مبعوثا الآخيين إلى أخيل
وانطلق الفريقان - بعد ذلك - بمحاذاة شاطئ البحر الصاخب، وهم يقيمون صلوات عاجلة للإله الذي يمسك بالأرض ويزلزلها؛ كي يستطيعوا استمالة قلب ابن «أياكوس» بسهولة. ووصلوا إلى أكواخ المورميدون وسفنهم، فوجدوا ملكهم يرفه عن نفسه بقيثارة شجية النغمات، جميلة الشكل، فاخرة الصنع - عليها حلقة من الفضة - كان قد أخذها ضمن الغنائم عندما خرب مدينة أيتيون، وهكذا كان يطرب نفسه، ويتغنى بأمجاد الأبطال. وفي قبالته، كان «باتروكلوس» يجلس بمفرده صامتا، منتظرا حتى يكف ابن أياكوس عن الغناء، ولكن الاثنين
1
اقتربا - يتقدمهما «أوديسيوس» العظيم - فاتخذوا موقفهم أمام وجهه. فقفز «أخيل» مندهشا، والقيثارة في يده، وترك المقعد الذي كان يجلس عليه، وبالمثل نهض «باتروكلوس» عندما أبصر الرجال، عندئذ حيى «أخيل» - السريع القدمين - الرجال، وخاطبهم بقوله: «مرحبا بكم، إنكم ولا بد أصدقاء - إذ جئتم - ولا ريب أن حاجة ماسة أتت بكم يا من أعتبرهم - حتى في غضبي - أعز الآخيين.»
هكذا تكلم أخيل العظيم، ثم قادهم فأجلسهم على وسائد وطنافس من الأرجوان. وفي الحال خاطب «باتروكلوس» - الذي كان قريبا منه - بقوله: «هيئ طاسا كبيرا، يا ابن «مينويتيوس»، وامزج أقوى شراب، وأعد لكل رجل كأسا؛ لأن هؤلاء الرجال الذين تحت سقفي الآن أعزاء جدا.»
وما إن قال هذا حتى لبى باتروكلوس طلب زميله العزيز. ثم وضع قطعة كبيرة من اللحم في النار، ووضع عليها ظهر خروف ودهن ماعز وصلب خنزير ضخم مليء بالدهن كذلك. وأمسكها له «أوتوميدون»، بينما تولى «أخيل» العظيم تقطيعها بعناية إلى شرائح، ثم سفدها، في حين أضرم ابن «مينويتيوس» - شبيه الإله - النار مستعرة. وعندما هدأت النار وصفا اللهب، نثر الجمرات ووضع عليها السفود، وتبل قطع اللحم بالملح المقدس، بعد أن وضعها فوق سيقان الحديد على النار. فلما تم شواء اللحم ووضعه في الصحاف الكبيرة، تناول «باتروكلوس» الخبز ورتبه فورا على المائدة - في أسفاط جميلة - بينما وضع «أخيل» اللحم، وجلس هو نفسه في مقابل «أوديسيوس» - شبيه الإله - بجانب الحائط الآخر. وأمر رفيقه «باتروكلوس» بأن يقدم ذبيحة للآلهة، فرمى «باتروكلوس» ذبيحة تحترق في النار. وهكذا مدوا أيديهم إلى الوليمة الفاخرة المعدة أمامهم، وعندما أشبعوا رغبتهم من الطعام والشراب، هز «أياس» رأسه لفونيكس، فتنبه لذلك أوديسيوس العظيم. وما إن ملأ كأسا من الخمر، حتى هتف بأخيل: «السلام عليك، يا أخيل. إن المائدة العامرة لا تعوزنا، سواء في كوخ أجاممنون بن أتريوس، أو في كوخك الآن، فإن الطعام موفور ولا يزال هناك ما يكفي لشبع نهم القلب من الطعام الذي نشتهي، ولكن عقولنا لا تشغل بالوليمة الشهية، كلا، يا سليل زوس، فنحن خراب يباب، وإننا لمذعورون وجلون؛ لأن الشك يتطرق إلى نفوسنا، حول ما إذا كنا