ولسوف أتركك لنهمك كي تعب من الإلياذة ما طاب لك أن تعب، بقدر ما يتحمله عقلك وفكرك وصبرك، وكلي ثقة بأنك إذا ما ذقت بعض طعمها ما كففت أبدا عن الاستمرار في أن تنهل منها وتتزود بزادها، ولن ألبث حتى أراك قد التهمتها التهاما، إلى أن شبعت نفسك وفاض منها، وأتخم عقلك، وسمنت روحك، ثم أحسست بعد ذلك بحاجتك الملحة إلى ضرب من الراحة والاستجمام الطويل، كي تجتر وتهضم ما امتلأ به جوفك وكيانك وجنانك، من وجبة غذائية دسمة، قد يتحملها جهازك الهضمي، وقد لا يتحملها ويرهق.
وأبطال الإلياذة من البشر، أحيانا، ومن أنصاف الآلهة أحيانا أخرى، ومن الآلهة الأوليمبيين تارة ثالثة، وهذه الحرب التي نقرأ عنها، رغم كونها استمرت تسع سنوات طوال، إلا أن هوميروس لا يسجل منها في إلياذته إلا أحداث العام التاسع وحده، والحمد لله على أنه فعل ذلك؛ لأنه استعرض أحداث هذه المدة المحدودة القصيرة في خمسة وعشرين ألفا من أبيات الشعر الأيوني الوزن والقافية واللهجة، وهذه لهجة يونانية قاسية تختلف عن اللهجة الأتيكية السليمة، التي تدرس بها اللغة اليونانية القديمة في جميع أنحاء الدنيا، مما ضاعف من تعقيد النص وصعوبته أمام القارئ والمترجم والدارسين بصفة خاصة.
لعل أبرز الأسماء الجديرة بالذكر والتي تستحق الالتفات والاهتمام معا هي أسماء كل من الأبطال: أجاممنون وأخيل (أو أشيل) وهكتور وباريس وبريام (أو برياموس). فمن يتابع أعمال هؤلاء الأبطال، وتحركاتهم وتصرفاتهم في ساحة الوغى، لا يسعه إلا أن يشيد بعظمتهم وقدرتهم وقوتهم، وهائل إرادتهم وعزيمتهم وصبرهم وجلدهم وصمودهم بصورة لم يسمع عنها من قبل، ولم نقرأ عن أمثالها في أية حقبة من الأحقاب القديمة أو الحديثة على حد سواء.
ورغم خلو هذه الملحمة الجبروتية من عنصر النساء، فإنها قامت بسبب امرأة كان الأغارقة يعتبرونها أجمل نساء العالم طرا، كانوا يرونها غادة هيفاء، بديعة الحسن والتكوين، فريدة المثال والجمال لها وجه يخجل الأقمار، ويشتهي ندى الصباح أن يستقي منه نقاوته، ذاته عينين دعجاوين غارقتين في السواد، نجلاوين بالغتي الاتساع ... في وجهها هدوء، وفي عينيها صفاء، ولصورتها رواء ... حسناء متناسبة الطول، متناسقة العرض، مرفوعة الرأس، وضاحة الجبين ... تسير في طريقها فلا تنحرف ولا تميل ... ثيابها غالية وحليها ثمينة وعطرها زكي، وصوتها عذب ساحر، كأنه أنغام فرقة موسيقية كاملة بارعة تعزف لحنا شجيا حلوا ... تجتذب بظاهر فتنتها قلبا بعد قلب وتوردها موارد المنون ... طلقة المحيا، وادعة الأسارير، يزهو وجهها في إطار من خمار أسود قشيب، قد نصبته شركا لألوان من الإيذاء ... جبينها ناصع كالصراحة، ونظرتها باترة كالعزيمة، ضحكتها مدوية كالحرية، ولمعة