بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله أولًا حمدًا كثيرا متواليا وإن كان يتضاءل دون حق جلاله حمد الحامدين وأصلي واسلم على رسله ثانيًا صلاة تستغرق مع سيد البشر سائر المرسلين وأستخيره تعالى ثالثًا فيما انبعث عزمي من تحرير كتاب في إحياء علوم الدين وأنتدب لقطع تعجبك رابعًا أيها العاذل المتغالي في العذل من بين زمرة الجاحدين المسرف في التقريع (١)
_________
(١) بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحيا علوم الدين فأينعت بعد اضمحلالها وأعيا فهوم الملحدين عن دركها فرجعت بكلالها أحمده وأستكين له من مظالم انقضت الظهور بأثقالها وأعبده وأستعين به لعصام الأمور وعضالها وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له شهادة وافية بحصول الدرجات وظلالها واقية من حلول الدركات وأهوالها وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أطلع به فجر الإيمان من ظلمة القلوب وضلالها وأسمع به وقر الآذان وجلا به رين القلوب بصقالها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاة لا قاطع لاتصالها
وبعد فلما وفق الله تعالى لإكمال الكلام على أحاديث إحياء علوم الدين في سنة إحدى وخمسين تعذر الوقوف على بعض أحاديثه فأخرت تبييضه إلى سنة ستين فظفرت بكثير مما عزب عني علمه ثم شرعت في تبييضه في مصنف متوسط حجمه وأنا مع ذلك متباطىء في إكماله غير متعرض لتركه وإهماله إلى أن ظفرت بأكثر ما كنت لم أقف عليه وتكرر السؤال من جماعة في إكماله فأجبت وبادرت إليه ولكني اختصرته في غاية الاختصار ليسهل تحصيله وحمله في الأسفار فاقتصرت فيه على ذكر طرف الحديث وصحابيه ومخرجه وبيان صحته أو حسنه أو ضعف مخرجه فإن ذلك هو المقصود الأعظم عند أبناء الآخرة بل وعند كثير من المحدثين عند المذاكرة والمناظرة وأبين ما ليس له أصل في كتب الأصول والله أسأل أن ينفع به إنه خير مسئول
فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بعزوه إليه وإلا عزوته إلى من خرجه من بقية الستة وحيث كان في أحد الستة لم أعزه إلى غيرها إلا لغرض صحيح بأن يكون في كتاب التزم مخرجه الصحة أو يكون أقرب إلى لفظه في الإحياء وحيث كرر المصنف ذكر الحديث فإن كان في باب واحد منه اكتفيت بذكره أول مرة وربما ذكرته فيه ثانيا وثالثا لغرض أو لذهول عن كونه تقدم وإن كرره في باب آخر ذكرته ونبهت على أنه قد تقدم وربما لم أنبه على تقدمه لذهول عنه وحيث عزوت الحديث لمن خرجه من الأئمة فلا أريد ذلك اللفظ بعينه بل قد يكون بلفظه وقد يكون بمعناه أو باختلاف على قاعدة المستخرجات وحيث لم أجد ذلك الحديث ذكرت ما يغنى عنه غالبا وربما لم أذكره وسميته المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار
جعله الله خالصا لوجهه الكريم ووسيلة إلى النعيم المقيم
1 / 1
والإنكار من بين طبقات المنكرين الغافلين فلقد حل عن لساني عقدة الصمت وطوقني عهدة الكلام وقلادة النطق ما أنت مثابر عليه من العمى عن جلية الحق مع اللجاج في نصرة الباطل وتحسين الجهل والتشغيب على من آثر النزوع قليلًا عن مراسم الخلق ومال ميلًا يسيرًا عن ملازمة الرسم إلى العمل بمقتضى العلم طمعًا في نيل ما تعبده الله تعالى به من تزكية النفس وإصلاح القلب وتداركًا لبعض ما فرط من إضاعة العمر يائسًا عن تمام حاجتك في الحيرة وانحيازًا عن غمار من قال فيهم صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله سبحانه بعلمه (١) ولعمري إنه لا سبب لإصرارك على التكبر إلا الداء الذي عم الجم الغفير بل شمل الجماهير من القصور عن ملاحظة ذروة هذا الأمر والجهل بأن الأمر إد والخطب جد والآخرة مقبلة والدنيا مدبرة والأجل قريب والسفر بعيد والزاد طفيف والخطر عظيم والطريق سد وما سوى الخالص لوجه الله من العلم والعمل عند الناقد البصير رد وسلوك طريق الآخرة مع كثرة الغوائل من غير دليل ولا رفيق متعب ومكد فأدله الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفًا فصار يرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا حتى ظل علم الدين مندرسًا ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمسًا ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام
فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهًا وحكمة وعلمًا وضياء ونورًا وهداية ورشدًا فقد أصبح من بين الخلق مطويًا وصار نسيًا منسيًا
ولما كان هذا ثلمًا في الدين ملمًا وخطبًا مدلهمًا رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهمًا إحياء لعلوم الدين وكشفًا عن مناهج الأئمة المتقدمين وإيضاحًا لمباهي العلوم النافعة عند التبيين والسلف الصالحين
وقد أسسته على أربعة أرباع وهي ربع العبادات وربع العادات وربع المهلكات وربع المنجيات
وصدرت الجملة بكتاب العلم لأنه غاية المهم لأكشف أولًا عن العلم الذي تعبد الله على لسان رسوله ﷺ الأعيان بطلبه إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طلب العلم فريضة على كل مسلم (٢) وأميز فيه العلم النافع من الضار إذ قال ﷺ نعوذ بالله من علم لا ينفع (٣) وأحقق ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب وانخداعهم بلامع السراب واقتناعهم من العلوم بالقشر عن اللباب
ويشتمل ربع العبادات على عشرة كتب كتاب العلم وكتاب قواعد العقائد وكتاب أسرار الطهارة وكتاب أسرار الصلاة وكتاب أسرار الزكاة وكتاب أسرار الصيام وكتاب أسرار الحج وكتاب آداب تلاوة القرآن وكتاب الأذكار والدعوات وكتاب ترتيب الأوراد في الأوقات
_________
(١) حديث أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه رواه الطبراني في الصغير والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف
(٢) حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم رواه ابن ماجه من حديث أنس وضعفه أحمد والبيهقي وغيرهما
(٣) حديث نعوذ بالله من علم لا ينفع رواه ابن ماجه من حديث جابر بإسناد حسن
1 / 2
وأما ربع العادات فيشتمل على عشرة كتب كتاب آداب الأكل وكتاب آداب النكاح وكتاب أحكام الكسب وكتاب الحلال والحرام وكتاب آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق وكتاب العزلة وكتاب آداب السفر وكتاب السماع والوجد وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة
وأما ربع المهلكات فيشتمل على عشرة كتب كتاب شرح عجائب القلب وكتاب رياضة النفس وكتاب آفات الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج وكتاب آفات اللسان وكتاب آفات الغضب والحقد والحسد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال والبخل وكتاب ذم الجاه والرياء وكتاب ذم الكبر والعجب وكتاب ذم الغرور
وأما ربع المنجيات فيشتمل على عشرة كتب كتاب التوبة وكتاب الصبر والشكر وكتاب الخوف والرجاء وكتاب الفقر والزهد وكتاب التوحيد والتوكل وكتاب المحبة والشوق والأنس والرضا وكتاب النية والصدق والإخلاص وكتاب المراقبة والمحاسبة وكتاب التفكر وكتاب ذكر الموت
فأما ربع العبادات فأذكر فيه خفايا آدابها ودقائق سننها وأسرار معانيها ما يضطر العالم العامل إليه بل لا يكون من علماء الآخرة من لا يطلع عليه وأكثر ذلك مما أهمل في فن الفقهيات
وأما ربع العادات فأذكر فيه أسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأغوارها ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها وهي مما لا يستغني عنها متدين
وأما ربع المهلكات فأذكر فيه كل خلق مذموم ورد القرآن بإماطته وتزكية النفس عنه وتطهير القلب منه وأذكر من كل واحد من تلك الأخلاق حده وحقيقته ثم أذكر سببه الذي منه يتولد ثم الآفات التي عليها تترتب ثم العلامات التي بها تتعرف ثم طرق المعالجة التي بها منها يتخلص كل ذلك مقرونًا بشواهد الآيات والأخبار والآثار
وأما ربع المنجيات فأذكر فيه كل خلق محمود وخصلة مرغوب فيها من خصال المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين وأذكر في كل خصلة حدها وحقيقتها وسببها الذي به تجتلب وثمرتها التي منها تستفاد وعلامتها التي بها تتعرف وفضيلتها التي لأجلها فيها يرغب مع ما ورد فيها من شواهد الشرع والعقل ولقد صنف الناس في بعض هذه المعاني كتبًا ولكن يتميز هذا الكتاب عنها بخمسة أمور
الأول حل ما عقدوه وكشف ما أجملوه
الثاني ترتيب ما بددوه ونظم ما فرقوه
الثالث إيجاز ما طولوه وضبط ما قرروه
الرابع حذف ما كرروه وإثبات ما حرروه
الخامس تحقيق أمور غامضة اعتاصت على الأفهام لم يتعرض لها في الكتب أصلًا إذ الكل وإن تواردوا على منهج واحد فلا مستنكر أن يتفرد كل واحد من السالكين بالتنبيه لأمر يخصه ويغفل عنه رفقاؤه أو لا يغفل عن التنبيه ولكن يسهو عن إيراده في الكتب أو لا يسهو ولكن يصرفه عن كشف الغطاء عنه صارف فهذه خواص هذا الكتاب مع كونه حاويًا لمجامع هذه العلوم