سنستطيع إنقاذ السفن ذات المقاعد، أم أنها ستتحطم، ما لم تتسربل أنت في قوتك. فبالقرب من السفن والأسوار أقام الطرواديون ذوو الهمم العالية، وكذا حلفاؤهم الذائعو الصيت، معسكرا، وأشعلوا نيرانا كثيرة في سائر أنحاء الجيش، وهم يعتقدون أنهم لن يمكثوا بعد ذلك، بل سينقضون على سفننا السوداء. وإن زوس بن كرونوس، ليظهر لهم علامات - على الجانب الأيمن - ببروقه، وإن هكتور ليتهلل طربا في قوته ويفور مهتاجا، معتمدا على زوس دون أن يحفل بأي إله أو إنسان، إذ تملكه جنون عات. إن صلاته تقتصر على الدعاء بأن تظهر الفجر المقدس بمنتهى السرعة؛ لأنه يعلم أنه سوف يحطم الرموز التي في مقدمات السفن، وسوف يحرق هياكل هذه السفن بالنيران الفتاكة، وبهذا يوقع أشد الفوضى بين الآخيين، الفاقدي الإحساس من جراء الدخان، هذا إذن هو ما يملأ قلبي خوفا، خشية أن تحقق الآلهة ما يزهو به، فيكون مصيرنا الهلاك هنا في طروادة، بعيدا عن أرجوس مرعى الخيول. فانهض إذن إذا كنت عازما - ولو في المرحلة الأخيرة - على أن تنقذ أبناء الآخيين الذين غلبوا على أمرهم، من وطيس حرب الطرواديين. ولسوف تحزن أنت نفسك فيما بعد، إذ لن يكون هناك علاج لشر تم وانقضى. فهيا وفكر - قبل أن يفوت الأوان - في دفع البلاء عن الدانيين. ومن المؤكد يا صديقي الكريم أن أباك «بيليوس» قد أوصاك يوم بعثك إلى «أجاممنون» بعيدا عن فثيا قائلا: «أي بني، ستمنحك أثينا وهيرا القوة، إذا توفرت لك العزيمة، ولكن هل لك أن تكبح جماح روحك المتكبرة في صدرك؛ لأن الميول المعتدلة خير الميول. ابتعد عن التكبر، جلاب الشقاء، حتى يبجلك الأرجوسيون صغارا وكبارا.»
لهذا السبب أوفدك الشيخ، ولكنك تنسى. ومع ذلك فهل لك الآن أن تكف وتخلع عنك غضبك المرير. إن «أجاممنون» يقدم لك هدايا قيمة، كي تتخلى عن غضبك. هيا، تعال، وأصغ إلي، فسأحدثك عن جميع الهدايا التي في كوخ «أجاممنون»، والتي يعد بتقديمها لك؛ سبع ركيزات لم تمسها النيران بعد، وعشرة تالنتات من الذهب، وعشرون قدرا براقة، واثنا عشر جوادا قويا من الجياد التي أحرزت الفوز في السباق، وربحت الجوائز لسرعتها. ما من رجل أعوزته الثروة، أو حرم من الذهب الثمين، إذا كان متاعه يعدل الجوائز التي فازت بها خيول أجاممنون القوية الحوافر. وسيعطيك سبع نساء ماهرات في الأعمال اليدوية الرائعة، نساء من ليسبوس اختارهن لنفسه من بين الغنائم - في اليوم الذي استوليت فيه بنفسك على ليسبوس المتينة البناء - لتفوقهن على جميع النساء فتنة وجمالا، هؤلاء سيعطيك إياهن، وبينهن تلك التي أخذها منك من قبل، ابنة بريسيس. وفضلا عن ذلك فإنه سيقسم قسما عظيما بأنه لم يعتل فراشها قط، ولم يحظ بمضاجعتها حسب الطريقة المعهودة للبشر، رجالا ونساء. كل هذه الأشياء ستكون معدة لتتسلمها فورا. وإذا شاءت الآلهة بعد ذلك أن تمنحنا