[الإمام أبو حنيفة طبقته وتوثيقه]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الأنبياء، وجعل ورثتهم العلماء، والصلاة والسلام على رسوله الكريم المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن منن المولى الكريم علي أن جعلني من المقبلين على تعلم أحكام دينه، والتزود بزاده، فكانت دراستي في مرحلة الماجستير عن أبرز المتأخرين علما وشهرة، وهو الإمام العلام، البحر الفهام، المشار إليه بالبنان من بين أقرانه وعلماء زمانه، المجدد لعلوم الشريعة على رأسة المئة الثالثة عشرة الهجرية كما شهد بذلك جمع من الأكياس، المنتشر علمه في الأكناف والبقاع، المتلقى بالقبول عند العام والخاص، فريد دهره وأوانه محمد عبد الحي بن محمد عبد الحليم اللكنوي الهندي الحنفي الأنصاري نسبة إلى أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، فلاحظت من حاله في كتبه وسيرته التي قرأت عنها، وهو حال علماء الأمة المخلصين الصادقين، الدفاع عن علوم الشريعة وعلمائها الكبار الناشرين لها في البقاع ضد أقوال المتقولين ممن لم يرزقوا البصيرة في الدين، وأخذوا يطعنون على الأئمة الأعلام؛ لما انقدح في ذهنهم من تخطئة هذه الأمة المحفوظة وتصويبهم لرغبات أنفسهم الشهوانية، وحبها بأن يكون لها أتباع ومقلدون يقتدون بها في أحكام، فجعلوا رؤوسهم برؤوسهم وساوو أنفسهم بأنفسهم فأخذوا يطعنون بهم، وينزلون من قدرهم ومكانتهم بالتهجم عليه، والتلفظ بحقهم بالألفاظ المشينة، والكلمات المعيبة، باذلين كل جهدهم في التنقيب والبحث في كتب الماضيين والمعاصرين عن كل ما يسوءهم، غافلين عن:
أن هذا المسعى لو سلك مع خير الكائنات صلوات الله وسلامه عليه لما سلم، وقد فعل ذلك معه بعض الملحدين كما لا يخفى على المطلع، ولو سلك على هذا المسلك مع المعدلين من علماء الأمة المحمود، وهو الصحابة رضوان الله عليهم لما سلموا، وكذا غيرهم وغيرهم لما عرف عند ذوي البصائر أن الكتب احتوت على الغث والسمين والرطب واليابس على حسب اختلاف مناهج المؤلفين لها، فكثير منهم لا يبغي التحقيق والتحرير في كتابه، وإنما يحرص على جمع كل ما قيل في المسألة؛ لظنه أنه يؤلف للعلماء المميزين بين المقبول والمردود.
وعلا أن الكتب لم تصل إلينا كما وصل إلينا القرآن محفوظة عن التحريف والتغيير والتبديل، فدرجت وصولها إلينا متفاوتة على حسب شهرة الكتاب وتداوله وتدارسه.
وعلا أن الدس في كثير من الكتب وارد من قبل الحاقدين والحانقين والكافرين أيضا ولا سيما الأفذاذ من العلماء المشهورين بالإنصاف، وسيأتي لك مثاله في دس ترجمة أبي حنيفة في ((الميزان)) كما ستقف على الأدلة اليقينية التي تنفي ذلك.
وعلا أنه قد مرت بالأمة محن وابتلاءات كان لها تأثير كبير في سلوك أفرادها وعلمائها، كما حصل في فتنة خلق والقرآن، وبسط الكلام فيه مذكور في مصنفات خاصة، كما أفردها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
وعلا أن من سنن الله عز وجل التدافع بين المخلوقات لدوام الحياة، فلو لم يكن بين العلماء أخذ ورد لما قامت لهذا الدين قائمة، ولما ارتفعت الهمم في تنقيته وتصفيته ونشره، ولتوهم أن الدين من وضع الواضعين، وتلفيق الملفقين، ولكن هذا آية ثبوته وحفظه من رب العالمين.
