رسائل جامعية (٨٩)
إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل
تأليف
العلامة عبد الرحيم بن عبد الله بن محمد الزريراني الحنبلي ﵀
(المتوفى سنة ٧٤١ هـ)
تحقيق ودراسة
عمر بن محمد السبيل ﵀
(المتوفى سنة ١٤٢٣ هـ)
إمام وخطيب المسجد الحرام
وعضو هيئة التدريس بكلية الشريعة في جامعة أم القرى
Bog aan la aqoon
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيْمِ
هَذَا الْكتاب رِسَالَة علمية تقدم بهَا الْمُحَقق إِلَى قسم الدراسات الْعليا الشَّرْعِيَّة بجامعة أم الْقرى، وَقد نَالَ بهَا دَرَجَة الدكتوراه بِتَقْدِير ممتاز مَعَ التوصية بالطبع، وَقَامَت الجامعة بطبعه عَام ١٤١٤ هـ فِي مجلدين.
1 / 2
إيْضَاحُ الدَّلَائِلِ في الفَرقِ بَيْنَ المَسَائِلِ
1 / 3
(ح) عمر مُحَمَّد السَّبِيل، ١٤٣٠ هـ
فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر
الْبَغْدَادِيّ، عبد الرَّحِيم بن عبد الله
إِيضَاح الدَّلَائِل فِي الْفرق بَين الْمسَائِل / عبد الرَّحِيم بن عبد الله الْبَغْدَادِيّ؛ عمر مُحَمَّد السَّبِيل - الدمام، ١٤٣٠ هـ
٧٦٠ ص، ١٧ × ٢٤ سم
ردمك: ٣ - ٢٤٥١ - ٠٠ - ٦٠٣ - ٩٧٨
١ - الْفِقْه الْحَنْبَلِيّ
أ - السَّبِيل، عمر مُحَمَّد (مُحَقّق)
ب - العنوان
ديوي ٢٥٨.٤ ... ٢٧٠٥/ ١٤٣٠
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة
الطَّبْعَة الأولى
١٤٣١ هـ
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © ١٤٣١ هـ، لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر.
دَار ابْن الْجَوْزِيّ لِلنّشرْ والتَوزيْع
المملكة الْعَرَبيَّة السعودية: الدمام - طَرِيق الْملك فَهد - ت: ٨٤٢٨١٤٦ - ٨٤٦٧٥٩٣، ص. ب: ٢٩٨٢ - الرَّمْز البريدى: ٣١٤٦١ - فاكس: ٨٤١٢١٠٠
الرياض - تلفاكس: ٢١٠٧٢٢٨ - جوال: ٠٥٠٣٨٥٧٩٨٨
الإحساء - ت: ٥٨٨٣١٢٢
جدة - ت: ٦٣٤١٩٧٣ - ٦٨١٣٧٠٦
بيروت - هَاتِف: ٨٦٩٦٠٠/ ٠٣ - فاكس: ٦٤١٨٠١/ ٠١
الْقَاهِرَة - ج. م. ع - مَحْمُول: ٠١٠٠٦٨٢٣٧٨٣ - تلفاكس: ٠٢٤٤٣٤٤٩٧٠
الْبَرِيد الإلكتروني: [email protected] - www.aljawzi.com
1 / 4
المقدمة
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أحمده سبحانه حمدًا كثيرًا، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، الذي أنزل عليه الكتاب المبين، الفارق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. وبعد:
فإن الفقه من أشرف العلوم قدرًا، وأسماها فخرًا، وأعظمها أجرًا، وأعمها فائدة؛ لأن به يعرف الحلال من الحرام، ويميز بين الجائز والممنوع من الأحكام، ويطلع على أسرار الشريعة ومقاصدها.
وقد احتوى هذا العلم على فروع متعددة، وأنواع متنوعة، وإن من أعظمها نفعًا، وأجلها قدرًا، وأدقها استنباطًا: علم الفروق.
إذ به يطلع على حقائق الفقه ومداركه، وأسراره ومآخذه، وحكمه ومقاصده، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويدرك ما بين فروعه ومسائله من وجوه الاتفاق والاختلاف، فيلحق كل فرع بأصله، ويعطى النظير حكم نظيره، فيجمع بين مؤتلفها، ويفرق بين مختلفها.