القدرة على تخريب مدينة «بريام» العظيمة، فادخلها أنت، في الوقت الذي نشغل فيه - نحن الآخيين - باقتسام الغنيمة، ولك أن تملأ سفينتك بما تحب من الذهب والبرونز، وتختار بنفسك عشرين امرأة طروادية لا تبزهن سوى هيلينا الأرجوسية في الجمال. وإذا عدنا إلى أرجوس الآخية أغنى البلاد - فستكون أنت ابنه، وسوف يكرمك تماما كما يكرم «أوريستيس» ابنه اليافع الذي يتربى في كل عز ورخاء. وإن له ثلاث بنات في قصره الجميل البناء هن: «خروسوثيميس» و«لاوديكي» و«إيفياناسا»، فلك أن تقود أيهن تشاء إلى بيت «بيليوس»، دون أن تقدم لها هدايا الخطبة، ولسوف يعطيك بالإضافة إلى هذا صداقا بالغا، لم يسبق لرجل قط أن وهبه لابنته. وسيمنحك سبع مدن مزدحمة بالناس، هي: كاردامولي، وأينوبي، وهيري المعشوشبة، وفيراي المقدسة، وأنثايا ذات المروج الفسيحة، وأيبايا الجميلة، وبيداسوس المغطاة بالكروم، وكلها قريبة من البحر، عند أقصى حدود بولوس الرملية، وإن سكانها لأثرياء في الماشية وأغنياء في الأبقار، رجال سوف يكرمونك بالهدايا كما لو كنت إلها، وتحت لواء صولجانك سوف ينفذون أوامرك خير تنفيذ، كل هذا سيتم من أجلك، لو أنك فقط كففت عن غضبك فحسب. أما إذا كان حقدك على ابن أتريوس متغلغلا في قلبك، بحيث تمقته، هو وهداياه، إذن فاشفق - على الأقل - على بقية الآخيين، فلقد دب الخور في كافة أرجاء الجيش. ولسوف يبجلك هؤلاء كما لو كنت إلها؛ لأنك ستفوز - في عيونهم - بمجد عظيم حقا. والآن، هلا قتلت «هكتور»، حين يقترب منك في جنونه المدمر، اعتقادا منه بأن ليس له شبيه بين الدانيين الذين حملتهم السفن إلى هنا؟!»
عندئذ أجابه «أخيل» - السريع القدمين - بقوله: «يا ابن لايرتيس نسل زوس، أيا «أوديسيوس» الكثير الحيل، الحق أنه لا بد لي من أن أخبرك في الحال بما أنتوي فعله، وبما ستجري به الأمور، كي لا تجلس أمامي وتتملقني على هذا الوجه وذاك؛ لأني أمقت من يخفي شيئا في نفسه ويقول شيئا آخر، كما أمقت أبواب هاديس. والآن سأقول ما يبدو لي أنه خير ما يقال. فلست أنا - على ما أعتقد - ذلك الشخص الذي يغريه أجاممنون بن أتريوس، ولا غيره من الدانيين، ما دمنا لا ننال حمدا على القتال ضد الأعداء بدون هوادة. فإن نصيب من يقبع في بيته يكون عندئذ كنصيب من يقاتل خير قتال ، فيحظى كل من الجبان والشجاع بعين الاحترام، ويستوي في الموت الخامل ومن كدح طويلا. وبرغم ما تكبدته من محن في قلبي فليس لي نفع يرتجى من تعريض نفسي دائما للقتال، وكما يحضر الطائر في منقاره إلى صغاره - الزغب الحواصل - كل ما يعثر عليه، وهو يقسو على نفسه، فهكذا كنت أنا؛ إذ اعتدت أن أسهر ليالي كثيرة دون أن أنال نصيبا من النوم، وأن أخوض كثيرا من أيام القتال الدامية، أحارب مع الناس من أجل نسائهم، اثنتي عشرة مدينة قد خربتها بسفني في البحر، وإحدى عشرة