وإنما حملني على تأسيس هذا الكتاب على أربعة أرباع أمران أحدهما وهو الباعث الأصلي أن هذا الترتيب في التحقيق والتفهيم كالضرورة لأن العلم الذي يتوجه به إلى الآخرة ينقسم إلى علم المعاملة وعلم المكاشفة وأعني
1 / 3
بعلم المكاشفة ما يطلب منه كشف المعلوم فقط وأعني بعلم المعاملة ما يطلب منه مع الكشف العمل به والمقصود من هذا الكتاب علم المعاملة فقط دون علم المكاشفة التي لا رخصة في إيداعها الكتب وإن كانت هي غاية مقصد الطالبين ومطمع نظر الصديقين وعلم المعاملة طريق إليه ولكن لم يتكلم الأنبياء صلوات الله عليهم مع الخلق إلا في علم الطريق والإرشاد إليه
وأما علم المكاشفة فلم يتكلموا فيه إلا بالرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال علمًا منهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال والعلماء ورثة الأنبياء فما لهم سبيل إلى العدول عن نهج التأسي والاقتداء ثم إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر أعني العلم بأعمال الجوارح وإلى علم باطن أعني العلم بأعمال القلوب والجاري على الجوارح إما عادة وإما عبادة والوارد على القلوب التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت إما محمود وإما مذموم فبالواجب انقسم هذا العلم إلى شطرين ظاهر وباطن والشطر الظاهر المتعلق بالجوارح انقسم إلى عادة وعبادة والشطر الباطن المتعلق بأحوال القلب وأخلاق النفس انقسم إلى مذموم ومحمود فكان المجموع أربعة أقسام ولا يشذ نظر في علم المعاملة عن هذه الأقسام
الباعث الثاني
أني رأيت الرغبة من طلبة العلم صادقة في الفقه الذي صلح عند من لا يخاف الله ﷾ المتدرع به إلى المباهاة والاستظهار بجاهه ومنزلته في المنافسات وهو مرتب على أربعة أرباع والمتزيي بزي المحبوب محبوب فلم أبعد أن يكون تصوير الكتاب بصورة الفقه تلطفًا في استدراج القلوب ولهذا تلطف بعض من رام استمالة قلوب الرؤساء إلى الطب فوضعه على هيئة تقويم النجوم موضوعًا في الجداول والرقوم وسماه تقويم الصحة ليكون أنسهم بذلك الجنس جاذبًا لهم إلى المطالعة والتلطف في اجتذاب القلوب إلى العلم الذي يفيد حياة الأبد أهم من التلطف في اجتذابها إلى الطب الذي لا يفيد إلا صحة الجسد فثمرة هذا العلم طب القلوب والأرواح المتوصل به إلى حياة تدوم أبد الآباد فأين منه الطب الذي يعالج به الأجساد وهي معرضة بالضرورة للفساد في أقرب الآماد فنسأل الله سبحانه التوفيق للرشاد والسداد إنه كريم جواد
كتاب العلم
وفيه سبعة أبواب الباب الأول في فضل العلم والتعليم والتعلم
الباب الثاني في فرض العين وفرض الكفاية من العلوم وبيان حد الفقه والكلام من علم الدين وبيان علم الآخرة وعلم الدنيا
الباب الثالث فيما تعده العامة من علوم الدين وليس منه وفيه بيان جنس العلم المذموم وقدره
الباب الرابع في آفات المناظرة وسبب اشتغال الناس بالخلاف والجدل
الباب الخامس في آداب المعلم والمتعلم
الباب السادس في آفات العلم والعلماء والعلامات الفارقة بين علماء الدنيا والآخرة
الباب السابع في العقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار
الباب الأول في فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل
فضيلة العلم
شواهدها من القرآن قَوْلُهُ ﷿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بالقسط فانظر
1 / 4
كَيْفَ بَدَأَ ﷾ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ وَثَلَّثَ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَنَاهِيكَ بِهَذَا شَرَفًا وَفَضْلًا وجلاء ونبلًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ قال ابن عباس ﵄ للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام
وَقَالَ ﷿ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يعلمون والذين لا يعلمون﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ وقال تعالى ﴿قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾ وقال تعالى ﴿قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به﴾ تنبيهًا على أنه اقتدر بقوة العلم
وقال ﷿ ﴿وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا﴾ بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم
وقال تعالى ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ رَدَّ حُكْمَهُ فِي الْوَقَائِعِ إِلَى اسْتِنْبَاطِهِمْ وَأَلْحَقَ رُتْبَتَهُمْ بِرُتْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَشْفِ حُكْمِ اللَّهِ
وقيل في قوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم يعني العلم وريشًا يعني اليقين ولباس التقوى يعني الحياء
وقال ﷿ ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم﴾ وقال تعالى ﴿فلنقصن عليهم بعلم﴾ وقال ﷿ ﴿بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ وقال تعالى ﴿خلق الإنسان علمه البيان﴾ وإنما ذكر ذلك في معرض الامتنان
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَيُلْهِمْهُ رُشْدَهُ (١) وَقَالَ ﷺ الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ (٢) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا رُتْبَةَ فَوْقَ النُّبُوَّةِ وَلَا شَرَفَ فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة
وقال ﷺ يستغفر للعالم ما في السموات والأرض (٣) وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السموات والأرض بالاستغفار له
وقال ﷺ إن الحكمة تزيد الشريف شرفًا وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك (٤) وقد نبه بهذا على ثمراته في الدنيا ومعلوم أن الآخرة خير وأبقى
وَقَالَ ﷺ خَصْلَتَانِ لَا يكونان في منافق حسن سمت وفقه في الدين (٥) ولا تشكن في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته وسيأتي معنى الفقه
وأدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برىء بها من النفاق والرياء
وقال ﷺ أفضل الناس المؤمن العالم الذي إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه (٦) وقال ﷺ الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم (٧) وقال ﷺ أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم
_________
(١) حديث مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدين ويلهمه رشده متفق عليه من حديث معاوية دون قوله ويلهمه رشده وهذه الزيادة عند الطبراني في الكبير
(٢) حديث العلماء ورثة الأنبياء أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي الدرداء
(٣) حديث يستغفر للعالم ما في السموات والأرض هو بعض حديث أبي الدرداء المتقدم
(٤) حديث الحكمة تزيد الشريف شرفًا الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في بيان العلم وعبد الغني الأزدي في آداب المحدث من حديث أنس بإسناد ضعيف
(٥) حديث خصلتان لا تجتمعان في منافق الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حديث غريب
(٦) حديث أفضل الناس المؤمن العالم الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان موقوفًا على أبي الدرداء بإسناد ضعيف ولم أره مرفوعا
(٧) حديث الإيمان عريان الحديث أخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور من حديث أبي الدرداء بإسناد ضعيف
1 / 5
على ما جاءت به الرسل (١)
وقال ﷺ لموت قبيلة أيسر من موت عالم (٢) وقال ﵊ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا (٣) وقال ﷺ يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء (٤) وقال ﷺ من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من السنة حتى يؤديها إليهم كنت له شفيعًا وشهيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (٥) وَقَالَ ﷺ من حمل من أمتي أربعين حديثًا لقي الله ﷿ يوم القيامة فقيهًا عالمًا (٦) وقال ﷺ من تفقه في دين الله ﷿ كفاه الله تعالى ما أهمه وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (٧) وَقَالَ ﷺ أوحى الله ﷿ إلى إبراهيم ﵇ يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم (٨) وقال ﷺ العالم أمين الله سبحانه في الأرض (٩) وقال ﷺ صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس الأمراء والفقهاء (١٠) وقال ﷺ إِذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ ﷿ فَلَا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ (١١) وَقَالَ ﷺ فِي تَفْضِيلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالشَّهَادَةِ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي (١٢) فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ الْعِلْمَ مُقَارِنًا لِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ وَكَيْفَ حَطَّ رُتْبَةَ الْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ الْعَابِدُ لَا يَخْلُو عَنْ عِلْمٍ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي يُوَاظِبُ عَلَيْهَا وَلَوْلَاهُ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةٌ وَقَالَ ﷺ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ على سائر الكواكب (١٣) وقال ﷺ يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء (١٤) فأعظم بمرتبة هي تلو النبوة وفوق الشهادة مع ما ورد في فضل الشهادة
