Ilm al-Tafsir: How It Emerged and Developed Until the Present Era
علم التفسير كيف نشأ وتطور حتى انتهى إلى عصرنا الحاضر
Daabacaha
دار الكتب الاسلامية
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٠٥ هـ - ١٩٨٥ م
Goobta Daabacaadda
القاهرة
Noocyada
[بين يدى الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله الذى أنزل عليه القرآن هدى وشفاء لما فى الصدور وعلى آله وأصحابه والتابعين الذين أدوا رسالتهم فى حفظ كتابهم والحفاظ على تعاليمه وبعد. فالعلوم كأى كائن حى يبدأ صغيرا ثم ينمو ويتزايد، ومنذ نزل القرآن قامت على شواطئه علوم تخدمه وتوضحه، وتبين تعاليمه ومبادئه. وكان من الطبيعى أن تشرئب النفوس لمعرفة معانى القرآن الكريم، منذ نزل على رسول الله .. يعرف العرب بسليقتهم ما يعرفون ويسألون الرسول عما أغلق عليهم فهمه ويحتاجون لتوضيحه. وحين اتسعت رقعة الدولة الإسلامية من أول عهد الخلفاء الراشدين ودخل غير العرب في الإسلام، كانوا أشد احتياجا إلى معرفة معانى القرآن ..
وإذا كانت الحاجة أم الاختراع كما يقال. فقد كانت حاجة المسلمين ولا سيما الداخلين الجدد فى الإسلام إلى معرفة معانى القرآن سببا فى الكلام عن تفسيره كما كانت الثقافات التى اختلطت بثقافة المسلمين الأصيلة سببا فى احتكاكات العقول، وتعدد مشاربها من القرآن ..
وكان العلماء المسلمون فى كل زمن يلبون حاجة المسلمين إلى فهم كتابهم سواء بالتدريس أو بالتأليف والتدوين حين بدأ عهد التدوين ..
كيف نشأ علم التفسير، وكيف تطور، وماذا كان يحكم المفسرين حين يعمدون إلى التفسير أو ما هى مذاهبهم ومناحيهم فى التفسير .. وإلى أى مدى يمكن أن يخدم العلم والمكتشفات العلمية الحديثة علم التفسير .. وهل قام المسلمون بتوصيل معانى القرآن إلى غير العرب وإلى أى مدى كان جهدهم فى هذه الناحية؟
1 / 5
ذلك ما أحببت أن أقدمه لك فى هذه الصفحات دون تطويل يصرفك عن الكتاب والله المستعان
٤٠ صالح حقى. مصر الجديدة. الدكتور عبد المنعم النمر
1 / 6
تمهيد:
الإسلام والعلوم
ما دمنا سنتكلم عن بعض علوم الدين عند المسلمين، فإن هذا يقتضينا أن نقدم بكلمة موجزة عن نظرة الإسلام إلى العلم بكل أنواعه وموضوعاته، لا سيما بعد أن ألقى على موقف الإسلام من العلم شىء من الظلال، ولا سيما فى العصور المتأخرة، وعند بعض الغربيين. متأثرين بفكرتهم عن المسيحية وموقفها العدائى- فى بعض العصور- من العلوم.
فالعلم فى نظر الإسلام: هو كل ما يمكن ويطلب أن يعرف ويعلم، مهما يكن موضوع هذه المعرفة، ومهما تكن وسائلها، وإن كان فى مقدمة هذه الموضوعات ما يعرفه بربه- عقيدة ونظاما- ويقربه إليه .. باعتبار أن ذلك هو مفتاح الحياة الحقيقية الهادفة للإنسان، ومفتاح الانطلاق فى كل جانب من جوانبها على هدى وبصيرة.
فحين مدح الله العلماء ورفع درجاتهم لم يخصص العلماء بعلوم الدين، بل أطلق وعمم فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (١). وحين قارن بين العلماء والجهال أطلق وعمم كذلك .. فقال:
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٢) وحين حدد الذين يخشونه ويعرفونه قال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (٣) وقد جاء هذا عقب آيات تلفت الأنظار إلى التأمل والتدبر فيما خلقه الله من ماء وثمرات ودواب وجبال وإنسان الخ .. ليصل المتأمل إلى الإيمان بالله وعظمته مما يميل بمفهوم العلماء هنا إلى العلماء الباحثين المتدبرين فى هذه المخلوقات مما يطلق عليه الآن علوم الفضاء والجو، وعلم النبات، والحيوان، والجيولوجيا .. الخ .. لأن هؤلاء أكثر اطلاعا على أسرار الكون وعظمة صنع الخالق ..
_________
(١) سورة المجادلة/ ١١.
(٢) الزمر/ ٩.
(٣) فاطر/ ٢٨.