إذا انقدح هذا في الذهن: فمعلوم أن لكل فن وعلم أئمة وضعوه وبذلوا قصارى جهدهم في إخراجه وإبرازه، فإذا ما ذكر خطر في البال أبرزهم فيه، ففي علم التفسير الطبري، وفي علم الكلام الأشعري والماتريدي، وفي علم التصوف عبد القادر الجيلاني، وفي علم الفقه أبو حنيفة، فكما قيل هو صنعة أبي حنيفة، وكما قال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وهلم جرا.
فهؤلاء الأئمة المقتدى بهم لو فتح الباب للمتقولين فيهم لما بقي لدينا علوم ولا علماء، ولكن كما قال ابن عبد البر وابن حجر العسقلاني وغيرهم: إنهم هؤلاء الأئمة قد جاوزا القنطرة فما عاد يضرهم ولا يغير في حالهم، وفي اقتداء الناس بهم قول قائل.
والإمام اللكنوي كان مسعاه في كتبه هو رد قول هؤلاء المتقولين، وتفنيد مزاعهم، وتسفيه أحلامهم، فكانت مؤلفاته الفقهية والحديثية في إثبات مستند كثير من المسائل التي طعن فيها على المذهب الحنفي، وبفضل من المولى الكريم وفقت لتحقيق وطبع جلها، وبين طيات سطورها كان يعرض لمكانة أبي حنيفة ودفع شين الشائنيين، بذكر تشكيكاتهم وتفكيكها، فكم طمحت نفسي إلى جمعها في كتاب خاص يحتويها؛ لما فيها من الفوائد الغزيرة والتحقيقات اللطيفة والنكات العزيزة التي لا يحصل عليها القارئ إلا بمطالعة جميع كتب الإمام اللكنوي، حتى اشتغلت متأخرا في تحقيق ((مقدمة عمدة الرعاية)) إذ عرض فيها لكثير من هذه الشبهات وردها، فعزمت أمري على جمعها وترتيبها ضمن فصول، مع حذف المتكرر فيها قدر الإمكان ففي بعض المواضع يوجد تكرار لو حذفته لما استقام الكلام، وبذلت أقصى جهدي في الاقتصار على عبارة الإمام اللكنوي ووضعت كل نقل من كتبه بين علامتي تنصيص أذكر في آخر اسم الكتاب الذي نقلتها منه، وعنوت لما ذكروه من المطاعن بلفظ: تشكيك، ولرد الإمام اللكنوي، بلفظ: تفكيك.
وتسجيلي لأماكن تعرض الإمام اللكنوي لمناقب أبي حنيفة ورد كيد الطاعنين عليه كان أثناء دراستي لمنهج الإمام اللكنوي من خلال كتبه، كما أنني سجلت أماكن تعرضه للكلام عن ابن تيمية وابن حزم والشوكاني وأرائهم أخذا رودا، وكذا رأيه في البدعة مفهومها وضوابطها، ولئن وفقني تعالى لأفردن كلا منها بكتاب خاص، كما حصل مع أبي حنيفة، والله الموافق.
وفي الختام؛ أسال الله تعالى أن يتقبل هذا العمل ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وينفع به، ويغفر لي ولوالدين ولمشايخي ولجميع المسلمين والمسلمات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه
في 23/ذو القعدة/1422ه صلاح محمد أبو الحاج
الموافق 5/شباط/2002م بغداد/شارع حيفا
بسم الله الرحمن الرحيم
((أبو حنيفة - رضي الله عنه - هو الإمام الأعظم، والفقيه الأقدم، الشائع مذهبه في أكثر العالم، الناطق بفضله فضلاء العالم))(1)، ((ذكرت ترجمته في ((مقدمة الهداية ))(2)، وفي ((النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير))(3)، وفي ((مقدمة التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد))(4)، وفي ((مقدمة السعاية))(5)، وذكرت في كل منها ما لا يوجد في غيرها، ودفعت مطاعن المتعصبين عليه، وإيرادات الجاهلين عليه، ونذكر منها أيضا قدرا مفيدا كافيا للمبتصر المتذكر))(6):
فصل
في اسمه وكنيته ونسبه
اتفقوا على أن كنيته: أبو حنيفة، واسمه: النعمان بن ثابت.
واختلفوا في اسم جده:
Bogga 6