عبد القاهر بما يكرره في دلائل الإعجاز من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ، كقوله في أثناء فصل منه:
علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفسها.
وإنما قلنا مراده ذلك؛ لأنه صرح في مواضع من دلائل الإعجاز بأن فضيلة الكلام للفظه لا لمعناه، منها أنه حكى قول من ذهب إلى عكس ذلك فقال: "فأنت تراه لا يقدم شعرًا حتى يكون قد أودع حكمة أو أدبًا أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر". ثم قال: "والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصلون؛ لأنا لا نرى متقدمًا في علم البلاغة مبرزًا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي"، ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلامًا منه قوله: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي١ وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك".. ثم قال: "ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أنه محال إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل، كذلك محال إذا أردت أن تعرف كان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه، وكما لو فضلنا خاتمًا بأن تكون فضة هذا أجود أو فضه أنفس لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فصلنا بيتًا على بيت من أجل معناه أن لا يكون ذلك تفضيلًا له من حيث هو شعر وكلام".
_________
١- ٣٤٠ جـ٣ الحيوان.. وذلك في الصناعتين ص٥٥.
1 / 45