لذا، فقد أشاد عدد من العلماء ﵏ بأهمية هذا الفن، وبينوا عظيم فائدته، وأوضحوا حاجة الفقيه الماسة إلى معرفته وإدراكه.
فقال العلامة الطوفي الحنبلي: (إن الفرق من عمد الفقه وغيره من العلوم، وقواعدها الكلية، حتى قال قوم: إنما الفقه معرفة الفرق والجمع).
1 / 5
وقال العلامة الإسنوي الشافعي: (إن المطارحة بالمسائل ذوات المآخذ المؤتلفة المتفقة، والأجوبة المختلفة المفترقة، مما يثير أفكار الحاضرين في المسالك، ويبعثها على اقتناص أبكار المدارك، ويميز مواقع أقدار الفضلاء، ومواضع مجال العلماء) (١).
فلما لهذا الفن من أهمية جليلة، وفوائد عظيمة في مجال الدراسات الفقهية الشرعية، حرصت على أن أسهم بعمل علمي في هذا الفن من خلال هذه الأطروحة، فأطلعت في هذا الفن على مصنفات مخطوطة قيمة مفيدة، في المذاهب الأربعة، جديرة بأن تنال اهتمام الباحثين بالنشر والتحقيق، وكان من أميزها في نظري، وعليه وقع اختياري كتاب (إيضاح الدلائل في الفرق بين
المسائل) فرأيت أنه جدير بالعناية والتحقيق، وإبرازه للباحثين والدارسين، وكان من أهم ما دفعني إلى اختياره ما يأتي:
١ - مادة الكتاب العلمية، وأهميتها في مجال الدراسات الفقهية الشرعية.
٢ - حسن عرض المصنف لمادة كتابه، وإيضاحه لها بأسلوب علمي رصين، مع غوص على معان دقيقة جليلة، واعتناء بالأدلة النقلية، واهتمام بها، وأمانة علمية متميزة، تضفي على الكتاب مزيدًا من العناية به، والإجلال لمؤلفه.
٣ - اشتمال الكتاب على أبواب الفقه كلها تقريبًا.
٤ - أنه من أوسع كتب الفروق الفقهية، إذ بلغت فروقه (٨٢٥) فرقٍ.
٥ - قلة المؤلفات في هذا الفن، وقلة المطبوع منها على وجه الخصوص، حيث لا أعرف منها سوى ثلاثة: فروق القرافي المالكي، وفروق
_________
(١) انظر توثقة هذين النقلين مع غيرها من أقوال العلماء في الإشادة بهذا الفن في مبحث: أهمية علم الفروق الفقهية.
1 / 6
الكرابيسي الحنفي، وعدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق للونشريسي المالكي.
٦ - عدم وجود كتاب مطبوع في هذا الفن في مذهب الحنابلة، بل ولا مخطوط مكتمل، سوى هذا الكتاب على حد علمي.
هذا، ولما بدأت في تحقيق الكتاب واجهتني بعض الصعوبات التي كادت أن تثنيني عن المضي في إتمامه، ومواصلة العمل على تحقيقه، إلا أن الله تعالى أعانني على ذلك ويسر، ومنحني العزم على الاستمرار فيه، حتى تم تحقيق الكتاب بفضل الله وتوفيقه، وكان من أبرز تلك الصعوبات ما يأتي:
١ - عدم تمكني من الحصول إلا على نسخة واحدة، والعمل على نسخة واحدة فيه من المشقة والعناء ما لا يخفى على من مارس التحقيق واشتغل به، وبخاصة إذا لم تخل النسخة من تصحيف، وتحريف، وسقط، كما هو الحال في هذه النسخة - وقل أن تخلو نسخة مخطوطة من ذلك - مما جعلني أعاني في بعض الكلمات والمواضع التي حصل فيها شيء من ذلك معاناة شديدة في سبيل الوصول إلى معرفة صحة الكلمة، أو إتمام السقط الحاصل، وقد يستوقفني البحث عن ذلك في مصنفات الفقه الحنبلي، وغيرها من كتب فروق المذاهب الأخرى ساعات كثيرة، أو ربما أيامًا، حتى أصل إلى قرار تطمئن النفس إلى أنه هو المراد من كلام المصنف فأثبته.