تفكيرها العبقري تجثم في عمق عينيها كما يجثم سر الحياة الكبرى في مركز بدنها الغض الجميل، فمها ينبوع ماء حي يود أن يعب منه كل ظمآن، وأسنانها بيض كياسمين منضد، صقيلة لامعة كأندر وأغلى اللآلئ ... خدها آنية من فضة يحف بها إطار من مرمر وورد. أنوثتها خالصة ناضجة لا يلطفها الخفر، بل يضاعفها إغراء وفتنة ... ممشوقة القوام في شموخ ساطع، جريئة الروح في نقاء ناضر، مشبوبة القلب مضطرمة العاطفة، هي أروع في التألق والتحدي من الشمس في كبد السماء ... لها فم شتيت حلو أودعت فيه السماء أسرارها، وصبغته عرائس الفنون بحمرة القبل؛ فهو دائم الابتسام، كل ابتسامة منه تحيي وتميت ... لها عنق طويل بلوري شفاف، وجسد رخص مرمري، وساقان ملتفتان، يختلط في بشرتها بياض الندف بحمرة الورد ... أهدابها كحيلة طويلة سوداء، ذات وطف ... وباختصار، كانت أنثى جميلة فائقة الحسن فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلع الشمس على أنضر منها وجها، ولا أملد عودا، ولا أشد إغراء وفتنة ... جرى حديث جمالها الفاتن من فم إلى فم، وتنقل من دار إلى دار، حتى أصبحت مضرب المثل بين فتيات المدينة، ومقياس الجمال كلما عرض ذكر الجمال، إذ كان لها وجه كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر، أو تبلج الحق بين ظلمات الشكوك ... به عينان حوراوان امتزجت فيهما صولة السحر بنشوة الخمر، فكانتا شباك الفتنة لصيد القلوب ... وأنف أحسن الله تقويمه وأبدع تكوينه فزاد وجهها جمالا ... وثغر دري ياقوتي، تهيم به الشفاه، وتحوم حوله القلوب عطاشا كما تحوم طيور الصحراء حول معين الماء العذب النمير ... لها صدر صافي البياض ممتلئ بالأنوثة الملتهبة، يعبث بالعقول، كأنما قد صيغ من لجين براق، استعارت من الزنبق لينه فظهرت ناصعة رجراجة ... قد فرع عودها، وبرز نهداها، وترنح خصرها تحت الثوب الفضفاض الذي يستتر فيه جسدها الفتي المتفجر أنوثة وحياة، كما استدار وجهها وأناره جبين مشرق وضاء كأنه الهلال الوليد يطل من الأفق على عينين سوداوين كأن أهدابهما الطويلة الساجية غلائل ليل حالك السواد ... إذا تقدمت ترنو وتبتسم وتهتز، وتشد ثديا مثمرا فتجلب نعيما، وتثني ذراعا ملتفة عبلة، وتميل برأسها الذي كله خدود وعيون وأصداغ وأهداب كظلال الخلد ... تطل عليك بوجه صبوح جميل كالأماني، فاتن كوريقات الورد، مشرق كالضحى ... لها شعر طويل ناعم، وأنفاس كعطر تشتاقه الروح، وصوت كنغم من السماء، أو كاللحن الهادئ ينساب في خفوت، وبسمة يخشع لها القلب، ونظرات كأوتار الجيتار الناعمة الحنون ... كان منظرها، بحق، من أبهج المناظر وأشهاها وأظرفها وأحلاها، يوحي لمن يراها أن في دمه نورا، وفي كيانه سحرا، وفي حياته رجاء وأملا.
