خيل إلي في الظلمة أنني مددت يدي وأمسكت بها، أو أنها هي التي مدت يدها وأمسكت بي، وأحسست التلامس المفاجئ، فانتفض جسدي بألم دفين يشبه اللذة، أو هي في الحقيقة لذة تشبه الألم، لكنها لذة بعيدة في القاع البعيد ، قديم! أقدم من ذاكرتي، وأقدم من عمري الذي أذكره، فإذا بي أنساها بمجرد أن أذكرها، فكأنها حدثت لي يوما ثم ضاعت في الزمن، أو أنها لم تحدث على الإطلاق.
وانفرجت شفتاي لأقول لها، لكنها قالت لي: لا تقولي شيئا يا فردوس، وقادتني من يدي بين صفوف الجالسين حتى وصلنا إلى المنصة حيث وقفت الناظرة وتسلمت أبلة إقبال شهادتي، ووقعت بأنها استلمت شهادة تفوقي، وقرأت الناظرة مجموع درجاتي في العلوم، وسمعت ضجة في القاعة تشبه التصفيق، ومدت الناظرة يدها بعلبة ملفوفة في ورق ملون، ومن حولها شريط أخضر رفيع، ومددت يدي لكن يدي لم تمتد، ورأيت أبلة إقبال تقترب مرة أخرى من الناظرة، وتأخذ العلبة الملفوفة، ثم عادت بي بين صفوف الجالسين إلى حيث كنت أجلس، وجلست، فوضعت الشهادة ومن فوقها العلبة على ركبتي.
وانتهى العام الدراسي، وجاء الآباء وأولياء الأمور واستلموا بناتهم، وأرسلت الناظرة برقية إلى عمي، فجاء هو الآخر واستلمني، لم أكن رأيت أبلة إقبال بعد الحفل، وحين دق جرس النوم في تلك الليلة لم أنم، سرت إلى الفناء، وجلست في الظلمة وحدي.
وكلما سمعت صوتا من بعيد أو أحسست حركة ما تلفت حولي، ورأيت كتلة بحجم الجسم تتحرك قرب مدخل الفناء، فانتفضت واقفة، قلبي يدق ورأسي يدق وصدري يدق، وخيل إلي أن الجسم الذي رأيته يقترب مني، فسرت نحوه في الظلام ببطء، وفي حركة السير أدركت أن العرق الغزير قد بلل كل جسدي بما في ذلك شعر رأسي وبطن يدي، وشعرت بشيء من الخوف وأنا أسير في الظلام وحدي، فناديت بصوت خافت لم يصل إلى أذني: أبلة إقبال، ولم أسمع صوتا، واشتد خوفي، لكني كنت لا أزال أرى في الظلمة كتلة بحجم الجسم، وقلت بصوت عال سمعته بأذني هذه المرة: من هناك؟ وكأنما بدد الصوت العالي الحلم كمن يتكلم وهو نائم فيصحو على الصوت. وانقشعت الظلمة عن جدار قصير بني أمام مدخل الفناء، جدار قصير بطول الإنسان وبغير طلاء، خيل إلي أنه بني هذه اللحظة فقط، وإن كنت رأيته من قبل.
وقبل أن أترك المدرسة لآخر مرة، ظللت أتلفت حولي، عيناي تمسحان النوافذ والجدران والأبواب، تترقبان شيئا يفتح فجأة وتطل منه عيناها لحظة قبل أن أمشي، أو تلوح لي يدها بحركة الوداع العادية، ولكن عيناي تكفان عن الحركة، وفي كل لحظة أفقد الأمل، لكن الأمل سرعان ما يعاودني، وعيناي تروحان وتجيئان بسرعة، وصدري يعلو ويهبط بسرعة أشد، وقبل أن يخرج عمي إلى الشارع وأنا معه، قلت له وأنا ألهث: أرجوك، انتظرني لحظة أخرى، وحين أصبح عمي في الشارع وأنا من خلفه، ومن خلفي باب المدرسة الذي أغلق خلفنا، ظللت أنظر إلى الباب، ظللت أنظر إلى الباب المغلق كأنما سيفتح، كأنما الباب فعلا سيفتح.