ثم إنه بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات من العمل في تحقيق الكتاب استطعت - بفضل الله وتوفيقه - أن أحصل على نسخ من فروق السامري (أصل الكتاب المحقق) فزال بذلك كثير من مواضع الإشكال، واطمئننت إلى صحة ما أثبته، مما حصل عندي فيه تردد في تلك المواضع المشكلة.
٢ - أن من منهجي في تحقيق الكتاب توثيق مسائله وفروقه قدر الإمكان، وقد لاقيت في سبيل ذلك عناء ومشقة، وأخذ مني وقتًا طويلًا، وذلك لأن المصنف ﵀ يورد مسائل دقيقة خفية لم أجدها عند غيره، إلا في أصل الكتاب (فروق السامري)، وليس من الممكن معرفة عدم وجودها في غيره إلا
1 / 7
بعد بحثها في كل ما توفر من كتب المذهب، كما أن بعض ما يورده من مسائل، مظنة لأن تذكر في عدة أبواب، وهذا يتطلب البحث عنها في عدد من الأبواب التي هي مظنة لذكرها فيها، ويكون ذلك بالبحث عنها في كل ما توفر من كتب المذهب المطبوعة - وهي كثيرة بحمد الله - ومن كتب مخطوطة أحيانًا، ثم بعد البحث الطويل قد أجد المسألة في عدد من المصادر، أو في مصدر واحد فأوثقها منه، أو ربما علقت عليها تعليقًا يسيرًا عند الحاجة إلى ذلك، وتارة أخرى وبعد البحث الطويل والجهد المضني لا أجد المسألة في أي كتاب من كتب المذهب، سوى أصل الكتاب (فروق السامري)، فالغالب أن مسائل الكتاب مذكورة فيه، فأوثقها منه، ولكن بعد أن لا أجدها في غيره، والقارئ ربما لا يدرك مدى ما بذل في سبيل ذلك من جهد وعناء، ووقت طويل، فيجد المسألة أمامه موثقة من كتاب أو كتب مشهورة، فيظن أن الاهتداء إليها أمر ميسور.
هذا، وقد اقتضى وضع الرسالة تقسيمها إلى قسمين، يسبقهما مقدمة:
* القسم الأول: الدراسة، ويشتمل على أربعة فصول.
* الفصل الأول: علم الفروق الفقهية.
* الفصل الثاني: عصر المؤلف.
* الفصل الثالث: حياة المصنف، وترجمة صاحب الأصل.
* الفصل الرابع: التعريف بكتاب إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل.
* القسم الثاني: التحقيق.
وقد أوضحت في مقدمة هذا القسم منهجي في تحقيق الكتاب، والخطوات التي سلكتها في ذلك.
فهذا عملي في الكتاب - بين يديك أيها القارئ الكريم - فما كان فيه من صواب فهو من فضل الله وتوفيقه، وما كان فيه من خطأ فهو مني، وجزى الله خيرًا من أبدى لي خطأً، أو أوضح لي عيبًا، وحسبي أني لم أدخر وسعًا في سبيل إظهار هذا العمل على أفضل صورة في مقدوري.
1 / 8
هذا واعترافًا بالفضل لأهله أسجل هنا جزيل شكري، ووافر تقديري لكل من أفادني في عملي في هذه الرسالة.
وأحق هؤلاء بالشكر والاعتراف له بالفضل بعد الله ﷾ والدي الجليل الذي حرص على تربيتي وتوجيهي إلى تحصيل العلم الشرعي، وأفادني من علمه وتوجيهه الشيء الكثير، وفي هذه الرسالة على وجه الخصوص، فجزاه الله عني أحسن الجزاء، ومتعه بالصحة والعافية، وبارك في علمه وعمله.
ولشيخي الجليل الأستاذ الدكتور أحمد علي طه ريان شكري الجزيل، حيث أشرف على هذا الرسالة، ومنحني من وقته وتوجيهه شيئًا كثيرًا، فجزاه الله عني خير الجزاء.
كما أشكر كل من أفادني في هذه الرسالة من أساتذة وزملاء، وأخص بالذكر الدكتور سعود الثبيتي على تعاونه الكريم أثناء تحقيق الكتاب، ثم على تفضله بقراءة الكتاب قبيل طبعه، وإفادتي بملحوظات قيمة، كانت محل شكري وتقديري، وأخص أيضًا الأستاذ الدكتور حسين الجبوري، وشقيقي الدكتور عبد العزيز على ما لقيت منهم من إفادة وتعاون، ولجامعة أم القرى المباركة
ثنائي الكثير، وشكري الجزيل على ما تبذله من جهود مشكورة في سبيل العلم وطلابه، وأخص بالشكر المسؤولين في كلية الشريعة وقسم الدراسات العليا، ومركز إحياء التراث الإسلامي على ما يسروا من خدمات جليلة للعلم وطلابه.