1 / 7
وقد كثرت فى القرآن الآيات التى تعرض مظاهر الكون ويأتى فى آخرها حث أصحاب العقول على التدبر فيها ليصلوا إلى ما وراءها ويبدأ التدبر من نظرة سطحية ينظرها الإنسان العادى فيجد عظمة الله فى كل شىء، إلى النظرة المتعمقة القائمة على العلم ولو ببعض التفاصيل والسنن فى هذه المخلوقات. وهذا يفتح الباب للمؤمن لكى يتعلم وينظر ويتدبر ويتعمق لتأتى نظرته فيها عمق، وفيها اعتبار أكثر .. مما جعل علماء الإسلام يقولون، إن هذا يفرض على المسلمين تعلم العلوم التى تتيح لهم الوصول إلى دقائق صنع الله فيما خلقه .. من أجل غاية عليا هى تعميق الإيمان فى القلوب، وهذا بالتالى يبعد هذه العلوم عن أن تكون وسيلة للشر والإيذاء، مما يحصل مثله الآن ولا سيما أثناء الحروب ..
وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى أحاديث رسول الله وهى الموضحة والمفسرة للقرآن وأغراضه، نجد الأحاديث تحض المسلمين على التعليم وتبين فضل العلماء، ولا تقيد العلم
بفرع دون آخر.
«فالحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» رواه الترمذى ..
والحكمة تعنى هنا كل علم نافع.
«اطلبوا العلم ولو فى الصين» وقد روى من طرق يقوى بعضها بعضا ..
«إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع» رواه أبو داود والترمذى
«من سلك طريقا يبتغى به علما سهل الله به طريقا إلى الجنة» رواه أبو داود والترمذى
«من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع» رواه مسلم والترمذى
«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما» رواه الترمذى
«فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» وفى رواية كفضلى على أدناكم .. رواه الترمذى
«طلب العلم فريضة على كل مسلم» «البيهقى وغيره»
1 / 8
ففي هذه الأحاديث وغيرها كثير لم يحدد العلم بعلم خاص، فهو مطلق العلم فى أى فرع من الفروع، مراعيا فى تعلمه تقوى الله، ونفع النفس والعباد.
وقد جعل الرسول ﷺ من وسائل فداء أسرى بدر، أن يعلموا المسلمين القراءة والكتابة.
وأمر ﷺ زيد بن ثابت رضى الله عنه، أن يتعلم لغة اليهود- بعد ما حدث منهم، ولم يعد يأمن جانبهم، وهذا الفهم العام الواسع لمعنى العلم هو الذى كان سائدا فى تلك الأيام، ولم يكن محددا كما هو الحال عندنا عند ما قسمنا المواد إلى علوم، ورياضة، وآداب، وفن. و. و.. الخ .. والقرآن يقول: «وفوق كل ذى علم عليم» ويقول على لسان قارون: «إنما أوتيته على علم عندى» ويقول: «ولقد آتينا داود وسليمان علما» .. وكل هذا علم عام.
وفى علوم الدين خاصة، وردت الآية الكريمة
فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ١٢٢ (١)
ليسد هؤلاء المتعلمون المتفقهون حاجة المسلمين إلى معرفة أمور دينهم.
ومن هذه الآية أيضا يمكن الانطلاق إلى العلم وإلى التخصص فى كل فرع تحتاج إليه الأمة فى أمور حياتها.
وهكذا يدفع الإسلام المسلمين دفعا إلى طلب العلم والتبحّر فيه، دون أن يحدد نوع أو فرع هذا العلم، فالحكمة والمعرفة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ..
_________
(١) التوبة/ ١٢٢.
1 / 9
نهضة المسلمين العلمية
وعلى هذا الأساس من الفهم المستقيم لمعنى العلم، انطلق المسلمون إلى العبّ من المعرفة، بشتى ألوانها وموضوعاتها دون أى تحرج من تعلم أى علم، حتى ولو كان شرا أو فيه شر .. ومنطقهم فى هذا كما يقول أحدهم:
وأعرف الشر لا للشر ... ولكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الخير يقع فيه
وكان من الطبيعى أن يبدءوا بمعرفة ما يتصل بدينهم من فهم القرآن، وأحكام العبادات، والمعاملات التى جاء بها الإسلام، من واقع إخلاصهم لدينهم. وحرصهم على تطبيقه فى حياتهم .. ثم انطلقوا بعد ذلك ومعه إلى كل علم، وكل فن لم يقفوا عند حد فيه ولم يتحرجوا من العبّ منه .. على اعتبار أن ذلك مما يأمرهم به دينهم أو على الأقل مما يرضى عنه .. حتى كنا نجد العالم منهم بجوار إحاطته بعلوم التفسير والحديث والفقه، وعلم الكلام متبحرا فى الطب، وفى الفلسفة، وفى الموسيقى .. وفى اللغة، والأدب، ونذكر نموذجا لهذا النوع من العلماء. الإمام فخر الدين محمد عمر بن الخطيب الرازى المولود فى سنة ٤٥٣ هـ والمتوفى سنة ٦٠٦ هـ، فقد صدرت عنه كتب فى: التفسير، وعلم الكلام، والأصول والفقه، والنحو والأدب، والفلسفة، والطب والهندسة، والفلك، بجوار معارفه التى لم يصدر فيها كتب، ويعتبر تفسيره موسوعة عامة فى مختلف العلوم مع التفسير.