وسرت خلف عمي بخطوات ثقيلة والباب المغلق لا زال في عيني، حين أشرب أو آكل أو أنام يظل الباب المغلق أمام عيني، كنت أعرف أنني أصبحت في بيت عمي، وأن امرأة تعيش معه هي زوجته، وأن أطفالا يجرون في البيت هم أولادهما، وأن البيت ليس فيه مكان لي إلا الكنبة: كنبة خشبية صغيرة في حجرة الطعام، لا يفصلها عن حجرة النوم إلا جدار رفيع، يصلني من خلاله كل ليلة أصوات خافتة: - ليس من السهل هذه الأيام الحصول على عمل بالثانوية، وهي لا تعرف أن تكتب على الآلة الكاتبة، لا تعرف أعمال السكرتارية أو الاختزال أو مسك الدفاتر أو أي شيء من هذا القبيل. - وماذا تعرف إذن؟ - لا شيء، هذه المدارس الثانوية العامة لا تعلمهم شيئا، كان من الأفضل أن أدخلها مدرسة التجارة المتوسطة. - كان فعل ماضي، ولكن الآن ماذا ستفعل بها؟ - يمكنها أن تبقى معنا حتى أجد لها عملا. - قد يبقى هذا الحال من عام إلى عشرة، والبيت ضيق والدنيا غلاء، وهي تأكل ضعف ما يأكله كل عيالنا. - إنها تساعدك في أعمال البيت والأولاد. - عندنا الخادمة، وأنا أطبخ، ولسنا في حاجة إليها. - قد تخفف عنك الطبخ، وتتفرغين أنت لرعاية الأولاد. - طبخها لا يعجبني ولا يعجبك أيضا، ألا تذكر «البامية» التي طبختها لنا وقلت لي: إنها ليست البامية التي تعودت أن تأكلها من بين يدي؟ - يمكنك أن تبقيها بدل سعدية، ونوفر أجر الخادمة. - لا يمكن لها أن تسد بدل سعدية، سعدية خفيفة سريعة، قلبها حام، وأكلها قليل، ونومها خفيف، أما هي فثقيلة الحركة باردة القلب. - وما العمل؟ - يمكننا التخلص منها بإرسالها إلى الجامعة، وتعيش في بيت الطالبات. - الجامعة؟ لتجلس بجوار الرجال؟ شيخ محترم ورجل دين مصل يرسل ابنة أخيه لتخالط الرجال؟! ثم من أين آتي بمصاريفها في بيت الطالبات، وثمن الكتب واللبس، والدنيا غلاء كما تعرفين، والأسعار تزيد بسرعة مجنونة، وراتب الحكومة لا يزيد كل عام إلا بضعة ملاليم؟! - عندي فكرة هائلة يا سيدنا الشيخ. - ما هي؟ - خالي الشيخ محمود رجل صالح، ومعاشه كبير، وليس له أولاد، وهو وحيد منذ ماتت زوجته العام الماضي، ولو تزوج الشيخ محمود فردوس، لعاشت معه حياة طيبة ووجد فيها الزوجة المطيعة التي تخدمه وتؤنس وحدته، فردوس كبرت يا سيدنا الشيخ ولا بد أن تتزوج؛ إن بقاءها حتى الآن بغير زواج شيء خطر، فردوس بنت طيبة، ولكن أولاد الحرام كثيرون. - أنا معك، ولكن الشيخ محمود كبير في السن عليها. - من قال إنه كبير؟! إنه لم يحل إلى المعاش إلا هذه السنة، وفردوس ليست صغيرة؛ مثيلاتها من البنات تزوجن من سنين وأنجبن، والرجل الكبير المضمون الذي يعاملها معاملة طيبة أفضل من الشاب الذي يهينها ويضربها؛ أنت تعرف أخلاق الشباب هذه الأيام. - أنا معك، ولكن لا تنسي هذه العاهة الواضحة في وجهه. - عاهة! من قال إنها عاهة؟! ثم إن الرجل لا يعيبه إلا جيبه يا سيدنا الشيخ. - وإذا لم ترض فردوس به؟ - ولماذا لا ترضى به؟! ليس أمامها فرصة أحسن منه، لا تنس أن لها أنفا مكورا كبيرا كالكوز، ليس عندها ورث ولا إيراد ولا معاش، ولا يمكن أن نجد لها زوجا أفضل من الشيخ محمود. - وهل يوافق الشيخ محمود؟ - لو أنا كلمته في الموضوع سيوافق، ويمكنني أيضا أن أطلب مهرا كبيرا. - كم؟ - مائة جنيه أو حتى مائتين إذا كان معه. - إذا دفع مائة فهذا فضل من عند ربنا، وأنا لا أطمع في أكثر من هذا. - سأبدأ معه بمئتين، أنت تعرف أنه رجل يموت على القرش، ويجادل بالساعات من أجل تعريفة. - إذا وافق على مائة فهذا فضل من عند الله، ويمكنني أن أسدد الدين الذي علينا، ويتبقى شيء نشتري به لفردوس بعض الملابس الداخلية وفستانا أو اثنين، لا يمكن أن نزوجها بملابسها التي عليها. - ولا تحمل هم جهاز أو عفش، بيت الشيخ محمود كامل من كل شيء وأثاث المرحومة زوجته شغل متين وأصيل، أفضل بكثير من شغل هذه الأيام الفالصو. - معك حق. - والله يا سيدنا الشيخ ابنة أخيك فردوس هذه ربنا يحبها، وسيكون لها حظ لو أن الشيخ محمود رضي بها. - أتظنين أنه سيرضى؟ - طبعا يرضى، ولماذا لا يرضى؟! يكفيه أنه سيناسب شيخا محترما ورجل دين مثلك. - ربما يفكر في امرأة من أسرة غنية، أنت تعرفين أنه يعبد القرش. - وهل أنت فقير يا سيدنا الشيخ؟! حالنا أحسن من حال الكثير، نحمد الله على كل شيء. - أي نعم، نحمده ونشكره سبحانه وتعالى على كل شيء، أي نعم نحمده ونشكره.
أسمعه وأنا راقدة يقبل يده مرتين وهو يردد: نحمده ونشكره، القبلة الأولى يطبعها على بطن يده، ويقلب يده ثم يطبع القبلة الثانية على ظهرها. ومن خلال الجدار الرفيع يصل إلي صوت القبلتين واحدة وراء الأخرى، وما هي إلا لحظات حتى ينتقل صوت القبلات من يده إلى يد زوجته أو ذراعها أو ساقها؛ لأنني أبدأ في سماع صوتها وهي تشد منه ذراعها أو ساقها وتقول له: لا يا سيدنا الشيخ، لا، ويرد عليها بصوت خافت كالفحيح: لا إيه يا مرة! ويطقطق السرير تحتها، وأعود أسمع أنفاسها المتقطعة تلهث، وتعترض مرة أخرى: لا يا سيدنا الشيخ، حرام عليك والنبي، ويعود فحيحه اللاهث يقول مرة أخرى: حرام إيه ونبي إيه يا مرة؟ أنا زوجك وأنت مراتي، وتشتد طقطقة السرير، يتلاحم فوقه جسدان ثقيلان يتصارعان، يلتصقان ثم يبتعدان، ويلتصقان ويبتعدان في حركة مستمرة تبدأ أول الأمر ثقيلة بطيئة، ثم لا تلبث أن تنتابها سرعة غريبة مجنونة، تهز السرير وتهز الأرض، وتهز الجدار بيني وبينها، وتهز الكنبة الخشبية التي أرقد عليها، ويهتز جسدي هو الآخر من فوق الكنبة، وأجدني ألهث معهما وبالسرعة الرهيبة نفسها، وحينما يهبطان وتهدأ أنفاسهما أهدأ أنا الأخرى، وتعود أنفاسي إلى سرعتها البطيئة المنتظمة، وأرغب في النوم وأنا غارقة في بحر من العرق.