وختامًا أسأل الله ﷿ أن يتقبل عملي هذا، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 9
القسم الأول
الدراسة
ويشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول: علم الفروق الفقهية.
الفصل الثاني: عصر المؤلف.
الفصل الثالث: حياة المؤلف، وترجمة صاحب الأصل.
الفصل الرابع: التعريف بكتاب إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل.
1 / 11
الفصل الأول علم الفروق الفقهية
ويشتمل على المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف الفروق.
المبحث الثاني: أهمية الفروق الفقهية.
المبحث الثالث: مبنى الفرق بين المسائل المتشابهة، وطريق إدراكه.
المبحث الرابع: نشأة الفروق الفقهية.
المبحث الخامس: المصنفات في الفروق الفقهية، ومناهجها.
1 / 13
المبحث الأول (*) تعريف الفروق
تعريف الفروق لغة:
الفروق جمع فرق، وهو خلاف الجمع، يقال: فرق - بالتخفيف وبالتشديد - الشيء يفرقه فرقًا، إذا فصل أجزاءه.
وفرقت بين الحق والباطل: إذا فصلت (١).
وذهب بعض أهل اللغة إلى التفريق بين فَرَق - بالتخفيف - وفرَّق - بالتشديد - قال في المصباح المنير: (قال ابن الأعرابي: فَرَقت بين الكلامين فافترقا مخفف، وفرَّقت بين العبدين مثقل، فجعل المخفف في المعاني، والمثقل في الأعيان، والذي حكاه غيره: أنهما بمعنى، والتثقيل مبالغة) (٢).
ونقل القرافي وجه التفريق بينهما عن بعض مشايخه قائلًا (إن كثرة الحروف عند العرب تقتضي كثرة المعنى، أو زيادته، أو قوته، والمعاني لطيفة
_________
(*) تنبيه: بعد مناقشة هذه الرسالة (الكتاب المحقق) بعامٍ تقريبًا، نوقشت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة رسالة دكتوراه بعنوان: "الفروق الفقهية بين المسائل الفرعية في الطهارة والصلاة" تقدم بها المحاضر في الجامعة الأستاذ/ حمود عوض السهلي، وقد فوجئت بعد الاطلاع عليها بأنه استفاد كثيرًا فيما يتعلق بعلم الفروق الفقهية من القسم الدراسي من هذه الرسالة، ونقل عنها مواضع كثيرة وعلى الخصوص: المبحث الخامس، وهو في المصنفات في علم الفروق الفقهية، ومناهجها، فقد نقله بحرفه تقريبًا، نصَّه وهامشه، ومع ذلك لم يشر أي إشارة إلى استفادته ونقله عن هذه الرسالة، كما هو مقتضى الأمانة العلمية. المحقق.
(١) انظر: لسان العرب، ١٠/ ٢٩٩، المصباح المنير، ٢/ ٤٧٠.
(٢) ٢/ ٤٧٠.
1 / 15
والأجسام كثيفة، فناسبها التشديد، وناسب المعاني التخفيف). ثم عقب على ذلك بقوله: (إنه قد وقع في كتاب الله تعالى خلاف ذلك. قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ (١) فخفف في البحر وهو جسم، وقال تعالى: ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (٢) وجاء على القاعدة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ (٣) وقوله تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ (٤) ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ (٥) ولا نكاد نسمع من الفقهاء إلا قولهم: ما الفارق بين المسألتين، ولا يقولون ما المفرق بينهما - بالتشديد) (٦).
تعريف الفروق الفقهية اصطلاحًا:
عرف السيوطي علم الفروق الفقهية بأنه:
(الفن الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويرًا ومعنى، المختلفة حكمًا وعلة) (٧).
وعرفه صاحب الفوائد الجنية بأنه:
(معرفة الأمور الفارقة بين مسألتين متشابهتين بحيث لا يسوى بينهما في الحكم) (٨).