ورغم أن هذه المرأة ذات الوجه السابح في هالة الجمال والبهاء قد تزوجت مينيلاوس المحظوظ حاكم البلاد، وعاشت معه تحت سقف واحد، إلا أنها نكثت العهد وخانت زوجها الشريف النبيل، وهربت مع الضيف الطروادي الخسيس الذي استضافه زوجها المسكين، فغواها الضيف وزين لها الحرام بمعسول الألفاظ المضللة، فاستجابت لغزله، وضعفت أمام إغرائه، وهكذا هربت هيلينا الحلوة مع باريس اللئيم الخائن، فاعتبرت اليونان أن شرفها قد تلوث وصيتها قد تدنس، وأن سمعتها وسمعة حاكمها قد تلطخت بالوحل والقار، ولحقها العار والشنار، فهب رجال اليونان البواسل هبة رجل واحد، وقاموا يدا واحدة تاركين بيوتهم وزوجاتهم وعيالهم، وركبوا البحر الصاخب العريض، واتجهوا إلى حيث تعيش هيلينا مع خاطفها الدنيء في بلده طروادة. كان الشرف اليوناني يحتم عليهم استرداد الزوجة الهاربة العاصية، والقبض عليها، وأخذها بالقوة من بين أحضان عاشقها الوضيع الذي خان واجبات الضيافة المصونة، واعتدى على عرض أشرف الرجال وأعظم الحكام، وطعنه طعنة نجلاء في أعز ما يمتلك، ودنس فراشه، وانتهك حرمته، وأصابه في الصميم إصابة لا يمحوها إلا الدم والقتال إلى آخر رجل في اليونان.
ظل الأغارقة البواسل مدة تسع سنوات طوال كلها عذاب وشقاء، وقتال وحرمان، يحيطون بأسوار طروادة المنيعة البنيان، والقوية التشييد، والعالية السامقة، والمبنية بالحجر الصلد الصوان، معرضين عن الدنيا وما فيها، ونسوا نساءهم ومضاجعهم وشرابهم وحياة النعيم والرفاهية التي كانوا ينعمون بها في بلادهم ووسط أولادهم وبناتهم وزوجاتهم، ولم ينشغل بالهم إلا بالثأر من ذلك الخائن الغدار، ومحو ما لحق بسيدهم العزيز وحاكمهم المفدى من عار أي عار، والانتقام بالدم من ذلك النذل الذي أتى فعلة شنعاء متسللا إلى عقر دار حاكمهم ليسرق قلب مليكة فؤاده وشريكة فراشه، بفاتن كلماته، ومنمق عباراته، وعذب منطوقه وأحاديثه، حتى زين لها الخيانة وكساها أمام سمعها بحلة قشيبة مزركشة، خلبت لبها وخدعت فؤادها فانساقت وراء الذئب الخسيس، وهي لا تدري مغبة جريمتها النكراء، والعواقب الوخيمة التي سوف يتعرض لها زوجها المخدوع، ووطنها المنكوب، وكل شعبها المكلوم، رجالا وشبابا.
خرجت تشق عباب اليم ألف سفينة إغريقية محملة بالرجال والسلاح والمؤن والمعدات، ميممة شطر طروادة حيث يحتمي باريس اللعين مع معشوقته هيلينا المارقة، وقد ظن الوغد الداعر، والفاسق السادر، أنه فاز بمراده، وحظي بأجمل ما في الكون من أنوثة وجمال وفتنة، لقمة سائغة، فإذا ببلاده تتعرض لأقسى حصار عرفته أمة على وجه الأرض، ولأفظع حرب حنظلية مريرة مات فيها الألوف المؤلفة من المحاربين الشجعان والأبطال المغاوير.