في الصباح أعددت الفطور لعمي، وكلما رفع إلي عينيه حين أناوله كوبا أو فنجانا حركت عيني إلى الناحية الأخرى. وانتظرت حتى خرج، فدخلت إلى كنبتي الخشبية، وأخرجت من تحتها حذائي فلبسته، وارتديت فستاني ووضعت قميص نومي وشهادتي الثانوية وشهادة تفوقي في حقيبتي الصغيرة. كانت زوجة عمي في المطبخ تطبخ، وسعدية الخادمة في حجرة الأولاد تطعمهم، وجاءت ابنة عمي الصغيرة «هالة»، واتسعت عيناها السوداوان وهي تنظر إلى حذائي وفستاني والحقيبة الصغيرة، لم تكن تعلمت الكلام بعد، ولا يمكن لها أن تنطق اسمي كاملا فردوس، ولكنها تناديني باسم «دوس» وهي الوحيدة بين أخواتها التي تبتسم حين تراني، أو تناديني وأنا أجلس وحدي في الحجرة، وتأتي إلي وتقفز على الكنبة وتقول: «دوس، دوس»، وأربت على رأسها وشعرها وأقول: نعم يا هالة، وتقول: دوس، دوس، وتضحك وتحاول أن تلعب معي، لكن صوت أمها من الحارة يناديها، فتقفز من فوق الكنبة وتجري إليها وهي تتأرجح على ساقين صغيرتين.
وظلت هالة تنقل عينيها من حذائي إلى فستاني إلى الحقيبة، وقالت وهي تمسك بذيل فستاني: دوس، دوس، وأعطيتها صورة من صوري لأشغلها، وفتحت باب الشقة ثم أغلقته خلفي بهدوء شديد، وسمعت صوتها من وراء الباب يناديني: دوس، دوس، فأسرعت قدماي تهبطان السلم، وظل صوتها في أذني حتى وصلت نهاية السلم، وخرجت إلى الشارع، وحين سرت في الشارع ظللت أسمعه من خلفي، فاستدرت ونظرت، ولكني لم أجد أحدا.
وسرت في الشارع كما كنت أسير كل مرة، سوى أنني هذه المرة لم أكن ذاهبة إلى مكان محدد، فلم أكن أعرف بعد إلى أين أذهب، ورفعت عيني إلى الشارع، وكأنما أرى الشارع لأول مرة في حياتي، كأنما عالم آخر يفتح أمامي لم يكن موجودا من قبل، أو أنه كان موجودا ولم أكن أراه، كيف لم أره من قبل؟ ولكني أصبحت كأنما عين جديدة فتحت في رأسي، ورأيت الناس السائرين على أقدامهم أو الراكبين في الأوتوبيسات والسيارات كلهم مسرعون، كلهم يهرولون دون أن يروا الشارع ودون أن يروني، ولأنهم لا يرونني فقد استطعت أن أراهم، السائرون على الأقدام ملابسهم رثة، أحذيتهم كعوبها متآكلة، ووجوههم شاحبة وعيونهم ذابلة مثقلة بهموم، مستسلمة لشيء أشبه بالحزن، والراكبون في السيارات أكتافهم عريضة مكتنزة باللحم، ووجوههم مستديرة، وعيونهم من وراء زجاج نوافذ السيارات حذرة متلصصة متشككة متربصة عدوانية في شبه ذلة، والراكبون في الأتوبيسات لا أرى وجوههم أو عيونهم، وإنما هي رءوس متلاصقة مكدسة، وظهور متزاحمة مكدسة بعضها فوق البعض، فوق سلم الأتوبيس وفوق سطحه، فإذا ما توقف الأتوبيس لحظة في محطة أو ما شابه المحطة، استطعت أن ألمح وجوها صفراء تلمع بالعرق وعيونا جاحظة مليئة بالذعر.
Bog aan la aqoon