ويؤخذ على هذين التعريفين: أنهما تعريفان عامان، غير مانعين من دخول غير المعرف في التعرف، إذ يدخل ضمن هذا التعرف بيان الفروق بين المسائل المتشابهة في أي علم من العلوم، إذ ليس في التعريف ما يفيد تخصيص التفريق بين المسائل الفقهية.
_________
(١) سورة البقرة، الآية (٥٠).
(٢) سورة المائدة، الآية (٢٥).
(٣) سورة النساء، الآية (١٣٠).
(٤) سورة البقرة، الآية (١٠٢).
(٥) سورة الفرقان، الآية (١).
(٦) الفروق، ١/ ٤.
(٧) الأشباه والنظائر، ص، ٧.
(٨) ١/ ٨٧.
1 / 16
التعريف المختار:
وقد حاولت تعريف علم الفروق الفقهية بتعريف جامع لأفراد المعرف، مانع من دخول غيره فيه، فعرفته بقولي:
(العلم ببيان الفرق بين مسألتين فقهيتين، متشابهتين صورة، مختلفتين حكمًا).
ويظهر أن التعريف من الوضوح بمكان، لا يحتاج معه إلى شرح، أو بيان.
1 / 17
المبحث الثاني أهمية علم الفروق الفقهية
لعلم الفروق الفقهية أهمية كبيرة في مجال الدراسات الشرعية؛ لما فيه من الفوائد الجمة، والمنافع المتعددة.
إذ به يطَّلع الفقيه على حقائق الفقه ومداركه، وأسراره ومآخذه، ويتمهر في فهمه واستحضاره (١)، ويكون له بذلك ملكة فقهية تصقل فكره، وتشحذ ذهنه، وتساعده على التمييز بين المسائل المتشابهة، وإدراك ما بينها من وجوه الاتفاق والافتراق، فيكون بيانه لحكم المسألة على أسس واضحة، وبراهين ظاهرة، أقرب إلى إصابة الحق فيها، وأبعد عن الخطأ والزلل.
وقد بيَّن عدد من العلماء أهمية هذا الفن، وعظيم فائدته، ومدى حاجة الفقيه الماسة إلى معرفته وإدراكه، ويحسن الإشارة هنا إلى أقوال بعضهم في معرض الإشادة بهذا الفن وبيان أهميته.
فقد قال السامري في مقدمة فروقه في معرض ذكره للدوافع التي دفعته لتأليف كتابه: (ليتضح للفقيه طرق الأحكام، ويكون قياسه للفروع على الأصول متسق النظام، ولا يلتبس عليه طرق القياس، فيبني حكمه على غير أساس) (٢).
وقال الطوفي: (إن الفرق من عمد الفقه وغيره من العلوم، وقواعدها الكلية. حتى قال قوم: إنما الفقه معرفة الجمع والفرق) (٣).
_________
(١) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص، ٦.
(٢) الفروق، ق، ٢/ أ.
(٣) عَلَمُ الجذل في عِلْمِ الجدل، ص، ٧١.
1 / 18
وقال الإسنوي: (إن المطارحة بالمسائل ذوات المآخذ المؤتلفة المتفقة، والأجوبة المختلفة المفترقة، مما يثير أفكار الحاضرين في المسالك، ويبعثها على اقتناص أبكار المدارك، ويميز مواقع أقدار الفضلاء، ومواضع مجال العلماء) (١).
وقال الزركشي في معرض بيانه لأنواع علم الفقه:
(والثاني: معرفة الجمع والفرق، وعليه جل مناظرات السلف حتى قال بعضهم: الفقه فرق وجمع) (٢).
_________
(١) مطالع الدقائق في تحرير الجوامع والفوارق، ص، ١.
(٢) المنثور في القواعد، ١/ ٦٩.
1 / 19
المبحث الثالث مبنى الفرق بين المسائل المتشابهة، وطريق إدراكه
التفريق في الحكم بين مسألتين متشابهتين إما أن يكون مبنيًا على نص ظاهر في التفريق بينهما (١)، كالتفريق بين بول الغلام، وبول الجارية، حيث ورد في الحديث الاكتفاء بنضح الأول، ووجوب غسل الثاني.
وإما أن يكون التفريق بينهم - وهو الغالب - مبنيًا على معنى مستنبط (٢) يستند فيه أحيانًا إلى قاعدة أصولية (٣)، أو إلى قاعدة فقهية (٤).
