وتنتهي الإجازة، ويركب عمي الحمارة، وأحمل فوق رأسي «السبت» الكبير مليئا بالبيض والجبن والفطير، ومن فوقه كتبه وملابسه، وأسير وراءه حتى محطة قطار الدلتا، ويحدثني عمي طوال الطريق عن حجرته في القلعة في نهاية شارع محمد علي، والأزهر، والعتبة الخضراء، والترام، والناس في مصر، ويغني بصوت عذب وهو يهتز فوق الحمارة: «في البحر لم فتكم، في البر فتوني.
بالتبر لم بعتكم، بالتبن بعتوني.
آه يا ليلي يا عيني آه.»
وحين يركب عمي القطار ويسلم علي أبكي وأقول له: خذني معك إلى مصر، ويقول عمي: ماذا ستفعلين في مصر يا فردوس؟! فأقول له: سأدخل الأزهر وأتعلم مثلك، ويضحك عمي ويقول: الأزهر لا يدخله إلا الرجال. وأبكي وأمسك بيد عمي والقطار يتحرك، لكنه يشد يده من يدي بكل قوته، فأقع على وجهي فوق الأرض.
وأعود أدراجي مطرقة الرأس، أتأمل شكل أصابع قدمي على الطريق الزراعي، وأسأل نفسي: من أنا؟ ومن أبي؟ ومن هي أمي؟ وهل سأقضي عمري كله أكنس الروث من تحت البهائم وأحمل السباخ فوق رأسي، وفي أيام الخبيز أعجن وأخبز!
وأدخل دار أبي، أنظر إلى الجدران الطينية كواحدة غريبة عن الدار لم تدخله من قبل، وأتلفت حولي وكأنما في دهشة، وكأنما لم أولد هنا، وإنما سقطت من السماء فجأة، أو خرجت من بطن الأرض؛ لأجد نفسي في مكان غير مكاني، ودار غير داري، وأب غير أبي، وأم غير أمي.
أكانت أحاديث عمي عن مصر والناس في مصر هي التي تغيرني؟ أم أنني كنت واحدة أخرى غير التي ولدتها أمي؟ أم أن أمي ولدتني حقا وأنا تغيرت؟ أو هي التي تغيرت وأصبحت امرأة أخرى تشبه أمي لكنها ليست أمي؟
كنت أحاول أن أذكر شكل أمي الحقيقي كما رأيتها لأول مرة في حياتي، عينان بالذات أذكرهما، لا أعرف شكلهما، عينان بالذات أرقبهما أو هما ترقباني، عينان وإن اختفيت عنهما ترياني وتتبعاني، فإذا تعثرت وأنا أتعلم المشي أمسكتاني.
كنت كلما أحاول المشي أقع؛ قوة من الخلف تدفعني لأنكفئ على وجهي، وقوة من الأمام تدفعني من بطن الأرض، وأنا بين كل ذلك أقاوم؛ أشد ذراعي وساقي وأحاول أن أنهض، لكني أسقط، وأتأرجح، تتجاذبني القوى المتصارعة من كل جانب، كحجر قذف به في بحر متلاطم بغير شاطئ وبغير قاع، يضربه الماء إذا غاص، ويضربه الهواء إذا طفا، فإذا به يغوص ويطفو، ولا شيء بين السماء والأرض يمسك به إلا هاتان العينان، أمسك بهما ويمسكان بي، عينان بالذات لا أذكر شكلهما، ضيقتان أم واسعتان، لهما رموش أم ليس لهما رموش، كل ما أذكره دائرتان من البياض الشديد داخلهما دائرتان من السواد الشديد، ما إن أنظر فيهما حتى يصبح بياضهما أشد وسوادهما أشد، كأنما يملؤهما ضوء الشمس، ينفذ إليهما من مكان سحري ليس على الأرض وليس في السماء؛ لأن الأرض مظلمة سوداء، والسماء ليل ليس فيه شمس ولا قمر.
عرفت أنها أمي، كيف عرفت؟ لا أدري. وزحفت إليها لتدفئني في صدرها، كانت دارنا باردة، وحصيرتي ووسادتي ينقلهما أبي في الشتاء إلى القاعة البحرية الباردة، ويأخذ مكاني في قاعة الفرن، وفي الصيف أجد حصيرتي ووسادتي في قاعة الفرن، ولم تكن أمي في الشتاء تدفئني، كانت تدفئ أبي، وفي الصيف أراها جالسة عند قدميه، وفي يدها كوز تغسل ساقيه بالماء البارد.
Bog aan la aqoon