في البر - أشهدكم عليها - خلال أرض طروادة الخصبة، ومن كل هذه غنمت غنائم كثيرة وعظيمة، وكنت دائما أحضرها جميعا فأعطيها لأجاممنون بن أتريوس هذا، الذي كان يتخلف وراء سفنه السريعة. فكان يعطيني منها حصة صغيرة عندما يتسلمها، ويحتفظ لنفسه بالنصيب الأكبر. وبعضها كان يقدمه جوائز تكريم للرؤساء والملوك، بينما كانت غنائم تبقى دون أن تمس، ومني أنا وحدي - دون سائر الآخيين - أخذ زوجتي، حبيبة قلبي. فدعه يرقد إلى جوارها، وينل متعته. ثم، لماذا على الأرجوسيين أن يشنوا الحرب على الطرواديين؟ لماذا حشد ابن أتريوس هذا جيشه، وقاده إلى هنا؟ ألم يكن من أجل «هيلينا» الجميلة الشعر؟ أهما، إذن، وحدهما - دون سائر البشر - اللذان يحبان زوجتيهما، ابنا أتريوس هذان؟ كلا، فإن كل رجل عاقل سليم الفكر، يحب زوجته ويدللها، تماما كما أحب أنا الآخر زوجتي من كل قلبي، رغم أنها لم تكن سوى أسيرة رمحي. أما وهو قد أخذها من بين ذراعي وخدعني، فلا تدعه يغرني؛ إذ إنني أعرفه تمام المعرفة. إنه لن يفلح. لا، يا أوديسيوس، دعه يشاورك والأمراء الآخرين، لدفع النيران المدمرة عن السفن. حقا لقد فعل الكثير جدا بدون معونتي؛ إذ شيد سورا، وحفر حوله خندقا واسعا وعميقا، وغرس فيه أوتادا، ومع ذلك فإنه لم يفلح في صد قوة «هكتور» الفتاك، في حين أن هكتور لم يجسر - طيلة أن كنت أقاتل وسط الآخيين - على أن يثير القتال بعيدا عن السور. ونادرا ما كان يأتي إلى أبواب «سكاي» وشجرة البلوط، ولقد انتظرني هناك ذات مرة، وحيدا، وبشق النفس استطاع أن ينجو من هجومي. أما الآن، فنظرا لأنني لا أعتزم أن أحارب «هكتور» العظيم، فسأقدم الذبيحة غدا لزوس وجميع الآلهة، وأكدس الغنائم في سفني بعد أن أكون قد أنزلتها إلى البحر، وإذ ذاك سترى سفني - إذا شئت، وعنيت بالأمر، تمخر عباب اليم، عند مطلع النهار، عبر الهيليسبونت الزاخر، وعلى ظهرها رجال تواقون جدا إلى استعمال المجداف. ولو شاء مزلزل الأرض العظيم أن يتيح لي رحلة جميلة، ففي اليوم الثالث أبلغ فثيا العميقة التربة. وهناك ممتلكاتي الشاسعة التي تركتها في طريقي المشئوم إلى هنا، ومع ذلك فسأعود إليها بمزيد من الذهب والبرونز الأحمر، والنساء الجميلات الهندام، والحديد الرمادي، وكل ما كان من نصيبي، لا تنقصها سوى جائزتي التي استردها مني ذلك الذي أعطانيها، في غمرة غروره، وأعني الملك أجاممنون بن أتريوس. قل له كل شيء - كما أقوله أنا بصراحة - كي يغضب الآخيون الآخرون جميعا، إذا رغب في أن يخدع فريقا آخر من الدانيين، حيث إنه متدثر دائما بقلة الحياء. ومع ذلك فإنه لا يجرؤ على أن ينظر إلى وجهي، رغم أن له وجه كلب. إنني لن أرسم معه أية خطة أو مشورة؛ لأنه قد خدعني ومكر بي، ولكنه لن يغرر بي بحديثه المعسول بعد ذلك أبدا؛ لأن لي عبرة كافية في الماضي. والآن، دعه يمضي