لم أسمع من خلال الجدار صوت شريفة وهي ترد عليه؛ ربما ردت بصوت خافت لم أسمعه، أو أنه وضع يده على فمها قبل أن ترد؛ لأني سمعت صوتا يشبه اليد حين تلامس الفم، تبعه صوت آخر يشبه صوت اليد حين تلامس الوجه، ثم تتابعت أصوات خافتة لم أميز أهي قبلات عنيفة أم صفعات خفيفة، وسمعت صوت شريفة يعترض: لا يا فوزي، لا. ويرد عليها بصوت غاضب كالفحيح: لا إيه يا مره؟ ويطقطق السرير تحتهما، وأعود أسمع أنفاس شريفة المتقطعة تلهث، وتعترض مرة أخرى: لا يا فوزي، حرام عليك والنبي. ويعود فحيحه الغاضب اللاهث: حرام إيه ونبي إيه يا مره؟ مين شوقي ده عشان ادبحه! وتشتد طقطقة السرير، يتلاحم فوقه جسدان يتصارعان، يلتصقان ثم يبتعدان، ويلتصقان ويبتعدان في حركة مستمرة لم تلبث أن أصابتها سرعة غريبة شبه مجنونة هزت السرير من تحتهما هزات عنيفة متلاحقة كالأنفاس اللاهثة، والأرض أيضا أصبحت تهتز وتلهث معهما، والجدار بيني وبينهما أصبح يهتز، والسرير الذي أرقد عليه بدأ يهتز.
وصلت الاهتزازة العنيفة إلى رأسي فأيقظتني من النوم فجأة، وتراءى لي وجه فوزي من خلال ضباب كالحلم، وعاد إلى أذني صوته وهو يقول: شريفة تضحك عليك وتكسب من ورائك. ثم صوت شريفة وهو يقول: إذا ضربتني سأضربك يا فوزي. وفتحت عيني فوجدت جسدي ممدودا فوق السرير وليس إلى جواري رجل، والحجرة من حولي مظلمة خالية ليس بها أحد. سرت على أطراف أصابعي إلى حجرة شريفة، فرأيتها راقدة عارية وإلى جوارها فوزي. عدت إلى حجرتي على أطراف أصابعي، وارتديت أول فستان وقع تحت يدي، وأخذت حقيبتي الصغيرة وخرجت إلى الشارع.
كانت الدنيا ليلا، ليلا أسود بغير قمر، والفصل شتاء، شتاء باردا قارصا، وشوارع القاهرة خالية تماما، والنوافذ والأبواب كلها مغلقة بإحكام لا ينفذ منها الهواء، وأنا أسير في البرد ومن حول جسدي فستان رقيق شفاف، لكني لا أشعر بالبرد، تحوطني الظلمة من كل جانب، وليس لي في هذه الدنيا كلها مكان أذهب إليه، لكني لم أعد أخاف، لا شيء في الشارع يمكن أن يخيفني، ولا هواء بارد يمكن أن يقرصني، هل تغير جسدي؟ هل أصبحت أحمل جسد امرأة أخرى؟ وأين ذهب جسدي الحقيقي؟!
لكني سرعان ما نظرت إلى أصابع يدي، أصابع يدي هي أصابع يدي، أصابع رفيعة طويلة قال عنها أحد الرجال: إنه لم ير في حياته مثلها؛ فهي أصابع فيها قوة وذكاء، ولها لغة، وإنه حين يقبلها تحدثه بصوت يكاد يسمعه. ضحكت وقربت أصابعي من أذني ولم أسمع شيئا، ضحكت مرة أخرى، وسمعت صوت ضحكتي بأذني، دهشت وتلفت حولي، خشيت أن يسمعني أحد وأنا أضحك وحدي، فيسوقني إلى مستشفى العباسية. لم أر أحدا في الظلمة، لكني رأيت رجلا من رجال البوليس مقبلا نحوي، أمسكني من ذراعي وقال: إلى أين تذهبين؟ قلت: لا أعرف. قال: أتأتين معي؟ قلت: إلى أين؟ قال: إلى بيتي. قلت: لا. لم أعد أثق في أي رجل! وفتحت حقيبتي الصغيرة وجعلته يرى شهادتي الثانوية، وقلت له: إنني سأبحث عن عمل بالثانوية أو بالابتدائية أو أي شيء آخر آخذ منه أجرا. قال: سأعطيك أجرك، ولا تظني أنني سآخذك بالمجان؛ فلست كغيري من رجال البوليس. كم تأخذين؟ قلت: كم آخذ! لا أعرف. قال: لا تتخابثي علي ولا تساومي معي، وإلا أخذتك إلى نقطة البوليس. قلت: لماذا تأخذني؟ أنا لم أفعل شيئا. قال: أنت مومس، وواجبي هو أن أقبض عليك وعلى مثيلاتك لنطهر الوطن منكن ونحمي العائلات الكريمة من فسادكن، ولكني لا أريد أن أستخدم معك الشدة، ويمكن أن نتفاهم بهدوء، سأعطيك جنيها كاملا. ما رأيك؟
حاولت أن أفلت من يده، لكنه أمسكني، وسار بي في أزقة ضيقة مظلمة، ثم أدخلني من باب خشبي صغير، وأرقدني على سرير، ثم خلع ملابسه، وأغمضت عيني، فأحسست بالثقل من فوقي، والحركة بالأصابع والأظافر السوداء، والأنفاس اللاهثة، والعرق اللزج العطن، واهتزازة السرير والأرض والجدران كأنما الدنيا تدور، وفتحت عيني ونهضت أشد جسدي من فوق السرير، وارتديت الفستان، وأسندت رأسي المنهك على الباب لحظة قبل أن أخرج، وسمعت صوته من خلفي يقول: ماذا تنتظرين؟ ليس معي نقود الليلة، سأعطيك المرة القادمة.