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما عبد الله تعالى بشيء أفضل من فقه في الدين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه (١٥) وقال ﷺ خير دينكم أيسره وخير العبادة الفقه (١٦) وقال ﷺ فضل المؤمن العالم على
_________
(١) حديث أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد الحديث أخرجه أبو نعيم في فضل العالم العفيف من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف
(٢) حديث لموت قبيلة أيسر من موت عالم أخرجه الطبراني وابن عبد البر من حديث أبي الدرداء وأصل الحديث عند أبي الدرداء
(٣) حديث الناس معادن الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
(٤) حديث يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف
(٥) حديث من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من السنة حتى يؤديها إليهم كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة أخرجه ابن عبد البر في العلم من حديث ابن عمر وضعفه
(٦) حديث من حمل من أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا عالمًا أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس وضعفه
(٧) حديث من تفقه في دين الله كفاه الله همه الحديث رواه الخطيب في التاريخ من حديث عبد الله بن جزء الزبيدي بإسناد ضعيف
(٨) حديث أوحى الله إلى إبراهيم يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم ذكر ابن عبد البر تعليقا ولم أظفر له بإسناد
(٩) حديث العالم أمين الله في الأرض أخرجه ابن عبد البر من حديث معاذ بسند ضعيف
(١٠) حديث صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس الحديث أخرجه ابن عبد البر وأبو نعيم من حديث ابن عباس بسند ضعيف
(١١) حديث إِذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أَزْدَادُ فِيهِ علمًا يقربني الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في العلم من حديث عائشة بإسناد ضعيف
(١٢) حديث فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رجل من أصحابي أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال حسن صحيح
(١٣) حديث فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ البدر على سائر الكواكب أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وهو قطعة من حديث أبي الدرداء المتقدم
(١٤) حديث يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء رواه ابن ماجه من حديث عثمان بن عفان بإسناد ضعيف
(١٥) حديث ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين الحديث رواه الطبراني في الأوسط وأبو بكر الآجري في كتاب فضل العلم وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف وعند الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس بسند ضعيف فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد
(١٦) حديث خير دينكم أيسره وأفضل العبادة الفقه أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس بسند ضعيف والشطر الأول عند أحمد من حديث محجن ابن الأدرع بإسناد جيد والشطر الثاني عند الطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف
1 / 6
المؤمن العابد بسبعين درجة (١) وقال ﷺ إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه العمل فيه خير من العلم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه العلم فيه خير من العمل (٢) وقال ﷺ بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة (٣) وقيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل فقال العلم بالله ﷿ فقيل أي العلم تريد قال ﷺ العلم بالله سبحانه فقيل له نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال ﷺ إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله (٤) وقال ﷺ يبعث الله سبحانه العباد يوم القيامة ثم يبعث العلماء ثم يقول يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم (٥) نسأل الله حسن الخاتمة
وأما الآثار فقد قال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ﵁ لكميل يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم حاكم والمال محكوم عليه والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق
وقال علي أيضًا ﵁ العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه وقال ﵁ نظمًا
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيًا به أبدًا ... الناس موتى وأهل العلم أحياء
وقال أبو الأسود ليس شيء أعز من العلم الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك وقال ابن عباس ﵄ خير سليمان بن داود ﵉ بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه وسئل ابن المبارك من الناس فقال العلماء قيل فمن الملوك قال الزهاد قيل فمن السفلة قال الذين يأكلون الدنيا بالدين ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله وليس ذلك بقوة شخصه فإن الجمل أقوى منه ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنًا منه ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه بل لم يخلق إلا للعلم
وقال بعض العلماء ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فاته من أدرك العلم
وقال ﵊ من أوتي القرآن فرأى أن أحدًا أوتي خيرًا منه فقد حقر ما عظم الله تعالى وَقَالَ فتح الموصلي ﵀ أَلَيْسَ الْمَرِيضُ إِذَا مُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالدَّوَاءَ يَمُوتُ قَالُوا بَلَى قَالَ كَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا مُنِعَ عَنْهُ الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَمُوتُ
وَلَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ غِذَاءَ الْقَلْبِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ وَبِهِمَا حَيَاتُهُ كَمَا أَنَّ غِذَاءَ الْجَسَدِ الطَّعَامُ وَمَنْ فَقَدَ الْعِلْمَ فَقَلْبُهُ مَرِيضٌ وَمَوْتُهُ لَازِمٌ وَلَكِنَّهُ لَا يشعر به إذ حب الدنيا
_________
(١) حديث فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد بسبعين درجة أخرجه ابن عدي من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف ولأبي يعلى نحوه من حديث عبد البر بن عوف
(٢) حديث إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه الحديث أخرجه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف
(٣) حديث بين العالم والعابد مائة درجة الأصفهاني في الترغيب والترهيب من حديث ابن عمر عن أبيه وقال سبعون درجة بسند ضعيف وكذا رواه صاحب مسند الفردوس من حديث أبي هريرة
(٤) حديث قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل فقال العلم بالله الحديث أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس بسند ضعيف
(٥) حديث يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يبعث العلماء الحديث رواه الطبراني من حديث أبي موسى بسند ضعيف
1 / 7
وشغله بها أبطل إحساسه كما أن غلبة الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعًا فإذا حط الموت عنه أعباء الدنيا أحسن بهلاكه وتحسر تحسرًا عظيمًا ثم لا ينفعه وذلك كإحساس الآمن خوفه والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السكر أو الخوف فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ يَوْمِ كَشْفِ الْغِطَاءِ فَإِنَّ الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وقال الحسن ﵀ يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ﵁ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَرَفْعُهُ مَوْتُ رُوَاتِهِ فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم فإن أَحَدًا لَمْ يُولَدْ عَالِمًا وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ
وقال ابن عباس ﵄ تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها وكذلك عن أبي هريرة ﵁ وأحمد بن حنبل رحمة الله
وقال الحسن في قوله تعالى ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حسنة﴾ إن الحسنة في الدنيا هي العلم والعبادة وفي الآخرة هي الجنة
وقيل لبعض الحكماء أي الأشياء تقتنى قال الأشياء التي إذا غرقت سفينتك سبحت معك يعني العلم وقيل أراد بغرق السفينة هلاك بدنه بالموت
وقال بعضهم من اتخذ الحكمة لجامًا اتخذه الناس إمامًا ومن عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار
وقال الشافعي رحمة الله عليه من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن
