Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Noocyada
هذا النضال بين كبرياء العلم وضعف الوهم هو إذن مدار قصة دوهامل كلها. وهو ينتهي إلى أن ضعف الوهم أقوى أثرا من كبرياء العلم، وأن ما لا نعرف من الغيب أبعد في حياتنا النفسية مدى مما نعرف من العلم؛ وأنا يجب لذلك أن نقيم للغيب في حياتنا وزنا، ونفرد له منها مكانا، وأن نعترف له أمام عقلنا بحق الوجود أن يصيبنا من إنكارنا إياه ما أصاب هذين الزوجين من بأساء عاما كاملا، بأساء لم ينجهما منها إلا مصادفة هي بعض الغيب الذي يحاولان إنكاره، الذي يخضعان مع ذلك له، ويضعفان أمامه ثم يجدان آخر الأمر فيه حصن الطمأنينة وموضع الرضا والنعيم.
ولست أدري ما عسى أن يكون رأي القراء في هذا الضرب من الفلسفة. بل لست أعرف لنفسي رأيا ثابتا فيه، وإن كنت لا أسيغه فلسفة للحياة وحكمتها. فأما الذي أعرفه فذلك أن لنا جميعا ساعات ضعف ننكر فيها علمنا، ونتنكر لماضينا، ونخضع فيها خضوعا أعمى للكمين في أعماقنا مما ورثنا عن أسلافنا، أو مما يقوله المحيطون بنا ولم يكن لرأيهم من قبل أي احترام عندنا. وكما أن السعيد بجهالته الكافر بهذا العلم الذي غير وجه الأرض القانع من العيش بإيمانه بكل ما نسميه الخرافة والوهم الناسب المرض، والعلة للحسد والجن - كما أن هذا الإنسان يذعن أحيانا ، فيذهب بمريضه إلى الطبيب منكرا إيمانه بأن الطبيب هو الله. كذلك يقع أن يذعن المؤمن بالعلم الشديد الاعتزاز به المنكر لكل شيء سواه، فيرضى أن يستمد العون أو الشفاء أو الهداية لنفسه أو لذويه من قوى كان من قبل يسخر منها ويزدري المؤمنين بها. وكثيرا ما حدث لبعض أكابر العلماء في مختلف الأمم أن أهوت عليهم مصائب من نواح مختلفة، فلم يجدوا آخر الأمر عاصما منها إلا الالتجاء لزيارة الأولياء والمقربين، ومن العلماء من نذر النذور ومنهم من أقرا أهله على نذرها. وهؤلاء الذين يقومون اليوم بتجارب مخاطبة الأرواح إنما تدفعهم إليها - في أكبر ظني - عاطفة كهذه العاطفة التي تذهب بالعالم لزيارة ولي أو النذر له. وهل زيارة الناس أجداث موتاهم لا تنطوي إلا على لذع من هذا الشعور الذي لا نجد له تفسيرا في العلم الواقعي، علم المشاهدة والتجارب، وإن وجدت له تفسيرا في هذا الضعف الإنساني الذي يبلغ في كثير من الأحايين من القوة ما لا تبلغه كبرياء العلم.
والحقيقة أن العلم قد كشف لنا عن كثير مما في الحياة، وأتاح لنا الاستمتاع بنعيمها إلى حد لم يكن يخطر بخيال أحد من قبل. والحقيقة كذلك أن الظمأ للمعرفة بعض طبائع الإنسان، فهو ما يكاد يقف على شيء ويكتنه بواطنه حتى تدفعه الطلعة؛ لكي يقلب في هذه البواطن أو يبحث عن جديد لما يخضع لعلمه. لكن الحقيقة كذلك أن المعرفة لا تلقي سببا للسعادة، بل إنها كثيرا ما تكون داعية قلق النفس واضطراب الخاطر. والسعادة، هذا الحلم الجميل الطائر أمام أعيننا بأجنحة من نور، هذا الأثير المحسن نتنسم في الجو ذراته، ونريد أن نستنشقها ملء صدورنا فلا نجد منها أبدا ما يكفينا، السعادة هي ما يجري بنو الإنسان وراءه من عهد آدم إلى اليوم. يجرون وما يكاد أحدهم يحسب نفسه أدركها حتى يجذبه من خلفه شيطان الشقاء فيصده عنها. هذه السعادة ليست في العلم؛ لأن العلم شهوة وليس من وراء شهوة سعادة، وكثيرا ما أكب علماء على العلم فأفنوا فيه حياتهم حتى إذا كانوا عند خاتمة المطاف منها لذعتهم الحسرة أن زادوا أنفسهم بعملهم هما، فأوصوا أن ينشأ أبناؤهم في الإيمان وأن يعمدوا وأن يرسلوا في الحياة على سجيتهم، وألا يطلبوا إلى العلم حل طلاسم الغيب. فعلمنا وإن اتسع المدى ضيق إذا قيس إلى مدى الوجود الذي لا نهاية له. بذلك أوصى تين وغير تين من أكابر العلماء الذي آمنوا صدر شبابهم بأن العلم هاتك حجب الغيب لا محالة، حتى إذا رأوا حجب الغيب لا تنتهي ضعفوا، وخيل إليهم أنهم كانوا يسعون وراء سراب لا حقيقة له، وإن كانت غاية هذا السراب كل الحقيقة.
