستخدما أصابعه السمينة والتي كثيرا ما أسهمت فيما بعد في إقناع الأستاذ صابر الدقيس، قال أبو يزيد بعد أن جعل وجهه النظيف يبتسم: إنه ليس عقد تدريس كما كنت ترجو وكما مؤهل له، ولكنه أكثر فائدة ودخله ألف مرة ضعف دخل مدرس مؤهل مثلك أو يزيد، ولكن به إشكالية واحدة هي أنه مستعجل جدا وسري، ويجب تنفيذه خلال ساعتين فقط من وصوله القنصلية.
في الحق مل سريعا الأستاذ صابر حديث أبي يزيد الدينوري حول العقد دون النفاذ إلى نقطة إجرائية سريعة ومفيدة، ولكن بطبع الأستاذ صابر أنه لا يتعجل الأمور، ولا يحب مقاطعة المتحدث مهما أمله حديثه. وأخيرا قال أبو يزيد وهو يعتدل في جلسته السمينة الهادئة، والتي ما كانت في حاجة لأي استعدال: إنه عقد سجين.
صاح الأستاذ صابر الدقيس بصوت أحس فيما بعد أنه كان عاليا بعض الشيء ولا يناسب الجو الدبلوماسي الذي هو في قلبه: عقد سجين؟
Bog aan la aqoon
قال أبو يزيد بثقة وعلى فمه ابتسامة ثقيلة باردة: نعم، عقد سجين.
ثم واصل بثقة مفرطة وآلية: ستبقى في السجن نيابة عن أمير، وسيدفع لك مقابل ذلك بسخاء منقطع النظير. - قال الأستاذ صابر - وقد بدا منفعلا قليلا: أنا حياتي كلها لم أدخل الحبس ولا مرة؛ بل لم أقف أمام قاض أو شرطي، فكيف لي أن أدخل السجن؟!
قال أبو يزيد وقد بدا طيبا ومتسامحا وخيرا في ذات اللحظة؛ بل مبشرا عن جنة غامضة، في برود معلوماتي كبرود الكمبيوتر: يا أخي، يا أخي هون على نفسك، السجن عندنا في بلدنا ليس كالسجن عندكم هنا في دولة فقيرة تعاني من عسر خدماتي عام مزمن، أضف إلى ذلك أنك ستسجن باسم أحد الأمراء المرموقين، أي: أنك ستكون في محل أمير، ممثلا له متمثلا فيه، أي: أنت الأمير ذاته في السجن، فتخيل كيف يكون سجنك!
أنت فيما يشبه جناحا بقصر أميري، حجرات متسعة مكيفة صيفا وشتاء وعندك أحدث ما أنتج العقل الياباني من تلفاز ذي شاشة سحرية به الصورة ذات أبعاد ثلاثية وألف قناة عالمية في اشتراك دائم بالقمر الصناعي العربي أراب سات رهن لمسك جهاز الرموت كنترول، جهاز فيديو وكمبيوتر متصلا بشبكة الإنترنت يقوم بتسليتك وتزويدك بما تشاء من معلومات وبإمكانك أن تستثمر سنوات سجنك الأربع، في التحضير للدكتوراه، فيما تشاء من جامعات العالم، وكل جامعات العالم رهن مكالمة تلفونية منك لأميرك، لا أكثر، لديك مطبخ مهيأ به كل ما سمعت من أدوات، وما لم تسمع به، وستدهش لرؤيته بأم عينيك بين يديك، ولن أسمي لك شيئا لكني سأترك لعنصر المفاجأة مجالا.
الطعام وما أدراك ما الطعام؟! قبل كل وجبة بساعة يأتيك طباخ السجن بقائمة تحتوي على مائة صنف من الأطعمة، ومائتين من المشروبات، وورقة فارغة لكي تكتب فيها ما تريد أكله، وهو لا يوجد ضمن المائة صنف. تفاحك من لبنان وحيفا، وعنبك من عرائس كروم قبرص، وإذا شئت أن تطعم مما تطبخ زوجك يوميا، لكان لك ذلك، يا أخي، بالسجن عالم من المفاجآت والدهشة، وكيف لا وأنت أمير؟
الرياضة! القراءة! الجري! تنس الطاولة، ما هي مواهبك؟ بل ما هي أحلامك؟ ماذا تريد في هذه الدنيا؟ ما هواياتك؟، شطرنج؟ هل تلعب الشطرنج بالكمبيوتر؟ لك طبيب خاص، ولك ممرضتان تجدهما قربك وقتما شئت، وبإمكانك اختيارهما من بين أجمل الفتيات المستوردات من شرق آسيا، وأخيرا أخذت السجون في بلادنا تستورد فتيات من روسيا بعد انهيار الشيوعيين هنالك، بالسجن يا أخي ... بالسجن يا أخي ...