وأما طريق إدراك الفرق بين المسألتين، فقد أوضح ذلك العلامة الطوفي الحنبلي، ولنفاسة كلامه رأيت نقله بحرفه، فقد قال ﵀ بعد بيانه أهمية علم الفروق: (إن الأوصاف تنقسم في ذواتها إلى مناسب للحكم، وإلى طردي وهو ما ليس بمناسب، وفي أوضاعها من صور الأحكام إلى جامع وفارق، أي: أن الصورتين مثلًا تشترك في أوصاف تجمعهما، وتتميز بأوصاف يفارق
فيها بعضها بعضًا، إذا عرف هذا، فطريق النظر في الفرق: أن ينظر في الوصف الجامع والفارق، فيعتبر المناسب منهما، ويلغي الطردي بطريق تنقيح المناط أيهما كان، وقد يكونان مناسبين فيغلب أنسبهما، وقد يتجاذبان المناسبة، فيتجه الخلاف، فيقال مثلًا: الجامع بين الأب والأجنبي أنهما قاتلان، فما الفرق بينهما حتى قتل الأجنبي دون الأب؟ فيقال: وصف الأبوة،
_________
(١) انظر: فروق الجويني، ق، ٢/ ب، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، ص، ٤٥٨.
(٢) انظر: فروق الجويني، ق، ٢/ ب.
(٣) انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، ص، ٤٥٨، وانظر مثالًا على هذا في الفصل رقم (٧٠٤).
(٤) انظر: الفروق للقرافي، ١/ ٣. وانظر مثالًا على هذا في الفصل رقم (٣٢٨).
1 / 20
فإنه أشد مناسبة لإسقاط القود من القتل لإثباته من جهة أن شفقة الأب تمنع عادة من تعمد قتل الولد، بخلاف الأجنبي فهذا تغليب أحد المناسبين فارقًا، وأما تغليبه جامعًا فهو: أنه لا فرق عندنا في قتل الأب ولده بين أن يضربه بسيف أو يرميه بسهم أو يذبحه، فإنه لا يقتل به تغليبًا للمعنى الجامع، وهو الإشفاق الوازع، وإلغاء للمعنى الفارق، وهو خصوصية الذبح، إذ هو بالنسبة
إلى الجامع المذكور طردي، ومالكٌ لما رأى خصوصية الذبح مناسبة للقود فرق بينهما؛ لأنه فيما سوى الذبح يحتمل أنه أراد ترويعه تأديبًا، فأفضى إلى قتله خطأ، بخلاف الذبح فإن احتمال التأديب فيه متلاش، وحينئذٍ يقال: قاتل متعمد، فوجب عليه القصاص كالأجنبي، ويلغو وصف الأبوة؛ لأنه وإن كان مناسبًا لعدم القود فمناسبة العمد المحض لإثباته ترجحت عليه.
وأما تقارب الجامع والفارق في المناسبة حتى يتجه الخلاف، فمثاله: إيجاب كفارة الصوم بالأكل، وإيجاب الزكاة في مال الصبي، أما في الصورة الأولى فمن اعتبر عموم إفساد الصوم أوجب الكفارة، وقال: مفسد للعبادة أشبه المجامع، ورأى خصوصية الجماع وصفا طرديًا ألغاه بتنقيح المناط.
ومن اعتبر خصوص الإفساد جعل الجماع فارقًا مؤثرًا بما سبق، فلم يثبت الحكم بدونه.
وأما في الثانية، فلأن بين الصبي والبالغ جامعًا وهو ملك النصاب الزكوي ملكًا تامًا، وهو مناسب لاشتراكهما في تعلق الزكاة بمالهما، وفارقًا وهو كون البالغ مكلفًا بالعبادات، والزكاة عبادة فلزمته، بخلاف الصبي، فمن اعتبر الجامع أوجب الزكاة في مال الصبي، ومن اعتبر الفارق أسقطها عنه.
وعلى هذا النمط تجري مسائل الأحكام في الجمع والفرق، وقد يظهر الفرق ويخفى ويتوسط، فيحتاج إلى نظر بحسبه في ذلك) (١).
_________
(١) علم الجذل في علم الجدل، ص، ٧١ - ٧٢.