وقال عمر ﵁ يا أيها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداء يحبه فمن طلب بابًا من العلم رداه الله ﷿ بردائه فإن أذنب ذنبًا استعتبه ثلاث مرات لئلا يسلبه رداءه ذلك وإن تطاول به ذلك الذنب حتى يموت
وقال الأحنف ﵀ كاد العلماء أن يكونوا أربابًا وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره
وقال سالم بن أبي الجعد اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني فقلت بأي شيء أحترف فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائرًا فلم آذن له
وقال الزبير بن أبي بكر كتب إلي أبي بالعراق عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالًا وإن استغنيت كان لك جمالًا وحكى ذلك في وصايا لقمان لابنه قال يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ كَمَا يحيي الأرض بوابل السماء
وقال بعض الحكماء إذا مات العالم بكاه الحوت في الماء والطير في الهواء ويفقد وجهه ولا ينسى ذكره
وقال الزهري ﵀ العلم ذكر ولا تحبه إلا ذكران الرجال
فَضِيلَةُ التَّعَلُّمِ
أَمَّا الْآيَاتُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدين﴾ وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كنتم لا تعلمون﴾ وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَوْلُهُ ﷺ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ (١) وَقَالَ ﷺ إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع (٢) وَقَالَ ﷺ لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ (٣) وَقَالَ ﷺ باب من العلم يتعلمه الرجل خير له مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (٤) وَقَالَ ﷺ اطلبوا العلم
_________
(١) حديث من سلك طريقًا يطلب فيه علما الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(٢) حديث إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه من حديث صفوان بن عسال
(٣) حديث لأن تغدو فتتعلم بابًا من الخير خير من أن تصلي مائة ركعة أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي ذر وليس إسناده بذاك والحديث عند ابن ماجه بلفظ آخر
(٤) حديث باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء وابن عبد البر موقوفا على الحسن البصري ولم أره مرفوعا إلا بلفظ خير له من مائة ركعة رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف من حديث أبي ذر
1 / 8
ولو بالصين (١) وَقَالَ ﷺ طَلَبُ الْعِلْمِ فريضة على كل مسلم وقال ﷺ العلم خزائن مفاتيحها السؤال ألا فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة السائل والعالم والمستمع والمحب لهم (٢) وقال ﷺ لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت على علمه (٣) وفي حديث أبي ذر ﵁ حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة وعيادة ألف مريض وشهود ألف جنازة فقيل يا رسول الله ومن قراءة القرآن فقال ﷺ وهل ينفع القرآن إلا بالعلم (٤) وقال ﵊ من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة (٥) وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا
وكذلك قال ابن أبي مليكة ﵀ ما رأيت مثل ابن عباس إذا رأيته رايت أحسن الناس وجهًا وإذا تكلم فأعرب الناس لسانًا وإذا أفتى فأكثر الناس علمًا
وقال ابن المبارك ﵀ عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة وقال بعض الحكماء إني لا أرحم رجالًا كرحمتي لأحد رجلين رجل يطلب العلم ولا يفهم ورجل يفهم العلم ولا يطلبه
وقال أبو الدرداء ﵁ لَأَنْ أَتَعَلَّمَ مَسْأَلَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِيَامِ ليلة
وقال أيضًا كن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا ولا تكن الرابع فتهلك
وقال عطاء مجلس علم يكفر سبعين مجلسًا من مجالس اللهو
وقال عمر ﵁ موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵁ طَلَبُ الْعِلْمِ أفضل من النافلة
وقال ابن عبد الحكم ﵀ كنت عند مالك أقرأ عليه العلم فدخل الظهر فجمعت الكتب لأصلي فقال يا هذا ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه إذا صحت النية
وقال أبو الدرداء ﵁ من رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله
فَضِيلَةُ التَّعْلِيمِ
أَمَّا الْآيَاتُ فَقَوْلُهُ ﷿ ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ وَالْمُرَادُ هُوَ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وَهُوَ إِيجَابٌ لِلتَّعْلِيمِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ وَهُوَ تَحْرِيمٌ لِلْكِتْمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الشهادة ﴿ومن يكتمها فإنه آثم قلبه﴾ وقال ﷺ ما آتى الله عالمًا علمًا إلا وأخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينوه للناس ولا يكتموه (٦) وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى الله وعمل صالحًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والموعظة الحسنة﴾ وقال تعالى ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَقَوْلُهُ ﷺ لما بعث معاذًا ﵁ إِلَى الْيَمَنِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا // حديث قال لمعاذ حين بعثه إِلَى الْيَمَنِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا واحدًا خير لك الحديث أخرجه أحمد من حديث معاذ وفي الصحيحين من حديث سهل ابن سعد أنه قال ذلك لعلي
_________
(١) حديث اطلبوا العلم ولو بالصين أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس وقال البيهقي متنه مشهور وأسانيده ضعيفة
(٢) حديث العلم خزائن مفاتيحها السؤال الحديث رواه أبو نعيم من حديث علي مرفوعا بإسناد ضعيف
(٣) حديث لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه في التفسير وابن السني وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث جابر بسند ضعيف
(٤) حديث أبي ذر حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من حديث عمر ولم أجده من طريق أبي ذر
(٥) حديث من جاءه الموت وهو يطلب العلم الحديث أخرجه الدارمي وابن السني في رياضة المتعلمين من حديث الحسن فقيل هو ابن علي وقيل هو ابن يسار البصري مرسلا
(٦) حديث ما آتى الله عالمًا علما إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينوه للناس ولا يكتموه أخرجه أبو نعيم في فضل العالم العفيف من حديث ابن مسعود بنحوه وفي الخلعيات نحوه من حديث أبي هريرة
1 / 9
وقال ﷺ من تعلم بابًا من العلم ليعلم الناس أعطي ثواب سبعين صديقًا (١) وقال عيسى ﷺ من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيمًا في ملكوت السموات
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا كان يوم القيامة يقول الله سبحانه للعابدين والمجاهدين ادخلوا الجنة فيقول العلماء بفضل علمنا تعبدوا وجاهدوا فيقول الله ﷿ أنتم عندي كبعض ملائكتي اشفعوا تشفعوا فيشفعون ثم يدخلون الجنة (٢) وهذا إنما يكون بالعلم المتعدى بالتعليم لا العلم اللازم الذي لا يتعدى
وَقَالَ ﷺ إِنَّ اللَّهَ ﷿ لا ينتزع العلم انتزاعًا من الناس بعد أن يؤتيهم إياه ولكن يذهب بذهاب العلماء فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى إذا لم يبق إلا رؤساء جهالًا إن سئلوا أفتوا بغير علم فيضلون ويضلون (٣) وَقَالَ ﷺ مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ (٤) وَقَالَ ﷺ نعم العطية ونعم الهدية كلمة حكمة تسمعها فتطوي عليها ثم تحملها إلى أخ لك مسلم تعلمه إياها تعدل عبادة سنة (٥) وقال ﷺ الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه أو معلمًا أو متعلمًا (٦) وَقَالَ ﷺ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جحرها حتى الْحُوتَ فِي الْبَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخير (٧) وقال ﷺ ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه (٨) وقال ﷺ كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعلمها ويعمل بها خير له من عبادة سنة (٩) وخرج رسول الله ﷺ ذات يوم فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله ﷿ ويرغبون إليه والثاني يعلمون الناس فقال أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأما هؤلاء فيعلمون الناس وإنما بعثت معلمًا ثم عدل إليهم وجلس معهم (١٠) وقال ﷺ مثل ما بعثني الله ﷿ به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله ﷿ بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ (١١) اه فالأول ذكره مثلًا للمنتفع بعلمه والثاني ذكره مثلًا للنافع والثالث للمحروم منهما
_________
(١) حديث من تعلم بابًا من العلم ليعلم الناس أعطي ثواب سبعين صديقا رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن مسعود بسند ضعيف