ولولا الحصان الخشبي - وقصته معروفة شائعة - لما عرفت هذه الحرب الضروس لها نهاية وما أسدل الستار عليها في يوم ما، ولظلت الجيوش تحارب إلى ما شاء الله، كان لا بد للإغريق من خدعة كبرى مبتكرة وجديدة في نوعها، ولم يكن ليتقنها ويبتكرها، وينسج خيوطها، ويحكم حلقاتها، سوى الداهية العفرية أوديسيوس الكثير الحيل المحبوكة، والذي اعتبره العالم كله أمكر البشر جميعا، وأعظمهم براعة في دنيا الحيل والأحابيل والخدع ونصب الشراك. يا لها من فكرة مدهشة تلك التي فكر فيها أوديسيوس، وهي فكرة الحصان الخشبي الذي صنعه الأغارقة بأمره، وحسب تعليماته، وبإرشاده وإشرافه، كان جوادا جميل الشكل من خشب الأبنوس الأسود اللامع، مهيب الصورة والمنظر، بل قل هو تحفة فنية فائقة الجمال رائعة الهيئة، تود أي نفس أن تقتنيها وتستحوذ عليها وتستأثر بها، وهذا عين ما حدث، فما كادت عساكر طروادة وجنودها يرون ذلك الحصان الضخم الجذاب واقفا في الساحة خارج الأسوار، وقد انفض عنه أصحابه حتى سحبوه وأدخلوه وراء أسوارهم المنيفة الشامخة وسط التهليل وأهازيج الفرح والغبطة والسعادة الفائقة، دون أن يعلموا أن جوف ذلك الحصان يضم أبطالا مدججين بالسلاح البتار الفتاك، فخرج هؤلاء المقاتلون البواسل في جنح الظلام ومع عتمة الليل بعد أن تأكدوا من أن الطرواديين قد أذهلتهم نشوة الفرح، فراحوا يعبون كئوس الخمر مترعة وهم يهللون من فرحة الظفر، ظانين أن الأغارقة قد انصرفوا إلى حال سبيلهم دون رجعة، تاركين خارج الأسوار أشلاء قتلاهم وحصانهم الخشبي الذي كانوا يتباركون به، وارتمى على الأرض من ارتمى، ونام من نام، فإذا في الساعة المحدودة تعود سفن الإغريق المحملة بآلاف الجنود بعد أن تظاهروا بالانصراف متقهقرين مدحورين، وكان أوديسيوس وزملاؤه قد فتحوا لهم أبواب طروادة فتدفق الأغارقة منها إلى الداخل وتجرع الجنود الطرواديون السكارى الموت السريع برماح وسيوف الإغريق العطاش الموتورين، فكانت الهزيمة الجسيمة النكراء لأهل طروادة، فترنحت من شدة وطأتها البلاد، واستسلمت في سهولة ويسر وراح الأغارقة الظافرون يعيثون في البلاد فسادا بعد أن نهبوها وقتلوا باريسها وهكتورها واستعادوا هيلينا وأرجعوها إلى بلادهم، رافعين أعلام النصر فوق ساريات وأشرعة سفنهم المكينة، وهكذا استعادت اليونان شرفها الرفيع وسمعتها الغالية، وثأرت لحاكمها من ذلك الضعيف الجبان الغادر الذي اعتدى على بيته وزوجه في غفلة منه، وجازاه على إكرامه إياه وعدم تقصيره في واجبات الضيافة، ولم يؤذه من بعيد أو قريب، جازاه بالغدر والخيانة. •••
لعلني، أيها القارئ العزيز أكون في هذه العجالة قد أجملت بعض الأحداث الرئيسية في سطور قليلة، وهي، كما ترى، أحداث تهز المشاعر الإنسانية، وتمس الكيان البشري في صميم حياته، فكم من زوجة خانت بعلها، وهربت مع عاشقها، ولكن المفهوم الإغريقي للعلاقات الإنسانية قد خبا واندثر، وتطور مع تعاقب الأعوام واختلاف العصور والظروف، فما عدنا نحارب حرب الإغريق وإن كان الثأر لا يزال يمارس في بطاح كثيرة من المعمورة الغبراء لأمثال هذه الجريمة النكراء.
بعد كل هذا الذي كتبته من تقديم شخصي، يسعدني أن أقدم لكم إلياذة هوميروس نفسه في كلمات لم يسبقني إليها أحد من الذين تعرضوا لهذه الشخصية الأدبية، وهي امتداد لتلك المقدمة الطويلة التي صدرت بها ترجمتي لأوديسة هوميروس؛ فالمقدمتان نسيج واحد لثوب واحد، وتعالجان شخصية واحدة لا أحسب أن الدارسين قد فرغوا تماما من معالجتها العلاج الشافي، فمما لا شك فيه أن هوميروس بقرونه الثمانية السابقة لميلاد السيد المسيح، ما زال يحيط به غموض كثيف يحتاج إلى مزيد من الدرس والتمحيص والإضافة، للوقوف حقيقة على أبعاد وأعماق شخصيته ومكانته الأدبية الشامخة شموخ الأهرام في عصرنا الحديث.
Bog aan la aqoon