سرت في الحواري الضيقة والدنيا لا تزال ليلا، والهواء لا زال باردا قارصا، والمطر بدأ يهبط، وتراب الأرض أصبح طينا يغوص فيه حذائي، وأكوام من القمامة أمام كل بيت، ورائحة عطنة تحوطني من كل جانب وتغرقني، وأنا أسرع الخطى، أريد أن أخرج من الحواري إلى الشارع الأسفلت، أي شارع من الأسفلت أدوس عليه فلا يحوط حذائي الطين.
حين وصلت الشارع الأسفلت كان المطر لا يزال ينهمر، فوقفت تحت مظلة إحدى محطات الأتوبيس، أخرجت منديلي من حقيبتي، ومسحت وجهي وشعري وعيني، رأيت من تحت المنديل شيء أبيض ظننت أول الأمر أنه المنديل، ورفعت المنديل عن عيني، لكن الضوء ظل في عيني قويا بسبب الضوء الذي يصدر عن الأتوبيس، ظننت أن الفجر طلع أو المواصلات بدأت، لكنه لم يكن الأتوبيس، كانت سيارة ظلت واقفة أمامي وضوءها القوي في عيني، ثم هبط منها رجل دار حول السيارة في خطوات سريعة، وفتح الباب ناحيتي، وانحنى وهو يقول لي بأدب شديد: تفضلي، ادخلي من هذا البرد والمطر.
كنت أرتعد من الصقيع، وفستاني الخفيف المبلل بالمطر يلتصق بجسدي، ويشف من تحته ثدياي بغير مشد، وحلمة الثدي دائرة سوداء بارزة، ضغط عليها بيده وهو يساعدني في ركوب السيارة، وفي بيته الدافئ خلع عني الفستان والحذاء ذي الطين، وغسل جسدي بماء دافئ وصابون، ثم حملني إلى السرير، وأغمضت عيني فأحسست الثقل فوق صدري وبطني، وحركة الأصابع نفسها، لكن الأظافر نظيفة مشذبة، والأنفاس تلهث برائحة معطرة، والعرق غزير لزج، ولكنه غير عطن.
حين فتحت عيني كان ضوء الشمس يغرقني، وتلفت حولي لا أعرف أين أنا، ورأيتني في حجرة نوم أنيقة، ورجل غريب يقف أمامي، نهضت بسرعة وارتديت فستاني وحذائي، وبينما أنا أمسك حقيبتي الصغيرة لأخرج من الباب، مد يده ووضع في يدي ورقة بعشرة جنيهات، وكأنما انقشعت عن عيني غشاوة، فإذا بي أبصر لأول مرة في حياتي حركة يدي وهي تلامس الورقة المالية، حطمت اللغز ومزقت الستار الذي حجب عني حقيقة عرفتها وأنا طفلة، حين أعطاني أبي لأول مرة قرشا. لم يكن أبي يعطيني مصروفا، كنت أشتغل في الحقل والدار، وآكل مع أمي ما يبقى من أبي، وإذا لم يبق شيء نمت بغير عشاء، وفي العيد الكبير رأيت العيال يشترون من الدكان الحلوى، فذهبت إلى أمي وبكيت، وقلت لها: أعطيني قرشا. وقالت أمي: ليس معي قروش، القروش مع أبيك. وذهبت إلى أبي وقلت له: أعطني قرشا. فضربني على يدي وقال: ليس معي قروش. لكنه ناداني وقال لي: سأعطيك قرشا إذا فتح الله علينا وبعت الجاموسة قبل أن تموت، ورأيت أبي يصلي ويدعو الله أن يمد في أجل الجاموسة، لكن الجاموسة ماتت قبل أن يلحقها أحد، وكف أبي عن الصلاة والدعاء، وظل صامتا طوال العيد، وكلما كلمته أمي انقض عليها وضربها. ولم أطلب منه القرش. وجاء العيد الصغير ورأيت الحلوى في الدكاكين، فقلت لأبي: أعطني قرشا، فقال: تطلبين القرش في أول النهار؟ اذهبي واكنسي تحت البهائم، وحملي الحمارة وخذيها إلى الحقل، وفي آخر النهار سأعطيك القرش، وأعطاني القرش حين عدت من الحقل، أول قرش يعطيه لي، أول قرش يصبح لي، أضعه في كفي وأحوطه بأصابعي وأضغط عليه؛ فهو قرشي أنا، ليس قرش أبي ولا قرش أمي، ولكنه قرشي أفعل به ما أشاء، وأشتري به ما أشاء، وآكل به ما أشاء: حلوى أو خروبا أو عسلية أو أي شيء أختاره.
كانت الشمس مشرقة في ذلك اليوم، وكنت أسير بخطوات سريعة نشطة، قبضة يدي اليمنى قوية، تضغط على شيء داخل كفي، شيء ثمين ليس قرشا واحدا، وإنما ورقة بعشرة جنيهات كاملة، أول مرة أمسك ورقة مالية بهذا الحجم، وأول مرة تلامس الورقة يدي، والتلامس المفاجئ يجعل جسدي ينتفض انتفاضة غريبة ترج كياني بعنف يكاد يصل إلى حد الألم، أحسه ينبعث كأنما من جرح غائر في أحشائي، يؤلمني حين أشد عضلات ظهري وأتنفس بعمق، وأحس به يصعد إلى بطني كالرعشة، كأنما الدم يرتعش في عروقي، وسخونة الدم في صدري تصعد إلى عنقي وتذوب في حلقي لعابا غزيرا يملأ فمي بالدفء، وله طعم لذيذ شديد اللذة إلى حد المرارة.
Bog aan la aqoon