الفرق بينهما في نسج العبارات
وبين اليونانية والعربية فرق كبير في نسج العبارات وتركيب الجمل من حيث التقديم والتأخير، وصيغ الاشتقاق والجموع والحروف، والنحت وتركيب الأسماء، ولكن نهج كل لغة حسن في بابه، وأسباب الفصاحة متيسرة لأبناء كل لغة إذا أحكموا الرصف على نهجهم.
المترادفات وتعدد معاني اللفظ الواحد
ولكن للعربية مزيتين في مفرداتها تقصر اليونانية وسائر اللغات عن مجاراتها فيهما، وهما كثرة المترادفات في الألفاظ الدالة على المعنى الواحد، وتعدد المعاني للفظة الواحدة، فقد ذكروا عشرات ومئات من الألفاظ الموضوعة لمسميات معينة من الحيوان كالأسد والحية، والبعير والناقة والفرس والثور، والكلب والهر والمأكولات كالتمر واللبن والعسل، والمشروبات كالماء والخمر، والسلاح كالسيف والرمح، والصفات كالطويل والقصير، والكبير والصغير، والشجاع والجبان، والكريم والبخيل، وغير ذلك من مألوفهم كالنور والظلام، والشمس والقمر، والسحاب والمطر، والتراب والحجر، ولهم مثل ذلك في الأفعال، فقد عد أحدهم أكثر من ألف فعل يمكن إطلاقها على معنى واحد، ويقابل ذلك تعدد معاني اللفظ الواحد، فإذا تصفحت معاجم اللغة، وقرأت باب الخال والحال، والعين، والعجوز وأمثالها تولاك العجب لكثرة معاني كل كلمة منها.
ولقد يعلم اللبيب أن كل تلك المترادفات لم توضع في اللغة على نية الوضع بل وقع ذلك اتفاقا: إما لمنقول عن الأعاجم، وإما لاختلاف المدلولات في لغات القبائل المتباعدة، وأما للمح صفة مقصودة يتغير بها المعنى تغيرا طفيفا لا يشعر به لوحدة المسمى، فالخمرة مثلا إنما سميت كذلك لاختمار موادها، فإذا قيل الراح لمح إلى الروح والارتياح أو الرحيق نظر إلى صفائها وطيب رائحتها، أو السلسبيل قصدت سهولة مساغها وهلم جرا، ولكن هذه المميزات فقدت في الاستعمال، وأصبحت المترادفات متشابهة يقوم كل منها مقام الآخر مع أنه لا يوجد في الأصل ترادف تام في مفردات اللغة إلا في ما صدر عن لغتين لقبيلتين مختلفتين؛ كالليث والورد للأسد أو نقل من لغة الأعاجم إلى العربية مع بقاء اللفظ العربي فيها كالمينا من اليونانية للفرضة البحرية.
وإن للناظم فائدة من هذا الاتساع إذ يتيسر له أن يلتقط من هذه المترادفات ما وافق بحره وقافيته، فقد اتفق لي أثناء التعريب أن استعملت كثيرا من أسماء الأسد كالليث والغضنفر، والضرغام والقسورة، والهزبر والورد والضيغم، ولكن هذه الفائدة لا تذكر في جنب ما يلقيه هذا التراكم من العثرات في سبيل المنشئ الناثر والطالب الراغب في الإحاطة بأوابد اللغة وشواردها حتى لقد يرتبك بها الشاعر في بعض الأحوال، ومن ذا الذي تحثه الدعوى إلى زعم الإلمام بجميع هذه المترادفات بل أي حافظة تعي خمسمئة اسم للأسد، ومئتين للحية، ومئتين وخمسين للناقة، وما عسى أن تكون الجدوى من وجود أربعمئة اسم للداهية، ونعم القول قول الثعالبي: «إن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي». فأمثال هذه المترادفات عبء ثقيل على كاهل اللغة، فإنما يحسن حفظها في مطولات المعاجم للرجوع إليها في استجلاء غوامض الكلام والشعر القديم ضنا بذلك الذخر الثمين أن يتشتت وتذروه عوامل الغموض والنسيان، ولكنه لا يجدر بالطلاب والكتاب أن يتشبثوا بوحشيها ومهملها؛ لئلا تستغلق عبارتهم، وتجهد قريحتهم على غير جدوى، فيتعبون ويتعبون، وتثقل روحهم على روح المطالع.
الألفاظ المهملة
وقد جرت للعرب منذ القديم عادة حميدة في مجاراة الزمان وسنن الطبيعة، وإهمال ما تقادم العهد على نبذه، فكانوا يتحاشون في شعرهم ونثرهم إيراد الألفاظ المهملة في عصرهم، وفي روايات الأصمعي كثير من كلام الأعراب المتوغلين في البداوة مما لم يكن يفهمه أهل زمانه؛ لإهمال النطق به والعدول عنه إلى مرادف أسهل وأطلى ، وأيضا فإنهم لم يكثرون من استعمال الألفاظ الدالة على معاني مختلفة إلا في ما شاع من معانيها مطرحين ما غمض منها أو احتاج إلى تأويل؛ ولهذا كان شعر المولدين أقرب مما سواه إلى فهمنا، لقرب عهده منا وخلوه من كثير من غوامض الكلام، ويتلوه شعر المخضرمين ثم شعر الجاهليين، فحسبنا أن نتبع خطتهم فنبلغ بالنظر إلى عصرنا ما بلغوا بالنسبة إلى عصرهم، فيسقط ما قضى عليه الزمن بالسقوط ويبقى ما صلح للبقاء.
عجز العربية عن تأدية المعاني الحديثة
يؤخذ مما مر أن العربية قد خصت بثروة في مفرداتها واتساع في طرق تعبيرها تفاخر بهما سائر اللغات القديمة والحديثة، ولكن تلك الثروة وذلك الاتساع قد يمسيان بالإهمال وسوء الاستعمال ضيقا وفقرا، فإذا شكونا الزيادة فما أحرانا أن نشكو النقصان، فقد مرت القرون وتعاقبت الأجيال واللغات الحديثة جارية مع العلم والحضارة جري الشقيق الشفيق، والعربية كانت حتى هذا الزمن القريب ثابتة في موقف واحد كأن باب الاجتهاد قد أوصد في وجهها، وليس في سنن الخلق ما يوجب ذلك الإيصاد بالنظر إلى اللغة، بل إذا تتبعنا خطة السلف من عهد الجاهليين إلى انقضاء العصر العباسي رأينا أبناء هذه اللغة عاملين على تمحيصها وتهذيبها، وإبداعها كل ما بدر وصدر من نتاج العلم أو اقتضته ملابسة سائر الملل، فكانت في مقدمة اللغات اتساعا لكل مادة ومعنى، ولم تكن تضيق عبارة ناظم ولا ناثر عن تأدية كل مقاد عصري، فما بالها وهي لا تزال ذلك البحر الزاخر تضيق الآن عن كثير من التعبيرات العلمية والصناعية والسياسية، ولا مسميات فيها لكثير من أسماء الاختراعات، والآلات الحديثة والأدوات البيتية، أفكان يرضى قدماء العرب بهذا النقص، وقد وضعوا الأسماء العديدة لخشبات الصناع والقدور والقصاع، والدلاء وحبالها والناقة وعقالها والملوك، والزعماء والعوارف والوفود والفيوج، والأحلاف والأحزاب والأنصار والطلائع والسرايا والعهود والمواثيق، وسائر ما دعتهم إليه حاجة أو عرف.
Bog aan la aqoon