إلى خرابه في سلام، فإن زوس الصاحب المشورة قد جرده تماما من مداركه. وإن هداياه لمقيتة في عيني، ولست أقيم لها من الوزن مقدار شعرة، ولو أنه أعطاني قدر كل ما في قبضته الآن عشر مرات، بل عشرين مرة، وكل ما قد يئول إليه فيما بعد، بل وكل دخل أورخومينوس أو طيبة المصرية - حيث تتخم بيوت المال عن آخرها - طيبة ذات الأبواب المائة، التي يهجم من كل باب منها مائتا محارب بالجياد والعربات، كلا لو أنه أعطاني هدايا في عداد الرمل والثرى، فلن يستطيع أجاممنون - بذلك - أن يستميل نفسي، حتى يكفر عن الكيد الذي يحز قلبي. ولن أتزوج ابنة أجاممنون بن أتريوس، ولو كانت تزاحم أفروديت الذهبية في الجمال، وتضارع أثينا البراقة العينين في التطريز، لن أتزوجها ولو كانت كذلك. فليختر لها شخصا آخر من بين الآخيين، يبزني مركزا وإجلالا؛ لأنه إذ صانتني الآلهة، ووصلت إلى وطني، فإن «بيليوس» - كما أعتقد - سيبحث لي فيما بعد عن زوجة من تلقاء نفسه. فما أكثر العذارى الآخيات في أنحاء هيلاس وفثيا، من بنات الرؤساء الذين يحرسون مدنهم، فمن أرغب فيها من أولئك سأتخذها زوجتي العزيزة. ولكم كانت نفسي المتسامية تواقة إلى أن تتخذ لي زوجة، رفيقة مناسبة، من هناك، وأن أستمتع بالممتلكات التي يقتنيها الشيخ بيليوس. فإن الحياة لا تعدلها كل تلك الثروة التي يقول الناس إن طروادة - تلك المدينة الغاصة بالناس - كانت تمتلكها في أيام السلم الخوالي، قبل أن يأتي أبناء الآخيين. كلا، بل ولا كل الكنز الذي تحتويه عتبة القواس «أبولو» المرمرية في بوثو الصخرية؛ إذ إن الماشية والأغنام السمينة تمتلك بالغزو، والركيزات والجياد الصهباء تقتنى بالشراء. بيد أنه لا الغزو ولا الكسب يملكان أن يردا روح المرء إذا هي تجاوزت مرة نطاق شفتيه. فهكذا تنبئني أمي الربة «ثيتيس» الفضية القدمين، إذ تقول لي إن قضاءين يفضيان بي إلى الموت؛ فإذا أنا مكثت هنا وحاصرت مدينة الطرواديين، فسأحرم من عودتي إلى الوطن، ولكن صيتي لن يفنى أبدا، أما إذا عدت إلى وطني العزيز، فإنني أفقد صيتي المجيد، ولكن حياتي تطول، فلا يواتيني الموت عاجلا، وفوق هذا، فإنني أوثر أن أنصح البقية الباقية منكم بالإبحار عودا إلى الوطن؛ إذ أرى أن لا أمل لكم في الفوز بمآربكم من طروادة الفسيحة؛ لأن زوس - البعيد النظر - يبسط يده فوقها بشدة، وشعبها مملوء بالشجاعة. والآن، اذهبوا في طريقكم وأعلنوا رسالتي إلى رؤساء الآخيين - لأن تلك مهمة الكبار - حتى يفكروا في خطة أخرى أفضل من هذه، خطة يستطيعون بها أن ينقذوا سفنهم، وكذا جيش الآخيين بجوار السفن الخاوية؛ إذ إن هذا الذي رسموه الآن لن يتحقق لهم بسبب نقمتي الجائحة. ومع كل، فدعوا «فونيكس» يمكث هنا معنا، ويقضي ليلته نائما عندنا، كي يتبعني فوق سفني إلى وطني العزيز غدا، إذا هو شاء، فلن أحتجزه عنوة.»