فكان العالم بالطب أو الهندسة، أو الفلك أو بها جميعها عالما أيضا فى شئون الدين، واللغة والأدب، مما يشبه أن يكون عالما موسوعيا يجمع بين أطراف العلوم المختلفة فى موضوعاتها .. لم يروا بحكم دينهم وتدينهم أن هناك شيئا يحد من تعلمهم ومن تبحرهم فى علوم أخرى بجوار العلوم المتصلة بالتفسير والحديث واللغة .. كلها علوم يدعوهم دينهم إلى معرفتها.
ولذلك وجدنا فطاحل من علماء المسلمين، فى كل فرع من فروع العلم ..
1 / 10
ويذكر «روم لاندو» فى كتابه «الإسلام والغرب» (١) تحليلا لذلك بعد أن يدركه ويعجب به، ويرى أن الدافع إليه عند المسلمين:
رغبة متقدة فى اكتساب فهم أعمق للعالم كما خلقه الله.
قبول للعالم المادى لا بوصفه دون العالم الروحى شأنا ومقاما، ولكن بوصفه صنوا له فى الصحة والسوخ.
واقعية قوية تعكس فى صدق وإخلاص طبيعة العقل العربى اللاعاطفى.
فضولهم الفهم الذى لا يعرف الشبع فى المعرفة.
وأخيرا وأولا أن الدين والعلم فى نظر الإسلام لم يول كل منهما ظهره للآخر، ويتخذ طريقا معاكسا، بل كان الأول عندهم باعثا من البواعث الرئيسية للثانى.
اعتقادهم بأن كل ما فى الوجود صادر عن الله، وكاشف عن قدرته، ولذا فهو جدير بالمعرفة والتأمل: من وجد الصوفى إلى قرصة البعوضة، إلى انطلاق السهم، إلى مرض الطاعون. إلى غير ذلك من المظاهر، كله من الله، فيجب أن يدرس ويعرف حق المعرفة.
وقد روى أن عمر بن الحسام كان يقرأ يوما كتاب «المجسطى» فى الرياضيات السماوية «الفلك» لبطليموس على أستاذه الأبهرى، فدخل عليهما بعض الفقهاء، فقال لهما: ما الذى تقرءانه؟ فقال الأبهرى: «أفسر آية من القرآن الكريم وهى قوله تعالى:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٢)
فأنا أفسر كيفية بنائها.
فهكذا كان الربط عندهم بين العلوم المختلفة والقرآن الكريم .. فكلها نابع منه، وخادم له.
_________
(١) ص ٢٤٦.
(٢) سورة ق/ ٦.
1 / 11
ولذلك يعلق الإمام فخر الدين الرازى على هذه الرواية، فيقول بعد أن أوردها: «ولقد صدق الأبهرى فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلا فى بحار مخلوقات الله كان أكثر علما بجلال الله وعظمته»
والله الذى يحب المؤمنين الأقوياء كما يعلمنا رسول الله، كيف يكونون كذلك إذا لم يتعلموا كل ما يوفر لهم هذه القوة؟
والله الذى أمرهم أن يعدوا لأعدائهم ما يستطيعون من القوة لكى يسكتوهم ويرهبوهم عن التعرض لهم ..
والله الذى جعل العزة له ولرسوله وللمؤمنين.
كيف يمكن أن يكون ذلك كله واقعا كما يحب الله ويرضى دون أن يكون المسلمون على أكبر قدر من العلوم المختلفة التى يحتاجونها فى صلاتهم بربهم، وفى صلاتهم مع الناس، وفى سيطرتهم على الطبيعة، وتسخيرهم لها؟
كيف يكونون ملبين أمر ربهم «وأعدوا لهم» إذا لم يكونوا أسبق الناس جميعا فى معرفة أسرار الكون، وفى صنع القنابل والصواريخ .. وغير ذلك من أحدث وسائل القوة، وإذا لم يكونوا المبرزين فى علوم الفضاء والبحار، والزراعة وفى الصناعة والصحة، وفى كل ما يوفر للإنسان القوة والصحة فى كل جانب؟ والمؤمن القوى خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف.
ومن هنا سار الدين مع العلم فى طريق واحد .. وكان الدين هو القاطرة التى تجر مقطورات العلم، وخزائنه المتنوعة. وكلها تكون قطارا واحدا، أو قافلة واحدة فى الحياة تسير باسم الله.
وقد أنتج هذا نهضة علمية وحضارية أضاءت الدنيا، ومهدت الطريق للنهضة الأوروبية الحديثة .. وحمل هذه النهضة، أو أضاء شمعتها، رجال مؤمنون بربهم، على مختلف مستوياتهم، واتجاهاتهم .. لا يزال الكثير منهم درة فى تاج الإنسانية.
نذكر منهم على سبيل المثال: عالمنا «أبا الريحان البيرونى» ٣٦٢ هـ- ٩٧٣ م وتوفى سنة ٤٤٠ هـ- ١٠٤٨ م .. ونبوغه فى عدة علوم كان من أهمها الفلك
1 / 12
والرياضة، يقول عنه المستشرق الألمانى الذى نشر كتبه: إن البيرونى هو أعظم عقلية ظهرت فى التاريخ، لا فى الشرق وحده، ولا فى الغرب وحده، ولا فى القديم وحده، ولا فى العصور المتوسطة ولا العصور الحديثة، إنه أكبر عقلية ظهرت فى التاريخ.