(٢) حديث إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى للعابدين والمجاهدين ادخلوا الجنة الحديث أخرجه أبو العباس الذهبي في العلم من حديث ابن عباس بسند ضعيف
(٣) حديث إن الله لا ينتزع العلم انتزاعًا من الناس الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو
(٤) حديث من علم علمًا فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة قال الترمذي حديث حسن
(٥) حديث نعم العطية ونعم الهدية كلمة حكمة تسمعها الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس نحوه بإسناد ضعيف
(٦) حديث الدنيا ملعونة ملعون ما فيها الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال الترمذي حسن غريب
(٧) حديث إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ فِي البحر ليصلون على معلم الناس الخير أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال غريب وفي نسخة حسن صحيح
(٨) حديث ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن الحديث أخرجه ابن عبد البر من رواية محمد بن المنكدر مرسلا نحوه ولأبي نعيم من حديث عبد الله بن عمرو ما أهدى مسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة تزيده هدى أو ترده عن ردى
(٩) حديث كلمة من الحكمة يسمعها المؤمن فيعمل بها ويعلمها الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق من رواية زيد بن أسلم مرسلا نحوه وفي مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بسند ضعيف كلمة حكمة يسمعها الرجل خير له من عبادة سنة
(١٠) حديث خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذات يوم على أصحابه فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بسند ضعيف
(١١) حديث مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى الحديث متفق عليه من حديث أبي موسى
1 / 10
وَقَالَ ﷺ إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ علم ينتفع به الحديث (١) وَقَالَ ﷺ الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ (٢) وَقَالَ ﷺ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ أَتَاهُ الله ﷿ حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ورجل أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الخير (٣) وقال ﷺ على خلفائي رحمة الله قِيلَ وَمَنْ خُلَفَاؤُكَ قَالَ الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي ويعلمونها عباد الله (٤) وأما الآثار فقد قال عمر ﵁ من حدث حديثًا فعمل به فله مثل أجر من عمل ذلك العمل
وقال ابن عباس ﵄ معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر
وقال بعض العلماء العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل
وروي أن سفيان الثوري ﵀ قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان فقال اكروا لي لأخرج من هذا البلد هذا بلد يموت فيه العلم
وإنما قال ذلك حرصًا على فضيلة التعليم واستبقاء العلم به وقال عطاء ﵁ دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي فقلت ما يبكيك قال ليس أحد يسألني عن شيء وقال بعضهم العلماء سرج الأزمنة كل واحد مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره
وَقَالَ الحسن ﵀ لَوْلَا الْعُلَمَاءُ لَصَارَ الناس مثل البهائم أي أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية
وقال عكرمة إن لهذا العلم ثمنًا قيل وما هو قال أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيعه
وقال يحيى بن معاذ العلماء أرحم بأمة محمد ﷺ من آبائهم وأمهاتهم قيل وكيف ذلك قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة
وقيل أول العلم الصمت ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم نشره
وقيل علم علمك من يجهل وتعلم ممن يعلم ما تجهل فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت
وقال معاذ بن جبل في التعليم والتعلم ورأيته أيضًا مرفوعًا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْدَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ والدليل على الدين والمصبر على السراء والضراء والوزير عند الأخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً سَادَةً هُدَاةً يُقْتَدَى بِهِمْ أَدِلَّةً فِي الخير تقتص آثارهم وترمق أفعالهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم وكل رطب ويابس لهم يستغفر حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها (٥) لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلم وقوة الأبدان من الضعف يبلغ به العبد مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يُعْدَلُ بِالصِّيَامِ وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ بِهِ يُطَاعُ اللَّهُ ﷿ وبه يعبد وبه يوحد وبه يمجد وَبِهِ يُتَوَرَّعُ وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ وَبِهِ يُعْرَفُ الحلال والحرام وَهُوَ إِمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ وَيُحْرَمُهُ الأشقياء نسأل الله تعالى حسن التوفيق
_________
(١) حديث إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثلاث الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
(٢) حديث الدال على الخير كفاعله أخرجه الترمذي من حديث أنس وقال غريب ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي مسعود البدري بلفظ من دل على خير فله مثل أجر فاعله
(٣) حديث لا حسد إلا في اثنتين الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود
(٤) حديث على خلفائي رحمة الله الحديث رواه ابن عبد البر في العلم والهروي في ذم الكلام من حديث الحسن فقيل هو ابن علي وقيل ابن يسار البصري فيكون مرسلا ولابن السني وأبي نعيم في رياضة المتعلمين من حديث علي نحوه
(٥) حديث معاذ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ وَطَلَبَهُ عبادة الحديث بطوله رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب وابن عبد البر وقال ليس له إسناد قوي
1 / 11
في الشواهد العقلية
اعلم أن المطلوب من هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته وما لم تفهم الفضيلة في نفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن تعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال فلقد ضل عن الطريق من طمع أن يعرف أن زيدًا حكيم أم لا وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها
والفضيلة مأخوذة من الفضل وهي الزيادة فإذا تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال فضله وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء كما يقال الفرس أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر وشدة العدو وحسن الصورة فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم يقل إنه أفضل لأن تلك زيادة في الجسم ونقصان في المعنى وليست من الكمال في شيء والحيوان مطلوب لمعناه وصفاته لا لجسمه فإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف كما أن للفرس فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات بل شدة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة فإنه وصف كمال الله سبحانه وبه شرف الملائكة والأنبياء بل الكيس من الخيل خير من البليد فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة
واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعًا فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره والمطلوب لغيره الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما ولولا أن الله ﷾ يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة
والذي يطلب لذاته فالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى
والذي يطلب لذاته ولغيره فكسلامة البدن فإن سلامة الرجل مثلًا مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم ومطلوبة للمشي بها والتوصل إلى المآرب والحاجات وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذًا في نفسه فيكون مطلوبًا لذاته ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضًا بشرف ثمرته وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى
هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتمييز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها هذه فضيلة العلم مطلقًا ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها
وأما فضيلة التعليم والتعلم فظاهرة مما ذكرناه فإن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلبًا للأفضل فكان تعليمه إفادة للأفضل وبيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله ﷿ لمن اتخذها آلة ومنزلًا لمن يتخذها مستقرًا ووطنًا وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين
وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام
أحدها أصول لا قوام للعالم دونها وهي أربعة الزراعة وهي للمطعم
والحياكة وهي للملبس
والبناء
1 / 12
وهو للمسكن
والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها
الثاني ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها كالحدادة فإنها تخدم الزراعة وجملة من الصناعات بإعداد آلاتها كالحلاجة والغزل فإنها تخدم الحياكة بإعداد عملها
الثالث ما هي متممة للأصول ومزينة كالطحن والخبز للزراعة وكالقصارة والخياطة للحياكة وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته فإنها ثلاثة أضرب أيضًا إما أصول كالقلب والكبد والدماغ وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب والأوردة وإما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبين وأشرف هذه الصناعات أصولها وأشرف أصولها السياسة بالتأليف والاستصلاح ولذلك تستدعي هذه الصناعة من الكمال فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات ولذلك يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة على أربع مراتب الأولى وهي العليا سياسة الأنبياء ﵈ وحكمهم على الخاصة والعامة جميعًا في ظاهرهم وباطنهم
والثانية الخلفاء والملوك والسلاطين وحكمهم على الخاصة والعامة جميعًا ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم
والثالثة العلماء بالله ﷿ وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء وحكمهم على باطن الخاصة فقط ولا يرتفع فهم العامة على الاستفادة منهم ولا تنتهي قوتهم إلى التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع والشرع
والرابعة الوعاظ وحكمهم على بواطن العوام فقط فأشرف هذه الصناعات الأربع بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس عن الأخلاق المذمومة المهلكة وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المسعدة وهو المراد بالتعليم وإنما قلنا إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات لأن شرف الصناعات يعرف بثلاثة أمور إما بالالتفات إلى الغريزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل العقول العقلية على اللغوية إذ تدرك الحكمة بالعقل واللغة بالسمع والعقل أشرف من السمع وإما بالنظر إلى عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة وإما بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل الصياغة على الدباغة إذ محل أحدهما الذهب ومحل الآخر جلد الميتة وليس يخفي أن العلوم الدينية وهي فقه طريق الآخرة إنما تدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء والعقل أشرف صفات الإنسان كما سيأتي بيانه إذ به تقبل أمانة الله وبه يتوصل إلى جوار الله سبحانه
وأما عموم النفع فلا يستراب فيه فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة
وأما شرف المحل فكيف يخفى والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم وأشرف موجود على الأرض جنس الإنس وأشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله ﷿ فتعليم العلم من وجه عبادة لله تعالى ومن وجه خلافة لله تعالى وهو من أجل خلافة الله فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته فهو كالخازن لأنفس خزائنه ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه فأي رتبة أجل من كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله زلفى وسياقتهم إلى جنة المأوى جعلنا الله منهم بكرمه وصلى الله على كل عبد مصطفى
الباب الثاني في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما
وفيه بيان ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية وبيان أن موقع الكلام والفقه من علم الدين إلى أي حد هو وتفضيل علم الآخرة
1 / 13
بَيَانُ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَلَبُ العلم فريضة على كل مسلم وقال أيضًا ﷺ اطلبوا العلم ولو بالصين واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم فتفرقوا فيه أكثر من عشرين فرقة ولا نطيل بنقل التفصيل ولكن حاصله أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده فقال المتكلمون هو علم الكلام إذ به يدرك التوحيد ويعلم به ذات الله سبحانه وصفاته وقال الفقهاء هو علم الفقه إذ به تعرف الْعِبَادَاتُ وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ وما يحل وعنوا به ما يحتاج إليه الآحاد دون الوقائع النادرة وقال المفسرون والمحدثون هو علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها
وقال المتصوفة المراد به هذا العلم فقال بعضهم هو علم العبد بحاله ومقامه من الله ﷿
وقال بعضهم هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان
وقال بعضهم هو علم الباطن وذلك يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذلك وصرفوا اللفظ عن عمومه
وقال أبو طالب المكي هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام وهو قوله ﷺ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (١) إلى آخر الحديث لأن الواجب هذه الخمس فيجب العلم بكيفية العمل فيها وبكيفية الوجوب
والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب فيه ما سنذكره وهو أن العلم كما قدمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاثة اعتقاد وفعل وترك فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلًا فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناهما وهو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة بل يكفيه أن يصدق به ويعتقده جزمًا من غير اختلاج ريب واضطراب نفس وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث ولا برهان إذ اكتفى رسول الله ﷺ من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل (٢)
فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت وكان العلم الذي هو فرض عين عليه في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما وليس يلزمه أمر وراء هذا في الوقت بدليل أنه لو مات عقيب ذلك مات مطيعًا لله ﷿ غير عاص له وإنما يجب غير ذلك بعوارض تعرض وليس ذلك ضروريًا في حق كل شخص بل يتصور الانفكاك وتلك العوارض إما أن تكون في الفعل وإما في الترك وإما في الاعتقاد
أما الفعل فبأن يعيش من ضحوة نهاره إلى وقت الظهر فيتجدد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة والصلاة فإن كان صحيحًا وكان بحيث لو صبر إلى وقت زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم فلا يبعد أن يقال الظاهر بقاؤه فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت
ويحتمل أن يقال وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب قبل الزوال وهكذا في بقية الصلوات فإن عاش إلى رمضان تجدد بسببه وجوب تعلم الصوم وهو أن وقته من الصبح إلى غروب الشمس وأن الواجب فيه النية والإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وأن ذلك يتمادى إلى رؤية الهلال أو شاهدين فإن تجدد له مال أو كان له مال عند بلوغه لزمه تعلم ما يجب عليه من الزكاة ولكن لا يلزمه في الحال إنما يلزمه عند
_________
(١) حديث بني الإسلام على خمس الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر
(٢) حديث اكتفى رسول الله ﷺ من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل مشهور في كتب السير والحديث فعند مسلم قصة ضمام بن ثعلبة
1 / 14
تمام الحول من وقت الإسلام فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه إلا تعلم زكاة الإبل وكذلك في سائر الأصناف فإذا دخل في أشهر الحج فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي فلا يكون تعلمه على الفور ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه على أن الحج فرض على التراخي على كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكًا حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته دون نوافله فإن فعل ذلك نفل فعلمه أيضًا نفل فلا يكون تعلمه فرض عين وفي تحريم السكوت عن التنبيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه وهكذا التدريج في علم سائر الأفعال التي هي فرض عين
وأما التروك فيجب تعلم علم ذلك بحسب ما يتجدد من الحال وذلك يختلف بحال الشخص إذ لا يجب على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام ولا على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر ولا على البدوي تعلم ما يحرم الجلوس فيه من المساكن فذلك أيضًا واجب بحسب ما يقتضيه الحال فما يعلم أنه ينفك عنه لا يجب تعلمه وما هو ملابس له يجب تنبيهه عليه كما لو كان عند الإسلام لابسًا للحرير أو جالسًا في الغصب أو ناظرًا إلى غير ذي محرم فيجب تعريفه بذلك وما ليس ملابسًا له ولكنه بصدد التعرض له على القرب كالأكل والشرب فيجب تعليمه حتى إذا كان في بلد يتعاطى فيه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير فيجب تعليمه ذلك وتنبيهه عليه وما وجب تعليمه وجب عليه تعلمه