ضعفوا فضعفت كبرياء العلم فيهم فنصحوا بالإيمان. وكثيرا ما قيل: إن الإيمان مظهر من مظاهر الضعف الإنساني، وأن النفس كلما كانت أشد قوة كانت أقل للإيمان حاجة. ولقد يكون هذا صحيحا، ولكنه إن صح لا ينفي أن الإيمان كمين النفس كمون الضعف فيها. وكما أنك ما دمت في مقتبل شبابك صحيحا قويا لا تعني بالقلب أين موضعه، ولا يهمك غير القلب من الأعضاء، ولا أن تعرف مكانه ولا تكوينه ولا ما يؤثر فيه ويتأثر به، فإذا دب إليك الهرم أو المرض ذهبت تستقصي عن هذه الأعضاء وخصائصها وما يتعلق بها وظهر أمام بصيرتك هذا الكمين المخبوء في أطواء جسمك، كذلك تراك من الإيمان والوهم أو الخرافة أو ما شئت فقل.
أنت لا تعرف من ذلك شيئا ما دمت قوي النفس جلدا على مكافحة الحياة. فإذا دب إلى نفسك هم أو بأس أو أضعفك هرم أو مرض، رأيت هذه الكامنات النفسية تظهر أمام بصيرتك من مخبئها في أطواء جوانحك، ورأيت وأنت العالم المنكر لهذا كله تشعر بمثل ما يشعر به من ليس له بعض علمك وفضلك. وكثيرا ما تعترض كبرياؤك العلمية على ما يثير الضعف من إيمان، ولكنك ترى نفسك في هذا النضال بين كبرياء العلم وضعف الوهم لأن تسلم لأيهما أقوى، أو لأيهما أشد صبرا وأقدر على المثابرة في السجال. وكثيرا ما تنتهي الغلبة للإيمان .
لقائل أن يقول: إن العلة ضعف والهم ضعف واليأس ضعف، وأن هذه كلها حالات مرضية تنكرها الصحة السليمة، فالإيمان المترتب عليها هو لذلك حالة مرضية هو الآخر. وإذا كان للمرض أن يغلب الصحة وأن ينتهي بنا إلى الموت، فليس معنى هذا أن المرض هو الحق، وأن الصحة ليست حقا، فالحياة والحق عدلان، والحياة والصحة عدلان، وكل حالة مرضية لا يمكن أن تعبر عن حقيقة الحياة. فالعلم إذن هو الذي يعبر عن هذه الحقيقة دون الإيمان. وكبرياء العلم هي كبرياء الحياة في عنفوان صحتها، وضعف الوهم وما يترتب عليه من آثار نفسية هو في الواقع مقدمة الانهيار إلى الموت وإلى الفناء. ونحن في كل مباحثنا العلمية إنما نجري وراء مظاهر الحياة نريد أن نثبت سننها، ولا نعني بالموت إلا بمقدار ما يمكن أن تتجدد به في صورة حياة أخرى.