هذا العالم الفذ الذى سبق الأفكار كلها فى عالم الرياضة والفلك، كان من كبار العلماء المشتغلين بعلوم الدين أيضا، حتى ليروى أحد أصدقائه أنه ذهب ليزوره، وهو على فراش الموت وفى النزع الأخير، فحين رآه قال له: لقد كنا نتحدث فى يوم من الأيام عن الجدات الفاسدات (اصطلاح فقهى للجدود من ناحية الأم)، فإلام انتهينا من أمرها؟
فقال له صاحبه: أفى هذه الحالة، وهذه الظروف تسأل عن الجدات الفاسدات؟
فقال له البيرونى لأن ألقى الله وأنا من العالمين بها، خير من أن ألقاه وأنابها من الجاهلين»
وتحدثا سويا فى الموضوع ثم خرج الزائر الصديق، ولم يبعد إلا قليلا عن البيت، حتى سمع الصراخ لموت البيرونى.
هذه الواقعة التى كانت آخر تحرك علمى فى حياته، ترينا لماذا كان أعظم عقلية، وأعظم عالم فى التاريخ .. ثم ترينا الحافز الدينى الذى كان يدفعه ويدفع أمثاله إلى العبّ
من العلم بكل أنواعه .. فكان مع نبوغه فى الفلك والرياضيات وغيرها، متبحرا كذلك فى العلوم المتصلة بدينه وأحكامه، لأنه لم يكن هناك أى حاجز بينها، بل كان بعضها يغذى بعضا ويقويه ..
وكان «الكندى» أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ١٨٥ هـ ٨٠١ م المتوفى سنة ٢٥١ هـ- ٨٦٥ م، الفيلسوف العربى المولود بالكوفة، كان ملما بعلوم الدين، بجوار اشتهاره بالفلسفة والرياضيات والطبيعيات والفلك، والطب والجغرافيا، والموسيقى وكان لحبه لدينه وغرامه بالفلسفة معنيا بالتوفيق بينهما.
يقول عنه الغربيون الذين درسوا كتبه: «إنه أحد ثمانية هم على وجه الإطلاق النابغون فى العالم».
1 / 13
كان مع دراسته وإحاطته بعلوم الدين، أحد ثمانية من النابغين فى العالم فى الرياضة، وكان طبيبا ناجحا وموسيقيا يعلم الموسيقى ويعزف، ويتخذها إحدى وسائل العلاج، مما وصل إليه العلم أخيرا.
وابن الهيثم (أبو على الحسن، ولد بالبصرة سنة ٣٥٥ هـ ٩٦٥ م ورحل إلى مصر وأقام بها وتوفى سنة ٤٣١ هـ- ١٠٣٩ م فى عهد الدولة الفاطمية) كان نموذجا بل من أعلى النماذج فى النبوغ فى العلم بشتى فروعه، وإن كان قد اشتهر عنه نبوغه فى «علم البصريات» وله نظريات وطرق فى البحث التجريبى سبق به كل علماء أوربا، وكان أستاذهم الذى عنه أخذوا، وبفضله عليهم اعترفوا ..
وابن سينا (أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا، المولود قرب بخارى سنة ٣٧٠ هـ ٩٨٠ م- والمتوفى سنة ٤٢٨ هـ ١٠٣٦) درس العلوم الشرعية والعقلية، حتى أصبح حجة فى الطب والرياضة والفلسفة والموسيقى بجانب تبحره فى العلوم الدينية، ومحاولاته التوفيق بينها وبين الفلسفة.
تلك بعض النماذج للعلماء الذين جمعوا بين علوم الدين، والعلوم الأخرى التى نبغوا فيها، وهناك مئات وآلاف من أمثالهم، نبغوا فى ظل الإسلام ..
وجمعوا بين علوم الدين واللغة، وبين العلوم الأخرى التى نسميها الآن علوما حديثة، وكل ذلك فى ظل الإسلام وبتوجيه منه، حتى ليقول العالم الفرنسى «سيديو»: لقد كان المسلمون منفردين بالعلم فى تلك القرون المظلمة، فانتشر فى كل مكان وطئته أقدامهم، وكانوا هم السبب فى خروج أوربا من الظلمات إلى النور.
ويقول «بريفو» فى كتابه «تكوين الانسانية»: العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العالم الحديث، فالعلم الأوربى مدين بوجوده للعرب.
ويتحدث السيد جمال الدين الأفغانى فى كتاب «خاطرات جمال الدين» للمخزومى، عما سبق إليه العرب ونبغوا فيه، فيذكر الكثير من اكتشافات العلماء الإسلاميين. كالجاذبية والمركز، ولم يكن المكتشف لهما «إسحاق نيوتن» وكذلك التحليل والتركيب، والفوسفور، واستحضاره، واستحضار
1 / 14
الأوكسجين، والإيدروجين، والآزوت، وحامض الكبريت والكبريت وغيرهما وقال: كل ذلك من مكتشفات العرب، وكان الأساتذة فى علم الكيمياء للجيل الثالث الهجرى هم: أحمد بن سلمة المجريطى، وتلميذه ابن بشرون، وأبو السمح، وقد تقدمهم مثل جابر بن حيان الحرانى، ومن بعدهم زكريا أبو بكر الرازى وغيرهم.
