ويقول بعض المتقدمين من كتاب العرب: «إن العروض علم خاص بالعربية، وأن الخليل استنبطه، ولم يسبقه إليه أحد في لغة أخرى مع أن أرسطوطاليس ضبط قواعده للغة اليونان، وله فيه تأليف يعول عليه» ولأكثر اللغات قواعد ضابطة لأصول الشعر وعروضه، ويؤخذ من قول ابن خلكان في ترجمة الخليل أنه ألم باليونانية، وفك معمى أرسل إليه فيها ، ولكنه لا يثبت من كل ذلك أن الخليل وقف على كتاب أرسطوطاليس في العروض واعتمد عليه، وخصوصا أن العروض العربي مختلف في جميع أوضاعه عن عروض اليونان، ومن جرى مجراهم، وعلى كل فإن للخليل فضلا على الشعر العربي يضاهي أبي الأسود الدؤلي على نحو اللغة بل يربو عليه؛ لأنه لم يكن للخليل مرشد إلى استنباطه، ولا شريك فيه، ولا يكبر على الخليل أن يكون مستنبطا بلا دليل سابق يسترشد به؛ لأن الاستنباط كان في طبعه، وله مما خلا العروض استخراجات كثيرة تدل على سعة عقل لم يقدرها ابن المقفع قدرها إذ قال: «علم الخليل أكبر من عقله».
والغريب أنه كاد يبلغ بهذا العلم حد الكمال منذ فكر فيه وضعه إذ قيد جميع البحور التي انتهجها العرب، ولم يزد عليها من بعده إلا بحر واحد هو المحدث أو الخبب، ويقال له: المتدارك أيضا؛ لأن الأخفش تداركه على الخليل، ولا عبرة بما استعمل المولدون من الأوزان الفارسية كمنقول الفاريابي والدوبيت، وما عدلوا به عن الأوزان المألوفة في الموشحات والأغاني، وما زادوا فيه من تقييد العلة والزحاف، فذلك عرض ينفسح للتسوع فيه مجال رحب؛ ولهذا يصح أن يقال: إن علم العروض خلق كاملا؛ لأن الخليل أحكم تمثيل جميع القوالب الشعرية وتطبيقها على جميع منظوم العرب في الجاهلية.
البديع
رأيت أن المولدين تفننوا في الصناعة الشعرية، ونهجوا مناهج لم يسبقهم إليها الجاهليون والمخضرمون، وتلاعبوا بالألفاظ والمعاني، فمست الحاجة بعد صوغ تلك القوالب إلى توشيتها والنظر في إحكام زخرفها، فوضعوا علم البديع بفرعيه اللفظي والمعنوي، فكان اللفظي ألصق بالشعر منه بالنثر، والمعنوي يتناول جميع فنون الإنشاء من شعر ونثر على حد سواء.
وأول من كتب في البديع فيما نقل إلينا شاعر كلف بأنواع التشابيه والاستعارات، فكان قوله فيهما حجة الكتاب والشعراء ألا وهو ابن المعتز العباسي، ولم يكن بين المولدين من هو أولى منه بوضع هذا الفن، فكتب في صنعة الشعر، ووضع رسالة في البديع كانت أساس هذا العلم، وذلك في أوائل الشطر الأخير من القرن الثالث للهجرة أي: بعد أن وضع الخليل علم العروض بأكثر من قرن.
ولا بدع أن يكون واضع هذا العلم شاعرا، وإن كان العلم بنفسه غير خاص بالشعر كالعروض، فالعلماء والشعراء يتعاونون على إحياء الأدب، فالشاعر صناجة جيش العلماء، والعالم نبراس جند الشعراء.
وهكذا فإننا نعد من مآثر المولدين وضع علمين عربيين استنبطاهما استنباطا بالنظر إلى العربية، وهما: العروض، والبديع اللفظي.
البيان
أما البيان بما يشمل من علم المعاني والبديع المعنوي فليس من وضع العرب بحصر المعنى، وإن كانوا طبقوه على التراكيب العربية، فقد استمدوا أصوله من اليونان والسريان والفرس كما استمدوا المنطق من كتاب أرسطوطاليس وغيره من علماء المتقدمين، وكان للفرس في البيان اليد الطولى، ولجعفر البرمكي كلام فيه ما زال ينقل عنه، على أن للمولدين فيه النظر العالي والفضل الواسع بما أحسنوا في تبويبه، وأحكموا في ترتيبه حتى ألبسوه حلة عربية، ومع هذا فلم يبلغ حتى يومنا درجة الكمال التي بلغها العروض والبديع اللفظي.
فهذه علوم ثلاثة وضعها المولدون إحكاما للصناعة الشعرية وأساليب الإنشاء، وليس من شأننا أن نتطال إلى ذكر سائر العلوم التي لها علاقة بالشعر قريبة أو بعيدة، فهي كثيرة ولا سيما في هذا العصر حيث لا غنى للشاعر عن الإلمام، ولو قليلا بكثير من العلوم.
Bog aan la aqoon