كان يحكي في برود معلوماتي قاس، أما الأستاذ صابر الدقيس، فقد ذهب بفكره وقلبه بعيدا، بعيدا في مجاهل الحلم الواقع، الغد البائس، الأصدقاء.
وداعا أيها المعلمون، أيها البائسون، حشرات العدس والفول والشاي الماسخ، ديدان الطباشير المنقرضون، يا أحبائي المساكين.
هتفوا بصوت واحد أجوف: فور وصولك أرسل إلينا عقود مساجين، ألف عقد وعقد، اطلب منهم أن يفتحوا سجونا جديدة، وقل لهم هناك مساجين في انتظار السجن! فمدوا إليهم يد العون والمساعدة، يمد الله في أعماركم مدا.
السجن يا أخي في بلادنا، جنة، جنة، جنة على الأرض، يا أخي، وما نقدمه إليك مقابل ذلك مال سخي يدهشك، فحين توقيع العقد، نسلمك شيكا بمبلغ أربعة ملايين دولار، يمكنك إيداعه بالبنك باسم زوجتك أو أحد أطفالك، شهريا سيضاف لرصيدك بإشارة بنكية مبلغ ألف دولار، هذا فضلا عن نثرياتك ومصروفك الشخصي، أضف إلى ذلك المعاش الوراثي، لحياة آخر فرد من أسرتك، يا أخي، هذه هي فرصة العمر، والعمر فرصة واحدة لا غير، وإن أميرك هذا رجل كريم شهم، وما ألصقت به من تهمة إلا مؤامرة خبيثة دافعها الحسد والغيرة، والذين يعرفونه عن قرب، الملوك والأمراء، يشهدون أنه ليس باستطاعته إيذاء نملة، دعك من ارتكاب جريمة! وكان بإمكانه ألا يمثل أمام القضاء ولا يرضخ لحكمهم، ولكنه يريد للعدالة أن تأخذ مجراها، فنحن ومهما يقول الغرب عنا إلا أننا ديمقراطيون في عمق أخلاقنا وثقافتنا. - يا أبي، بابا صابر، قل لهم يوفرون لنا حجرتين ملآنتين باللعب والبسكويت. - وأنا أريد كوكاكولا أيضا. - قل لهم يا أبي إنهم لا يرفضون طلبك، وإلا بلغت الأمير ليقوم باللازم. - هل يسمح لي بزيارتك؟ أنا لا أستطيع البقاء من دونك، ولا أتحمل مسئولية التربية، فأنت تعرف أن الأطفال يفسدون دون رعاية والدهم؟!
Bog aan la aqoon
ليس بإمكان أحد زيارتك وأنت في السجن؛ لأنك مخفي تحت اسم ولباس أمير ووجهك سيظل مغطى بحجاب دائم، مثلك مثل كل السجناء الذين ينحدرون من أصول عريقة وأسر لها مكانة اجتماعية أو سياسية كبيرة، فهم لا يحبون أن يميزهم أحد، وماذا تريد من زوجتك، هل ستحتاج إلى زوجتك؟ - هل قالوا لك أربع سنوات؟
ألا تشتاق للمشي في الشوارع المشمسة وأكل التسالي تحت أشجار المهوقني قرب المدرسة؟ ألا تشتاق للصلاة بالزاوية مع الأحباء؟ ألا تشتاق لقهوة الظهر، ونسة العشاء، ألا تشتاق لأطفالك وهم يتواثبون على حجرك، وبأيديهم بقايا حلوى وطبيخ، بصدورهم شيء من الريال، فيلوثون ثيابك ولا تستطيع أن تنهرهم إلا مبتسما، ألا تشتاق ...؟ - لا يهم، لا يهم، عندما تعود ستعوض كل ذلك وأكثر، ستعود لأطفالك بالمال الوفير، وحينها: سحقا للملاريا، سحقا لسوء التغذية، سحقا للرمد، سحقا ... - لا تكن عاطفيا أكثر من اللازم، السجن يا أخي بالنسبة لك طوق نجاة، وأعرف أنك ستفتقده يوم خروجك منه. - ومن يعلم، فقد يصدر عفو ملكي عام ويشمل أول ما يشمل أنت، وتكون قد أفدت من العقد كما لو أنك قضيت السنوات الأربع. - سافر، سافر، سافر، أنت الآن في سجن كبير، فما يهم أن تدخل حجرة منه، هي جنة حقه. - أمامك ساعتان للتفكير، اجلس في المكتب المجاور واستشر نفسك، ولا تشغل نفسك بإجراءات السفر، جوازك، الكشف الطبي، إيصال مصروف أبنائك، أو حضورهم لوداعك، فكر يا أخي؟ - أنت ترفض نعمة الله، سجن ... أهذا سجن! الذي أنت فيه الآن، ألست أنا مدير المدرسة، وإنني وريث لمال تعلم أنت قدره، إذا وجدت فرصتك هذه فإنني لن أتردد لحظة واحدة في الموافقة، هذا رزق ساقه الله إليك. - أقول بصراحة، أنا متشككة في هذا الموضوع؟ هل هناك أمير يسجن؟ إنهم ربما يودون سجنك بدلا عن تاجر مخدرات ثري، أو أي شخص، المهم الأمر برمته ليس مفهوما لدي. - دعيني أقول لك بصراحة أيضا: إنك امرأة أحادية النظرة دائما تنظرين إلى الأمور من زاوية الظل، الزاوية العمياء، تفاءلي لمرة واحدة في حياتك. - موافق، موافق، متى السفر، أريد أن أسافر الآن. - أقرأ العقد أولا.
في يوم الثلاثاء الموافق الأول من مايو 1997م، وعند العاشرة صباحا وبينما كانت زوجته، المعلمة بمرحلة الأساس، تستلم حوالة بنكية بمبلغ أربعة ملايين دولار، ولولا أنها كانت مشغولة البال بأسئلة ملحة في رأسها: لماذا لا يخبرني؟ هل كان يظنني سأقف دون سفره؟ هل سأحرمه وأحرم أبنائي كل هذه الثروات؟ لماذا يسافر هكذا فجأة ودون علم أحد؟ وأيضا، لولا أنها كانت مأخوذة ببريق الدولارات الخضراء، ذلك البريق الفسفوري الآخذ بالألباب، لسمعت صوت المذيع الرخيم يعلن إعدام الأمير حران بن البحر المجيعد بعد محاكمة سريعة وسرية إثر قتله لوالده الشيخ المجيعد، وقد تم إعدامه صبيحة الأمس بالكرسي الكهربائي، ووريت جثته الثرى، بصمت تام.
2000
صاحبة المنزل
1
هو شخص عادي، عادي مثلك، يعشق السلام ويحب أن يكون آمنا محبوبا، فهو مثلك يحب أن يكون محاطا بالنساء الجميلات ولكن المرأة الجميلة عنده هي ليست مارلين مونرو أو صوفيا لورين ولا حتى ملكة جمال ملكات جمال العالم.
المرأة الجميلة عنده هي المرأة التي تقبل أن تذهب معه إلى مسكنه، أو وجره كما يسميه، حجرته الطينية الغبشاء وتجلس على عنقريبه المتهالك العجوز ذي اللحاف المتسخ ببقايا الصاعوط وكاسات العرق الأخيرة، والتي قد يضطر إلى شرابها وقد بلغ السكر أشده فتندفق على اللحاف مذيبة بقايا الصاعوط فيشكل المزيج خرائط بائسة.
فهي إذا امرأة بالغة الجمال إذا شربت من جركانة الماء المملوءة منذ يومين، التي بنى الطحلب على جوانبها - أخضر لزجا وماسخا - مستعمراته، إذا هي أجمل من هيلين طروادة إذا تمطت على عنقريبه ثم ... نامت، هو شخص عادي وبسيط مثلك، فلماذا لا يهيم بالصبية الردفاء التي تبيع السمسمية عند الحنية الصغيرة قرب بيته، الصبية التي عرف أنها جميلة منذ أول جملة قالتها له عندما استدان منها ولأول مرة قطعة سمسمية كبيرة. - أأنت الذي يسكن ذلك المنزل؟
مشيرة بإبهامها الرقيق - رغم سمنته - نحو وجره.
Bog aan la aqoon