وقالوا إن «بيكون» هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة العلم العصرية، وأقامها مقام الرواية ... وذلك حق فى أوربا، وأما عند العرب فقد وضعوا هذه القاعدة لبناء العلم عليها فى أواخر القرن الثانى الهجرى .. ومنها أخذ «بيكون» ويذكر «جوستاف لوبون» أن القاعدة عند العرب كانت «جرب وشاهد ولاحظ تكن عارفا» وعند الأوربى إلى ما بعد القرن العاشر المسيحى: «اقرأ فى الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالما»
«وأما فى الكيمياء فلا يمكنك أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مئين عند العرب، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم».
ويقول الفيلسوف «درابر» الأمريكى: تأخذنا الدهشة احيانا عند ما ننظر فى كتب العرب فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا فى زماننا.
ويقول الرئيس السابق للولايات المتحدة «أيزنهاور» فى خطاب له:
«إننى عند ما أتطلع إلى المستقبل أرى ظهور دول عربية حديثة سوف تقدم إلى القرن الحاضر مساهمات تفوق تلك التى لا نستطيع أن ننساها، إننا نذكر أن علوم الحساب والجبر فى الغرب مدينة كثيرا للرياضيين العرب، كما أن الكثير من أسس علم الطب فى العالم، وكذلك علم الفلك قد وضعه العرب». (١)
ذكرت هذا مختصرا قدر الإمكان، لنزيل من الأذهان ما علق بها أخيرا فى عصور الضعف من أن الإسلام يفرق بين العلوم، فيحتضن بعضها، ويحث على تعلمه، ويكره بعضها، ويكره أن يتعلمه المسلمون، وهو ما عرف فى عصور
_________
(١) نشرة الاستعلامات فى ١٠/ ٢/ ١٩٥٩.
1 / 15
الضعف بالعلوم الحديثة، وليعلم المسلم وغيره من نصوص القرآن والسنة، ومن واقع المسلمين إبان العصور الأولى، أن الإسلام يحتضن العلم على مختلف موضوعاته، وأن الواجب على المجتمع المسلم، أن يوفر لنفسه العلماء والصناع والزراع وغيرهم فى كل ناحية من نواحى الحياة .. فإذا خلا المجتمع من علماء أو متخصصين فى ناحية من النواحى، وجب وجوبا شرعيا عينيا مؤكدا على ولى الأمر، العمل على توفير هذا التخصص للأمة، حتى لا تحتاج لغيرها، وتكون عالة عليه فى حياتها. يستوى فى ذلك كل علم، وكل حرفة ومهنة، وإن كان من الضرورى- عقلا وشرعا- أن تكون هناك أولوية بين هذه العلوم حسب حاجة الأمة إليها، سواء فيما يتصل بعلاقتها مع ربها أو بعلاقتها مع الناس وتشكيل حياتها.
ولما كان الإسلام يضع قاعدة أولى للانطلاق إلى العمل فى الحياة وهى قاعدة الإيمان، ويبنى على هذه القاعدة تنظيم حياة الإنسان التنظيم الدقيق الإيجابى، كان من المهم أولا العناية بكيفية بناء هذه القاعدة وما يتفرع عنها من نظم لضبط حياة الإنسان واستقامتها.
ومن هنا كانت علوم الدين فى مقدمة العلوم التى يجب على الإنسان تحصيلها، وكان من الضرورى أن يوجد العلماء أو المعلمون، والمتخصصون الذين يتولون الإشراف والتوجيه لبناء هذه القاعدة وصيانتها.
ومن أجل هذا كانت عناية القرآن الخاصة بهذه المهمة، وكان النص عليها بذاتها، مع ما جاء من حث عام على العلم، ومدح للعلماء، ورفع لدرجاتهم.
. الخ ..
كان هذا التخصيص دليل عناية خاصة ببناء القاعدة الأساسية، فى حياة الفرد المسلم، وفى حياة الجماعة.
وذلك فى قوله تعالى «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (١).
_________
(١) التوبة/ ١٢٢.
1 / 16
ذلك لأن لكل أمة قاعدة تنطلق منها إلى نهضتها، وإلى إثبات وجودها وقيمتها فى الحياة
والمسلمون لم يبدءوا حياتهم، ولم يخطوا الخطوة الأولى فى وجودهم، استجابة لفلسفة يضعها بشر، وإنما بدءوا حياتهم على أساس الإيمان بدين منزل من عند الله، وتوجيه رسول أرسله الله، وعلى هدى قرآن أنزله الله على رسوله .. واستمدوا من ذلك وجودهم وكيانهم وشخصيتهم، وبنوا عليه كل تحركاتهم وسكناتهم، وشكلوا على هديه كل مظاهر حياتهم ..
فمن الضرورى والحالة هذه أن تكون عنايتهم الأولى مركزة على فهم دينهم، وفهم القرآن الذى يمثل العمود الفقرى فى حياتهم، وفهم ما يتصل بالعقيدة وسلامتها، وما يتصل بالأحكام فى العبادة والمعاملات، حتى تأتى أعمالهم طبقا لما يطلبه منهم دينهم ..