1 / 21
المبحث الرابع نشأة علم الفروق الفقهية
نشأت الفروق - بصفة عامة - في كل علم مع نشأة العلم ذاته، إذ ما من علم إلا ويقع بين بعض فروعه ومسائله تشابه قد يؤدي إلى التسوية بينها في الأحكام، مع وجود فارق مؤثر بينها قد يخفى، ولا يقف عليه إلا من تضلع في الفن وأدركه، وسبر غوره، وعرف أسراره ودقائقه، وكانت لديه ملكة ذهنية تساعده على ذلك، ثم إنه فيما يبدو لما كثرت مسائل الفروق في بعض العلوم، وخشية من وقوع التداخل بينها في الأحكام؛ أوجد ذلك في نفوس بعض العلماء البارزين في تلك العلوم الحاجة إلى إيضاحه وإبرازه بشكل مستقل كفن قائم بذاته، والتأليف فيه بمؤلفات خاصة ترسم قواعده، وتجمع مسائله، وتظهر فوائده، فوجدت مؤلفات في هذا الفن لفنون متعددة كاللغة (١)، والأصول (٢)، وغيرها.
والفقه الإسلامي كغيره من العلوم، ظهرت الفروق فيه منذ نشأته، حيث
_________
(١) من المؤلفات فيه: كتاب (الفروق في اللغة)، لأبي هلال العسكري، وهو مطبوع.
(٢) ومن المؤلفات فيه: كتاب (الليث العابس في صدمات المجالس) لإسماعيل بن معلا الشافعي، وقد اشتمل الكتاب على طائفة من الفروق الأصولية كالفرق بين الشرط والسبب، ونحو ذلك. وللكتاب نسخة مصورة على الميكروفيلم بمركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى برقم (١٠١) أصول.
ومن المؤلفات فيه: رسالة صغيرة بعنوان (الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب) للعلامة البلقيني الشافعي، وهي في محفوظات دار الكتب المصرية. وقد نقل عنها بعض الفروق السيوطي في الأشباه والنظائر، ص، ٥٢٩، وقد حقق هذه الرسالة د. حمزة الفعر، ونشر في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد ١٣، السنة الرابعة، عام ١٤١٢ هـ.
1 / 22
ورد في نصوص الكتاب والسنة ما يشير إلى هذا الفن، ويدل على اعتبار الفرق، فالكتاب كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (١) فقد دلت هذه الآية على وجود التشابه بين البيع والربا في الصورة الظاهرة، إلا أن الله تعالى فرق بينهما في الحكم.
وأما السنة: فكقوله ﷺ: "يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام" (٢) ففي الحديث التفريق في الحكم بين شيئين متشابهين في الصورة الظاهرة.
وقد أدرك ذلك الفقهاء الأوائل من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين، وتفطنوا إلى الفوارق المؤثرة بين كثير من المسائل المتشابهة، وما اختلافهم في أحكام كثير من المسائل الفقهية إلا نتيجة إدراك بعضهم فروقًا دقيقة، ومعاني خفية مؤثرة، لم يدركها البعض الآخر، أو لم يعتبرها مؤثرة في الحكم.
ومما يدل على ذلك أيضًا ما جاء في خطاب عمر بن الخطاب ﵁ إلى أبي موسى الأشعري ﵁: (اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور عندك، فاعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق فيما ترى. .) قال العلامة السيوطي
تعليقًا على هذا القول: (وفي قوله "فاعمد. . ." إشارة إلى أن من النظائر ما يخالف نظائره في الحكم لمدرك خاص به، وهو الفن المسمى بالفروق) (٣).
وبالنظر في مصنفات الفقهاء الأوائل يجد المطالع لها التنبيه على المسائل المتشابهة، والتفريق بينها في الحكم واضحًا في تلك المصنفات، كالمدونة عن الإمام مالك، والأم للإمام الشافعي (٤)، والمسائل المروية عن الإمام أحمد، ومن أقدم المصنفات التي ظهر ذلك فيها بكل وضوح: الجامع
_________
(١) سورة البقرة، الآية (٢٧٥).
(٢) سيأتي تخريجه في القسم التحقيقي في الفصل رقم (٤٠).
(٣) الأشباه والنظائر، ص، ٧.
(٤) انظر: مقدمة محقق مطالع الدقائق، ص، ١٧٤.
1 / 23