Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Noocyada
وقد وجد كومت في نفسه وفي نفوس معاصريه طريقتين عامتين من طرائق التفكير لا يتفق وجودهما معا من غير تعارض ولا تناقض. ولم تستطع إحداهما إلى يومنا هذا التغلب على الأخرى تغلبا حاسما. فهو يفكر عند النظر في عدة مجموعات من الحوادث تفكير عالم نشأ في مدرسة هيز وجاليليه وديكارت وتابعيهم، فلا يفكر في تفسير هذه الحوادث بأسبابها، ويقنع أن أوصلته الملاحظة أو أوصله الاستقراء لمعرفة قوانينها لما تسمح له به معرفة تلك القوانين من المداخلة أحيانا في شأن الحوادث؛ ليحل محل النظام الطبيعي نظاما صناعيا أكثر اتفاقا مع حاجاته، وهذا هو ما صير المظاهر الميكانيكية والفلكية والطبيعية والكيماوية، بل البيولوجية في نظره، موضوعات للعلم النسبي والوضعي (الواقعي).
ولكن متى كانت المسائل المراد النظر فيها راجعة أصولها إلى دخيلة ضمير الإنسان، أو متعلقة بالحياة التاريخية والاجتماعية، فهنالك تغلب على النفس وجهته مناقضة لتلك الوجهة الأولى. فلا يقتصر الذهن عندئذ على البحث وراء قوانين الظواهر، بل يزعم لنفسه القدرة على تفسيرها، ويندفع يريد الوصول لماهيتها وسببها. فهو يبحث في أمر الروح الإنسانية وفي علاقتها بحقائق العالم الأخرى، وفي الغاية التي يجب على الجمعية أن ترمي إليها وفي أحسن الحكومات الممكنة، وفي العقد الاجتماعي وفي غير ذلك من المسائل التي يرجع في كلها إلى طريق التفكير (الميتافيزيقي). وهذا الطريق لا يتفق مع الأول بحال من الأحوال. ومع ذلك نراهما قائمين اليوم معا في كل النفوس.
وإن سير الجماعات ليظهر لنا كيف حدث ذلك. ولكن أيا كانت أسبابه التاريخية فإن حقيقته ثابتة للعيان. فلا يستطيع الذهن الإنساني اليوم أن يتقبل كلا، ولا أن يرفض بتاتا أيا من هاتين الطريقتين من طرائق التفكير. فهو يشعر تمام الشعور أن ما قررته العلوم الوضعية لا يمكن رفضه أو التخلص منه. وأن لا سبيل للرجوع إلى تفاسير ميتافيزيقية أو دينية للظواهر الفلكية أو الطبيعية. ولكن يرى أيضا أن الصور الميتافيزيقية والدينية لازمة عنده ولا غناء له عنها. وذلك طبيعي ما دام العقل الإنساني يريد لسد حاجته إلى الوحدة والتناسق اللذين هما مطلبه الأعلى فكرة عامة تحيط بكل أنواع الظواهر. وهذه الفكرة هي ما سماه كومت جماع التجارب، أو هي في كلمة واحدة (الفلسفة).
ولم تثبت طريقة التفكير الوضعية إلى اليوم قدرتها على سد هذه الحاجة، إذ إنها لم تنتج إلا بعض علوم معينة، ولما كان العلم الوضعي خاصا وجزئيا فقد قصر بحثه على مجموعة محدودة من الظواهر وقف عليها كل أعماله التحليلية والتنسيقية بدقة محمودة كانت أساس قوته، ولم يقدم يوما ما على تنسيق كل الحقائق التي وصل إليها علمنا. بل اختص الديانات والميتافيزيقيات بهذا العمل الذي لا يزال إلى يومنا هذا سبب وجودها الأهم، ذلك بأنه عمل يجب القيام به لما يطمح إليه العقل الإنساني بالضرورة، وبطبعه من الوحدة وما يرجوه من تحصيل فكرة عن العالم. فخير له إذن أن يبقى متعلقا بهذه الحلول التي تقدمها له الديانات والميتافيزيقيات، مهما تكن حلولا خيالية من أن يترك المسائل الفلسفية معلقة أمامه ولا جواب عليها. ومما تقدم يظهر أن الروح الوضعية في زمننا الحاضر (حقيقة)، ولكنها (خاصة) والروح الدينية الميتافيزيقية (عامة) ولكنها (خيالية). وليس في إمكاننا أن نضحي (حقيقة) العلم ولا (عمومية) الفلسفة. فكيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق.
لدينا لذلك ثلاثة حلول لا رابع لها: (1)
فإما أن نصل إلى توفيق يمكن معه وجود طريقتي التفكير من غير تضارب. (2)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الدينية الميتافيزيقية. (3)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الوضعية. •••
يظهر الحل الأول لأول وهلة مقبولا أكثر من الأخيرين. إذ لم لا يتفق بحيث الأنواع المختلفة من المظاهر الطبيعية على طريقة وضعية مع فكرة ميتافيزيقية أو دينية عن الوجود. وأي مانع يمنع تصور المظاهر بسنن لا تبديل لها، وأن نبحث في الوقت نفسه من طريق آخر السبب الذي يجعلنا نفهم العالم والطبيعة على عمومها. ومتى كان ذلك وتحرر العلم الوضعي من حكم الدين والميتافيزيقية، ضمن ذلك العلم لهما مثل ما وصل إليه من الاستقلال، وتحددت بذلك على طريقة تزداد كل يوم دقة، النطاق الصحيح للعلم الوضعي من جهة ونطاق التطورات التي تتعدى التجارب من الجهة الأخرى.
وإن كومت ليخبرنا أن هذا التوفيق ظهر معقولا زمنا طويلا، وأن الأفكار الدينية والميتافيزيقية لا تزال إلى يومنا هذا هي الصور الجامعة التي قامت في النفس الإنسانية عن الوجود. ولقد أدت هذه الأفكار بذلك وظيفة ضرورية لولاها لما وجد العلم الوضعي ولما تقدم. ولكن لما كان هذا العلم هو وارثها فهو كذلك عدوها، وتقدمه يجر حتما تدركها. وما في التاريخ من تراجح آي الدين والميتافيزيقية من جهة والمعلومات الوضعية من الجهة الأخرى يدل على أن التوفيق بينهما لا يمكن أن يدوم.
Bog aan la aqoon