وأما الاعتقادات وأعمال القلوب فيجب علمها بحسب الخواطر فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك
فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئي وأنه ليس محلًا للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات فقد مات على الإسلام إجماعًا ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يخطر بالطبع وبعضها يخطر بالسماع من أهل البلد فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق فإنه لو ألقى إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك كما أنه لو كان هذا المسلم تاجرًا وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب فمن علم العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين وما ذكره الصوفية من فهم خواطر العدو ولمة الملك حق أيضًا ولكن في حق من يتصدى له فإذا كان الغالب أن الإنسان لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد فيلزمه أن يتعلم من علم ربع المهلكات ما يرى نفسه محتاجًا إليه وكيف لا يجب عليه وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ المرء بنفسه (١) ولا ينفك عنها بشر وبقية ما سنذكره من مذمومات أحوال القلب كالكبر والعجب وأخواتها تتبع هذه الثلاث المهلكات وإزالتها فرض عين ولا يمكن إزالتها إلا بمعرفة حدودها ومعرفة أسبابها ومعرفة علاماتها ومعرفة علاجها فإن من لا يعرف الشر يقع فيه والعلاج هو مقابلة السبب بضده وكيف يمكن دون معرفة السبب والمسبب وأكثر ما ذكرناه في ربع المهلكات من فروض الأعيان وقد تركها الناس كافة اشتغالًا بما لا يعنى
ومما لا ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه إذا لم يكن قد انتقل عن ملة إلى ملة أخرى الإيمان بالجنة والنار والحشر والنشر حتى يؤمن به ويصدق وهو من تتمة كلمتي الشهادة فإنه بعد التصديق بكونه ﵇ رسولا
_________
(١) حديث ثلاث مهلكات شح مطاع الحديث أخرجه البزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي في الشعب من حديث أنس بإسناد ضعيف
1 / 15
ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة ومن عصاهما فله النار فإذا انتبهت لهذا التدريج علمت أن المذهب الحق هو هذا وتحققت أن كل عبد هو في مجاري أحواله في يومه وليلته لا يخلو من وقائع في عبادته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه السؤال عن كل ما يقع له من النوادر ويلزمه المبادرة إلى تعلم ما يتوقع وقوعه على القرب غالبًا فإذا تبين أنه ﵊ إنما أراد بالعلم المعرف بالألف واللام فِي قَوْلِهِ ﷺ طَلَبُ العلم فريضة على كل مسلم علم العمل الذي هو مشهور الوجوب على المسلمين لا غير فقد اتضح وجه التدريج ووقت وجوبه والله أعلم
بيان العلم الذي هو فرض كفاية
اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع مثل اللغة فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغني عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين
فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك
فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله
وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه
وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات
وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه
أما العلوم الشرعية وهي المقصودة بالبيان فهي محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة
أما المحمودة فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات وهي أربعة أضرب
الضرب الأول الأصول وهي أربعة كتاب الله ﷿ وسنة رسول الله ﷺ وإجماع الأمة وآثار الصحابة والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة فهو أصل في الدرجة الثالثة
وكذا الأثر فإنه أيضًا يدل على السنة لأن الصحابة ﵃ قد شاهدوا الوحي والتنزيل وأدركوا بقرائن الأحوال ما غاب عن غيرهم عيانه وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن
فمن هذا الوجه رأى العلماء الاقتداء بهم والتمسك بآثارهم وذلك بشرط مخصوص على وجه مخصوص عند من يراه ولا يليق بيانه بهذا الفن
الضرب الثاني الفروع وهو ما فهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره كما فهم من قوله ﵇ لا يقضي القاضي وهو غضبان (١) أنه لايقضي إذا كان خائفًا أو جائعًا أو متألمًا بمرض
_________
(١) حديث لا يقضي القاضي وهو غضبان متفق عليه من حديث أبي بكرة
1 / 16
وهذا على ضربين أحدهما يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا
والثاني ما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة وما هو مرضي عند الله تعالى وما هو مكروه وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب أعني جملة كتاب إحياء علوم الدين ومنه العلم بما يترشح من القلب على الجوارح في عباداتها وعاداتها وهو الذي يحويه الشطر الأول من هذا الكتاب
والضرب الثالث المقدمات وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضروريًا إذ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (١) أميًا
ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع لاستغنى عن الكتابة ولكنه صار بحكم العجز في الغالب ضروريًا
الضرب الرابع المتممات وذلك في علم القرآن فإنه ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضًا على النقل إذ اللغة بمجردها لا تستقل به وإلى ما يتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر
وكيفية استعمال البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه ويتناول السنة أيضًا
وأما المتممات في الآثار والأخبار فالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم وأسماء الصحابة وصفاتهم والعلم بالعدالة في الرواة والعلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي والعلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند وكذلك ما يتعلق به فهذه هي العلوم الشرعية وكلها محمودة بل كلها من فروض الكفايات فإن قلت لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا فاعلم إن الله ﷿ أخرج آدم ﵇ من التراب وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى العرض ثم إلى الجنة أو إلى النار فهذا مبدؤهم وهذا غايتهم وهذه منازلهم
وخلق الدنيا زادًا للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا ولعمري إنه متعلق أيضًا بالدين لكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا
والملك والدين توأمان فالدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه
وكما أن سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به فكذلك معرفة طريق السياسة فمعلوم أن الحج لا يتم إلا ببذرقة تحرس من العرب في الطريق ولكن الحج شيء وسلوك الطريق إلى الحج شيء ثان والقيام بالحراسة التي لا يتم الحج إلا بها شيء ثالث ومعرفة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة ويدل على ذلك ما روي مسندًا لا يفتي الناس إلا ثلاثة أمير أو مأمور
_________
(١) حديث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أميًا أي لا يحسن الكتابة أخرجه ابن مردويه في التفسير من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أنا محمد النبي الأمي وفيه ابن لهيعة ولابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه من حديث ابن مسعود قولوا اللهم صل على محمد النبي الأمي وللبخاري من حديث البراء وأخذ الكتاب وليس محسن يكتب
1 / 17
أو متكلف (١) فالأمير هو الإمام وقد كانوا هم المفتون والمأمور نائبه والمتكلف غيرهما وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة
وقد كان الصحابة ﵃ يحترزون عن الفتوى حتى كان يحيل كل منهم على صاحبه وكانوا لا يحترزون إذا سئلوا عن علم القرآن وطريق الآخرة
وفي بعض الروايات بدل المتكلف المرائي فإن من تقلد خطر الفتوى وهو غير متعين للحاجة فلا يقصد به إلا طلب الجاه والمال
فإن قلت هذا إن استقام لك في أحكام الجراحات والحدود والغرامات وفصل الخصومات فلا يستقيم فيما يشتمل عليه ربع العبادات من الصيام والصلاة ولا فيما يشتمل عليه ربع العادات من المعاملات من بيان الحلال والحرام فاعلم أن أقرب ما يتكلم الفقيه فيه من الأعمال التي هي أعمال الآخرة ثلاثة الإسلام والصلاة والزكاة والحلال والحرام فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيها علمت أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر
أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه وفيما يفسد وفي شروطه وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان
وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه لعزل رسول الله ﷺ أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال هلا شققت عن قلبه (٢) للذي قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذرًا بأنه قال ذلك من خوف السيف بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع أنه يعلم أن السيف لم يكشف له عن نيته ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة ولكنه مثير على صاحب السيف فإن السيف ممتد إلى رقبته واليد ممتدة إلى ماله وهذه الكلمة باللسان تعصم رقبته وماله ما دام له رقبة ومال وذلك في الدنيا ولذلك قال ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم (٣) جعل أثر ذلك في الدم والمال
وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها وليس ذلك من الفقه وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب وكان خارجًا عن فنه
وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلًا في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولًا بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير وهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة كما أن القول باللسان في الإسلام لا ينفع ولكن الفقيه يفتي بالصحة أي أن ما فعله حصل به امتثال صيغة الأمر وانقطع به عنه القتل والتعزير فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه ولو تعرض له لكان خارجًا عن فنه وأما الزكاة فالفقيه ينظر إلى ما يقطع به مطالبة السلطان حتى إنه إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهرًا حكم بأنه برئت ذمته
وحكى أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطًا للزكاة فحكى ذلك لأبي حنيفة ﵀ فقال ذلك من فقهه
وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية ومثل هذا هو العلم الضار
وأما الحلال والحرام فالورع عن الحرام من الدين ولكن الورع له أربع مراتب
الأولى الورع الذي يشترط في عدالة الشهادة وهو الذي يخرج بتركه الإنسان عن أهلية الشهادة والقضاء والولاية وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر
الثانية ورع الصالحين وهو التوقي من الشبهات التي يتقابل فيها الاحتمالات
قال ﷺ دع ما يريبك إلى مالا يريبك (٤) وقال ﷺ الإثم حزاز القلوب (٥)
الثالثة ورع
_________
(١) حدث لا يفتي الناس إلا ثلاثة الحديث أخرجه ابن ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ لا يقض على الناس وإسناده حسن
(٢) حديث هلا شققت عن قلبه أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد
(٣) حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وعمر وابن عمر
(٤) حديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث الحسن بن علي
(٥) حديث الإثم حزاز القلوب أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن مسعود ورواه العدني في مسنده موقوفا عليه
1 / 18
المتقين وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف منه أداؤه إلى الحرام
قال ﷺ لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة مما به بأس (١) وذلك مثل التورع عن التحدث بأحوال الناس خيفة من الانجرار إلى الغيبة والتورع عن أكل الشهوات خيفة من هيجان النشاط والبطر المؤدي إلى مقارفة المحظورات
الرابعة ورع الصديقين وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفًا من صرف ساعة من العمر إلى ما لا يفيد زيادة قرب عند الله ﷿ وإن كان يعلم ويتحقق أنه لا يفضي إلى حرام فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الدرجة الأولى وهو ورع الشهود والقضاء وما يقدح في العدالة والقيام بذلك لا ينفي الإثم في الآخرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لوابصة استفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك (٢) والفقيه لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها بل فيما يقدح في العدالة فقط فإن جميع نظر الفقيه مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة فإن تكلم في شيء من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب والنجوم وعلم الكلام وكما تدخل الحكمة في النحو والشعر
وكان سفيان الثوري وهو إمام في علم الظاهر يقول إن طلب هذا ليس من زاد الآخرة كيف وقد اتفقوا على أن الشرف في العلم العمل به فكيف يظن أنه علم الظهار واللعان والسلم والإجارة والصرف ومن تعلم هذه الأمور ليتقرب بها إلى الله تعالى فهو مجنون وإنما العمل بالقلب والجوارح في الطاعات والشرف هو تلك الأعمال فإن قلت لم سويت بين الفقه والطب إذ الطب أيضًا يتعلق بالدنيا وهو صحة الجسد وذلك يتعلق به أيضًا صلاح الدين وهذه التسوية تخالف إجماع المسلمين فاعلم أن التسوية غير لازمة بل بينهما فرق وأن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه
أحدها أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع
والثاني أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة ألبتة لا الصحيح ولا المريض
وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون
والثالث أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح ومصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة والمذموم يصدر من المذموم وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب
وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاء في المزاج والأخلاط وذلك من أوصاف البدن لا من أوصاف القلب فمهما أضيف الفقه إلى الطب ظهر شرفه وإذا أضيف علم طريق الآخرة إلى الفقه ظهر أيضًا شرف علم طريق الآخرة
فإن قلت فصل لي علم طريق الآخرة تفصيلًا يشير إلى تراجمه وإن لم يمكن استقصاء تفاصيله
فاعلم أنه قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة فالقسم الأول علم المكاشفة وهو علم الباطن وذلك غاية العلوم فقد قال بعض العارفين من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله
وقال آخر من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء من هذا العلم بدعة أو كبر وقيل من كان محبًا للدنيا أو مصرًا على هوى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئًا وينشد على قوله
وارض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه
وهو علم الصديقين والمقربين أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته
_________
(١) حديث لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به الحديث أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث عطية السعدي
(٢) حديث استفت قلبك وإن أفتوك أخرجه أحمد من حديث وابصة
1 / 19
المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمة في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشياطين للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء وكيفية وصول الوحي إليهم والمعرفة بملكوت السموات والأرض ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب ومعنى قوله تعالى ﴿اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا﴾ ومعنى قوله تعالى ﴿وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ ومعنى لقاء الله ﷿ والنظر إلى وجهه الكريم ومعنى القرب منه والنزول في جواره ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدري في جوف السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذي أعده الله لعباده الصالحين مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعْتُ ولا خطر على قلب بشر وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء
وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله ﷿ الاعتراف بالعجز عن معرفته وبعضهم يدعي أمورًا عظيمة في المعرفة بالله ﷿ وبعضهم يقول حد معرفة الله ﷿ ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحًا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرأة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن الله ﷾ وعن معرفة صفاته وأفعاله وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها في موضعها وبالعلم والتعليم وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله وهو المشارك فيه على سبيل المذاكرة وبطريق الأسرار وهذا هو العلم الخفي الذي أراده ﷺ بقوله إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى فلا تحقروا عالمًا آتاه الله تعالى علمًا منه فإن الله ﷿ لم يحقره إذ آتاه إياه (١) وأما القسم الثاني وهو علم المعاملة فهو علم أحوال القلب أما ما يحمد منها فكالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي با تكتسب وثمرتها وعلامتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى وما زال حتى يعود من علم الآخرة
_________
(١) حديث إن من العلم كهيئة المكنون الحديث رواه أبو عبد الرحمن السلمي في الأربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف
1 / 20