هكذا قال، فخيم عليهم جميعا الصمت، مفكرين في كلماته؛ فقد رفض عرضهم رفضا باتا. غير أن الفارس الشيخ «فونيكس»، قام أخيرا فتكلم في جمعهم وهو يجهش بالبكاء؛ لأنه كان يخاف كثيرا على سفن الآخيين، فقال: «إن كنت تفكر حقا في الرحيل، يا أخيل المجيد، ولا تعتزم بأية حال أن تدفع النار الضارية عن السفن السريعة، بسبب ذلك الغضب الذي يجيش به قلبك، فكيف يمكن إذن - يا طفلي العزيز - أن أبقى هنا بدونك؟ لقد بعثني إليك الفارس الشيخ «بيليوس» في اليوم الذي أرسلك فيه من فثيا إلى «أجاممنون»، ولم تكن إلا غلاما حدثا، لا يعرف شيئا عن الحرب الشريرة، ولا عن الاجتماعات التي يتبارى فيها الرجال في إبراز تفوقهم. لهذا السبب بعثني لأدربك على كل هذه الأمور، كي تجيد التحدث وتتقن الأعمال. ومن ثم، يا ولدي العزيز، فلست أرتضي - بعد ذلك - أن أبقى وحدي بدونك. كلا، ولو تعهد أحد الآلهة بأن يجردني من شيخوختي، وأن يرد قوتي وشبابي إلي، فأصير كما كنت في ذلك اليوم الذي تركت فيه - بادئ ذي بدء - هيلاس، موطن النساء الفاتنات هربا من الكفاح مع أبي «أمونطور»، ابن «أورمينوس»؛ لأنه كان غاضبا مني أشد الغضب إكراما لمحظيته الجميلة الشعر، التي كان يدللها دائما بنفسه، ويؤنب من أجلها زوجته، أمي؛ ولذا راحت أمي تتوسل إلي وتمسكني من ركبتي دائما، أن أضجع أولا من المحظية بنفسي، كي يصبح الرجل العجوز كريها في عينيها. فأطعت أمرها، وقمت بالمهمة، ولكن أبي تنبه فورا إلى هذا الأمر، فعنفني على ذلك أشد التعنيف، وتضرع إلى الأيرينويس الرائعات ألا يجلسن أبدا فوق ركبتي طفلا عزيزا من صلبي. وحققت الآلهة لعنته ، بواسطة زوس العالم السفلي، وبيرسيفوني المفزعة. ولقد ارتأيت - بعدئذ - قتله بالسيف الحاد، ولكن أحد الخالدين هدأ من غضبي مذكرا إياي بصوت الناس، وكل ما لدى البشر من لوم، حتى لا أسمى قاتل أب، بين الآخيين، ولكن روحي كانت خليقة بألا تبقى في صدري، إذا أنا بقيت في قصر أبي الناقم، حقا لقد تكاثر علي زملائي وأقاربي بالتوسلات العديدة، وسعوا إلى إبقائي هناك في القصر، وذبحوا خرافا كثيرة سمينة، وكذا أبقار ملساء متثاقلة المشية، وخنازير عديدة مملوءة بالدهن، بسطت لتشوى فوق لهب «هيفايستوس» وانصبت الخمر في الأفواه بكميات وفيرة من كئوس ذلك الرجل المسن. ومكثوا حوالي تسع ليال يراقبونني طوال الليل، وهم يتناوبون السهر، ولم تخمد النيران، بل بقيت نار تحت شرفة البهو المنيع، وأخرى في الطنف أمام باب حجرتي، ولكن ما إن حلت علي الليلة العاشرة - وكانت داجية الظلمة - حتى فتحت أبواب غرفتي الموصدة بإحكام ومهارة، وقفزت فوق سور الفناء بمنتهى السهولة، دون أن يراني الحراس أو الإماء. وهربت - بعد ذلك - خلال هيلاس الفسيحة، حتى بلغت فثيا العميقة التربة، ذات القطعان. وقصدت إلى الملك «بيليوس» فاستقبلني هاشا