وقد برزت هذه الناحية فى حياة المسلمين بصورة طبيعية، سواء من جانب رسول الله ﷺ، أو من جانبهم، فكانت عناية الرسول بتبليغهم ما أنزل عليه من القرآن أولا بأول، وتطبيقه على نفسه، وعلى من حوله من أصحابه، وشرح ما يحتاجون إليه من شرح وبيان .. وكانت عنايتهم كذلك بتلقى ما نزل من القرآن، وحفظه ما أمكن، والحرص على ملازمة الرسول، وفهم توجيهاته، حتى كانوا يتناوبون حضور دروسه، ومصاحبته، والحاضر منهم فى نوبته يبلغ الغائب ما سمعه وعرفه .. حتى لا يفوت الواحد منهم شىء نزل من القرآن، أو قاله الرسول .. مدفوعين إلى ذلك بقوة إيمانهم بالله ورسوله، وحرصهم على أن تكون حياتهم صورة حية لما جاء به نبيهم ورسولهم، وطبقا لتعاليم دينهم ..
كان دينهم هو كل شىء هو زادهم فى حياتهم، وهو رفيقهم حين يلقون ربهم .. وكان القرآن- كما قلنا- يمثل العمود الفقرى لحياة المسلمين، فمن الطبيعى- والحالة هذه- ألا يغيب عنهم منه شىء، وكانوا يفهمون القرآن وتوجيهاته بسليقتهم العربية، فإذا أشكل عليهم منه أمر استوضحوه من رسول الله، أو سأل بعضهم من يظن أنه عارف به ..
1 / 17
وقد جاء القرآن مغطيا لكل جوانب الحياة تفصيلا أو إجمالا، وزاده الرسول توضيحا وبيانا وتفصيلا، استجابة لأمر الله وتوجيهه
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ٤٤ (١)
فلم يكن عجيبا، أن يركزوا كل حياتهم، ويوجهوا كل اهتمامهم إلى القرآن يلتمسون منه الرشد والهدى.
وكان أسلوب القرآن مع ذلك أسلوبا عربيا جديدا جاذبا أخاذا لم يسمع العرب الفصحاء مثله من قبل، ولم يتمالك أعتى المشركين من أن يصفه برغم معارضته له بقوله «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة» كما لم يتمالك عمر بن الخطاب وهو فى ثورته ضد الرسول، وضد من اتبعه، من أن يلقى سلاحه، ويسلم حين سمع آيات منه من سورة «طه».
وكان العرب فى ذلك الوقت على أعلى درجة من الفصاحة، فلم يكن من الصعب عليهم، أن يفهموا القرآن، ويتذوقوا حلاوته .. وإن كانوا متفاوتين بالطبع فى مدى الفهم والإدراك .. وواقفين ضرورة عند بعض ألفاظ ومعلومات جديدة عليهم يحتاجون إلى تفسيرها وتجلية المراد منها.
وفى هذه الأرض الطيبة، وفى هذا المناخ، وضعت البذور الأولى لما كان يمكن أن نسميه: بعلوم الدين. من تفسير وحديث وأحكام وعقيدة ..
كانت كلها شيئا واحدا يرسم طريق المسلم على هدى القرآن وتعليمه .. يتصل بعضه ببعض، ويغذى بعضه بعضا .. وكانت حياة الرسول ﷺ وأقواله، أوضح بيان وتفسير للقرآن الكريم .. وصورة عملية لما يطلبه الله من المؤمنين .. فحين سئلت السيدة عائشة رضى الله عنها عن خلق رسول الله، قالت: كان خلقه القرآن ..
ومن أجل هذا يكون كلامنا عن تفسير القرآن أولا هو الوضع الطبيعى الواقعى.
_________
(١) النحل/ ٤٤.
1 / 18
علم التفسير
نشأة العلم كنشأة كل كائن حى نام .. يبدأ بذرة صغيرة تتطور لتصبح جنينا أو نبتا، ثم تنمو شيئا فشيئا لتكون فى نهاية أمرها إنسانا، أو شجرة، أو نبتا مثمرا يعطى ثمره، أو يمنح ظله والفائدة منه ..
فحين نتكلم عن علم التفسير أو غيره من العلوم التى سنتحدث عنها، فإننا نتكلم عنه من خلال هذا التدرج الطبيعى .. ونلقى الضوء عليه منذ تبدأ بذوره الأولى .. فما أى شىء ولد كاملا، ولا وجد عملاقا .. ولكنها سنة الله فى الحياة، كل حياة «ولن تجد لسنة الله تبديلا».
استطراد لا بدّ منه:
وقبل أن نكشف عن البذور الأولى فى علم تفسير القرآن أحب أن ألقى ضوءا سريعا أمام القارئ حول القرآن ونزوله وكتابته وجمعه.
١ - بدأ نزول القرآن على الرسول ﷺ وهو فى سن الأربعين، وذلك بقوله تعالى «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .. الآيات» من سورة العلق.