ولهذا الاعتراض ظاهرة من الوجاهة. لكن الحال المرضية هي بعض حالات الحياة كحال الصحة سواء بسواء. والموت حقيقة واقعة هو الآخر له عند الناس حسابه، بل له عندهم جميعا أكبر الحساب. ولو أن الحياة لم يكن يشوبها المرض ويختمها الموت لكان لنا فيها سلوك غير سلوكنا الحاضر وآراء غير آرائنا وعقائد غير عقائدنا، بل لكان علمنا بما فيها مخالفا لعلمنا اليوم، ونظرنا لها مختلفا عن نظرنا في حياة يعتريها المرض ويتربص بها الموت في الخاتمة. هذا وإن كثيرا من مظاهر الضعف ليست من الحياة المرضية في شيء. فقصة دوهامل التي قصصنا في صدر هذه الرسالة بعيدة كل البعد عن أن يكون الضعف فيها ناشئا عن مرض. والفجيعة التي تودي بعزيز لديك أو تفقده وتترك ما تترك في نفسك من ضعف ليست مرضية بالمعنى المادي للكلمة، وأنت قد تشهد حادثا من الحوادث لا صلة له بك ولا أحد من ذويك، فيترك هذا الحادث في نفسك من عميق الأثر ما يثير فيها كمين الإيمان، ولو كنت أنت من أشد الناس انتصارا للعلم واقتصارا على طرائقه. ثم إن كثيرين من العلماء المؤمنين بالعلم، والذين كشفوا فيه عن جديد ذي قيمة كبرى يؤمنون بالغيب إيمانهم بالعلم؛ أو إيمانا هو في نفوسهم أكثر عمقا وأبعد أثرا، وهم بعد لم يصابوا ولم تجر عليهم تصاريف الدهر بما يسوء. وهذا ما أشار إليه مسيو دوهامل في قصته حين ذهب الزوج المسكين في مرض زوجه يسأل عالما من العلماء تقدم في السن، وكثرت أبناؤه: أهو يعتقد بالخرافة؟
s’il est superstitieux . فكان جواب العالم بالإيجاب. فليس ممكنا، وهذه هي الحال، أن نرى في الإيمان حالة مرضية حتى مع التسليم بأنه يقوم في النفس الإنسانية على جوانب الضعف فيها.
وفي رأينا أن الإيمان والعلم لا يتناقضان، وأن في النفس الإنسانية ما يتسع لهما جميعا، حتى لو أنك أخذت الإيمان في درجاته التي تنزل إلى الوهم وإلى الخرافة. فالعلم هو مجهود أفراد الإنسانية المتصل المتتابع؛ ليكشفوا رويدا رويدا عن حقائق الوجود، وهذه الحقائق لا تتناهى. وأنت كلما كشفت منها عن جديد تبدى لك بعده ما كانت الحقائق التي كشفت عنها تحجبه قبل أن يقع نور العرفان عليها، فأما الإيمان فما تتصوره نفس الفرد أو الجماعة الإنسانية من أثر هذا الوجود الرهيب فيها، وقد يتغير الشعور من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى أخرى. فجوانب رهبة الوجود متعددة في غير حد، كما أن جوانب العلم به متعددة إلى غير حد. وما دامت حياة الإنسان محدودة، وما دام كل واحد منا يبدأ جهادا جديدا للوقوف على ما أورثه أسلافه من العلم، ثم يرى نفسه بعد كل مجهوداته أمام غيب لا يقل عن العلم قوة ولا جلالا، ويرى أن عمر الحياة أقصر من أن يصل به إلى الكشف عن هذا الغيب؛ وأن الموت له بالمرصاد - ما دام ذلك كله فسيظل في النفس الإنسانية ضعف قد لا يعرف الإنسان الجانب الذي يكمن فيه، ثم إذا حادث من الحوادث قد جلى هذا الضعف وأبرزه واضحا صريحا.
وليس لدينا من سلطان نتغلب به على هذا الضعف إلا أن نعترف به ونذعن له، لا إذعان خضوع واستسلام، ولكن إذعان رضا وسلام، وما عسى يفيدنا، أو يفيد الإنسانية عن جهودنا، أن نقف حياتنا على مقاومته والعمل للتغلب عليه والاندفاع بذلك في سبيل من الأثرة التي لا جدوى لها ولا طائل تحتها! وإن لنا من ذلك عزاء وعنه سلوى في أن نوجه كل جهودنا للقيام بالواجب الذي تفرضه الحياة علينا، فليس منا إلا من تفرض عليه الحياة واجبا شريفا يستطيع أن يجد الطمأنينة الممكنة في الحياة بأدائه. هذا الواجب الشريف وسعينا المتصل في سبيله هو عوضنا عن كل ضعف يصيبنا، وهو قوتنا على الحياة والوسيلة لملكنا إياها فإذا مرت بنا في الحياة عاصفة حالت بيننا وبين القيام بواجبنا فلنطأطئ الرأس للعاصفة، ولنذعن لوحي إيماننا في الوسيلة لاتقائها، ولنا بعد ذلك من العمل الجد النزيه ما يرد إلينا القوة، ويذهب عنا الضعف والخوف. ولو أذعن بطلا قصة دوهامل لوحي ضميرها لما أضاعا سنة كاملة في نضال مستمر بين كبريائهما وإيمانهما، ولما تركت الحياة في نفسيهما جرحا إن اندمل يوما، فهو لا بد تارك أثره مذكر إياهما بضعف لا يلذ النفس ذكره.
Bog aan la aqoon