باشا، ودللني كما يدلل الأب ابنه الوحيد العزيز، وارث ممتلكاته العظيمة. ولقد أغناني، وأعطاني أناسا كثيرين، فعشت في أقصى حدود فثيا، حاكما على الدولوبيين. ولقد ربيتك لتكون على ما أنت عليه، يا «أخيل» - شبيه الإله - وأحببتك من كل قلبي؛ لأنك ما كنت ترضى أن تذهب إلى المائدة مع أي فرد غيري، ولا أن تتناول اللحم في القصر، إلا بعد أن أجلسك فوق ركبتي وأعطيك كفايتك من الشرائح الطيبة النكهة التي كنت أقطعها لك مقدما، وأضع كأس الخمر بين شفتيك. وكثيرا ما بللت العباءة التي على صدري، ساكبا الخمر في حالات ضعفك المؤسفة، هكذا قاسيت الكثير من أجلك، وتعبت كل التعب، متذكرا دائما أن الآلهة لن تمنحني بحال ما ابنا مولودا من صلبي. حقا، لقد كنت أنت هو الذي سعيت إلى جعله ابني، يا أخيل - شبيه الإله - بغية أن تنقذني فيما بعد من الخراب المشين. وعلى ذلك، فهل لك يا «أخيل»، أن تسيطر على غضبك الجامح، فليس يليق بك أن تكون ذا قلب مجرد من الرحمة، بل إن الآلهة أنفسها قد تلين، رغم أن غضبها أعتى، ورغم أنها أجل مهابة ومجدا وسلطانا. فإن قلوبها - بالبخور والعهود الموقرة، والسكائب ورائحة الذبائح - تستجيب للصلوات بقدر ما يتجاوز البشر حدودهم ويقترفون الذنوب؛ لأن صلوات التوبة هن بنات زوس العظيم. إنهن عرجاوات، مجعدات البشرة، ذوات عيون متطلعة يقتفين دائما خطوات الإثم؛ إذ إن الإثم قوي وسريع الإقدام، فهو يسبق الصلوات جميعا بمراحل، ويطوف قبلها بالأرض كلها، جاعلا الناس يسقطون في وهدة الخطيئة، والصلوات، تتبعه لعلاج الضرر. فالذي يحترم بنات زوس عندما يقتربن منه - فإنهن يباركنه كثيرا، ويستمعن إلى صلاته. وأما إذا أنكرهن المرء ورفضن بعناد، فإنهن ينصرفن عنه ويبتهلن إلى زوس كرونوس، كي تتبع الخطيئة مثل هذا الشخص حتى يتردى ويدفع تكفيرا كاملا. فهيا يا «أخيل»، ضع نصب عينيك - أنت الآخر - أن تقدم لبنات زوس من التبجيل ما يملأ قلوب الصالحين من البشر. فلولا أن ابن أتريوس يقدم إليك الهدايا ويعدك بغيرها فيما بعد، أي لو أنه كان سادرا في حقد أهوج، لما كنت أنا الذي يناشدك أن تبعد عنك الغضب وتحمل المعونة إلى الأرجوسيين وهم في حاجة ماسة إليها، ولكنه الآن يقدم إليك كثيرا من الهدايا، ويعدك بالمزيد منها فيما بعد، وقد أوفد إليك أبطالا ليتوسلوا إليك، وهم النخبة المختارة من جيش الآخيين بأسره، وهم أعز الأرجوسيين إلى نفسك، فلا تستهن برجائهم ولا بمجيئهم إلى هنا، رغم أنك لست ظالما ولا مخطئا - حتى الآن - في غضبك. فهكذا سمعنا عن شهرة قدامى المحاربين، إذ كلما تملك الغضب الشديد أي واحد منهم، كان من الممكن استرضاؤه بالهدايا، وكسبه بالقول. وهذه قصة أذكرها بحذافيرها عن الأزمان الغابرة - وليس عن الأمس - وسأرويها في جمعكم لأنكم جميعا أصدقاء. فذات مرة، كان - «الكوريتيس»
2
Bog aan la aqoon