٢ - ثم توالى نزول القرآن بعد ذلك عليه فى مناسبات متفرقة، ولدواع متنوعة، حتى توفى ﷺ وهو فى سن الثالثة والستين فكان منه ما نزل عليه فى مكة وهو أكثره، ومنه ما نزل عليه بالمدينة .. وكانت آخر آية نزلت بعد رجوع الرسول من حجة الوداع هى آيات الربا المذكورة فى أواخر سورة البقرة (١)، بينما كانت آية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» - المشهور عند الكثيرين- خطأ- أنها- آخر ما نزل- قد نزلت قبل ذلك فى عرفات والرسول يحج حجته الأخيرة- حجة الوداع- باتفاق.
٣ - كان جبريل ﵇ ينزل على الرسول بالسورة أو الآيات أو الآية، فيسارع الرسول فى حفظها كما يتلقاها .. ثم يمليها على كتاب وجيه فيكتبونها ..
_________
(١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا .. الآيات.
1 / 19
ويسمعها لمن يلقاه أو يحضر إليه من اصحابه، فيحفظونها، وهؤلاء بدورهم يتلقى عنهم من لم يسمعها من الرسول فيحفظها، وكان مما يسهّل عليهم الحفظ، أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة .. كما يقول الله:
وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ، عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١)
٤ - وكان جبريل ﵇ ينزل على الرسول فى رمضان من كل سنة فيراجع معه ما سبق نزوله، حتى كان آخر رمضان من حياة الرسول فقرأ على الرسول وقرأ عليه الرسول كل ما أنزل خلال السنين التى نزل فيها القرآن، يقرءانه مرتبا حسب الموجود فى المصحف الآن ..
٥ - لم يتيسر لكل الصحابة أن يحفظوا القرآن كله، بل تيسر لعدد قليل منهم، والباقون حفظ كل منهم ما تيسر له، ولكنهم جميعا كانوا حريصين على العمل بالقرآن أولا بأول.
٦ - نزل القرآن أولا فى مكة ومدة فى المدينة بلهجة قريش وحدها وكانت للقبائل لهجات عربية تختلف فى بعض النطق والكلمات عنها فى قبيلة أو قبائل أخرى .. فلما دخلت القبائل العربية بكثرة فى الاسلام بالمدينة، احتاج الأمر إلى التسهيل عليها فى القراءة بلهجتهم فى بعض الكلمات، بناء على رجاء توجه به الرسول لمولاه، تخفيفا عن أمّته. كما جاء فى الحديث الصحيح المشهور فى هذا الموضوع .. «انزل القرآن على سبعة أحرف»
٧ - توفى الرسول ﷺ والقرآن محفوظ فى الصدور كله لدى بعض الصحابة، ومتناثر عند الكثيرين. كما أنه كان مكتوبا محتفظا به ..
٨ - فى عهد أبى بكر رضى الله عنه وبمشورة عمر رضى الله عنه، كانت مراجعة المكتوب على المحفوظ مع ترتيبه حسبما نزل واحتفظ به عند أبى بكر الخليفة، ثم عند حفصة زوج الرسول وبنت عمر رضى الله عنهم جميعا بعد وفاة أبى بكر.
_________
(١) سورة الأسراء/ ١٠٦.
1 / 20
٩ - وفى عهد عثمان رضى الله عنه، ظهرت الحاجة الماسة إلى كتابة مصحف يكون مرجعا وإماما لجميع المصاحف وللقراء، وكان أساس الجمع لهجة قريش، وإهمال ما عداها من اللهجات العربية الغربية التى لم تنتشر، حتى لا يستفحل الخلاف بين قارئى القرآن، مما يتسبب عنه تفريق وحدة المسلمين، فعمل رضى الله عنه على كتابة مصحف يجمع عليه المسلمين.
١٠ - أرسل لكل قطر من الأقطار نسخة من هذا المصحف الإمام الذى سمى بمصحف عثمان ليكون هو المرجع الوحيد فى قراءة القرآن وحفظه، وليحرق ما عداه مما يخالفه، مما كان يضم بعض اللهجات التى أهملها المصحف الإمام وأجمع الصحابة على استحسان هذه الخطوة توحيدا لكلمة المسلمين حول كتاب الله».
١١ - ومنذ هذا اليوم وعلى مر الأيام والسنين، والمسلمون شديد والعناية والحرص على التمسك برسم المصحف الإمام وكلماته، برغم ما فى رسمه من مخالفات أحيانا لما عرف فيما بعد بالإملاء وطريقة كتابة الكلمات والحروف ..
حتى لا يتسرب إليه أدنى خلاف ولو فى رسم حرف من حروفه ..
١٢ - وبذلك امتاز القرآن على كل ما عرفه البشر من كتب مقدسة، وغير مقدسة، أنه الكتاب الوحيد الذى ظل كما هو، وكما أنزله الله، محفوظا فى الصدور، مكتوبا فى المصاحف. وهذه ميزة تفرّد بها القرآن، كما تميز بها المسلمون على غيرهم فى الحفاظ على قرآنهم، وكان ذلك كله تحقيقا لوعد الله:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ٩ (١)
١٣ - كان لأكثر ما نزل من القرآن أسباب. من أسئلة أو حوادث نزلت من أجلها الآيات، مما سمى أخيرا بأسباب النزول، وأفردها العلماء بمؤلفات خاصة بها .. وهى تهيئ للقارئ والمفسر فهم الآيات. ولكن لا تبقى الآيات خاصة
_________
(١) سورة الحجر/ ٩.
1 / 21
بهذا الذى نزلت من أجله، وينتهى مفعولها بانتهائه، بل تبقى لتعالج كل موضوع يجد، ويمكن انطباقها عليه، مما عبر عنه العلماء بعد ذلك بقولهم:
«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» فلم تبق حاجة لمعرفة السبب إلا للمعاونة على فهم الآية، وإن كان من الضرورى أحيانا معرفته عند فهم بعض الآيات.
1 / 22
هل ترك الرسول تفسيرا كاملا للقرآن؟
لعل البعض يفهم من قوله تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» أن الرسول ﷺ تولى تفسير كل آية من القرآن لصحابته رضوان الله عليهم .. ولكن هذا فهم مبالغ فيه وغير دقيق، إذ أن قوله تعالى:
«لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» يعنى تبين ما يحتاج منه إلى بيان ..
وقد أنزل الله القرآن على رسوله بلغة قومه «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» وكان العرب فى ذروة البلاغة وهم أرباب الفصاحة، وقد نزل القرآن يخاطبهم جميعا. ويحثهم لما يدعوهم إليه، ومن الطبيعى ألا يكون غامضا عليهم فكانوا أقرب الناس إلى فهمه وإدراك معانيه وتقدير بلاغته، حتى وجدنا أعتى الناس عداوة للرسول، ينقلب- بمجرد سماعه- إلى مسلم تابع له، وأيضا أشد الناس إخلاصا ودفاعا عنه، ووجدنا آخرين يتزعمون معارضته، وإيقاع الأذى به وبدعوته، ومع ذلك تأسرهم بلاغة القرآن ومعانيه، ويتسارقون ويتسربون ليلا، للاستماع إلى الرسول صلى عليه وسلم وهو يقرؤه بصوت مسموع، إشباعا للذة الاستماع إليه، مع كراهتهم له.
ولو لم يفهموه ويحسوا بلاغته، ما سحرهم بيانه، وما جذبهم لهذه المخاطرة التى خاطروا فيها بأنفسهم وبمراكزهم وزعامتهم وسط معسكر الكافرين بالرسول، لو انكشف أمرهم .. وقلنا كانوا أقرب الناس إلى فهمه، لأنهم لم يكونوا جميعا على مستوى واحد من الفهم له وإدراك معانيه إذ من الطبيعى أن تكون أفهامهم متفاوتة، حتى لما يسمعون من كلامهم .. وذكرت لنا الروايات الصحيحة، أن بعضهم، ومنهم مقربون إلى رسول الله كان يتوقف فى فهم بعض ألفاظ وردت فيه، وإن كان يفهم المعنى الإجمالى للآية والسورة. والغرض من سياقها .. فوجدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، مع مكانته يسأله رجل عن معنى «الأب»
1 / 23
بتشديد الباء فى قوله تعالى «وَفاكِهَةً وَأَبًّا» فيقول: نهينا عن التكلف والتعمق (١)» وفى رواية أخرى .. أنه كان يقرأ الآية فتساءل عن معنى «الأب» كما روى (٢) أيضا أنه كان يقرأ «أو يأخذهم على تخوف» وهو على المنبر، فتساءل عن معنى «تخوف» فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا هو التنقص، ونحن الآن مع تباعد القرون بيننا وبينهم، لا نجد القرآن غامضا علينا إلا النادر منه الذى يحتاج إلى وقفة معه حتى العامى منا يدرك الكثير من معانى الآيات، ويخشع قلبه لما يسمعه ..
وفى ذلك يروى ابن جرير الطبرى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله:
«التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله» كوقت قيام الساعة.
فالوجهان الأولان ظاهران لا يحتاجان إلى عناء فى فهمهما، والثالث هو مدار البحث والأسئلة، والرابع يسكت عنه لأنه مما استأثر الله بعلمه ..
ومما لا شك فيه أن الصحابة كانوا أحيانا يتوجهون إلى الرسول لفهم بعض الآيات، أو يتولى الرسول شرحها دون سؤال ويتلقى الصحابة الشرح والجواب ..
مما عنيت كتب الحديث بذكره.
ولكن إلى أى مدى نثق فى صحة ما نسب إلى الرسول ﷺ من تفسير لبعض هذه المواضع من القرآن الكريم؟ ذلك أمر تكفلت به كتب السنة الموثوق بها، ولست أعنى بذلك كل كتب السنة المتداولة، لأن بعضها روى فى هذا الباب روايات لا يمكن أن تقبل عقلا .. فمثلا:
أخرج الحاكم عن أنس رضى الله عنه أنه قال: سئل رسول الله ﷺ عن القنطار فى قوله تعالى:
«وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» (٣) فقال: القنطار ألف أوقية «بينما روى الإمام احمد
_________
(١) فجر للمرحوم أحمد أمين ص ٢٨١.
(٢) المصدر السابق عن كتاب الموافقات للشاطبى.
(٣) من قوله تعالى «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» الآية ١٤ سورة آل عمران.
1 / 24