ذهب الكاهن، فقعدت مكانه ومددت يدي أكشف للمرة الثانية عن هذه الملامح التي قضي علي بألا أراها بعد.
وخاطبت الميت قائلا: ماذا كنت تريد أن تقوله لي يا أبي؟ لقد أدرت لحاظك مفتشا عني قبل انطفاء عينيك، فما كانت فكرتك الأخيرة يا ترى؟
وكان والدي يكتب مذكرات يدون فيها وقائع أيامه ، وكان كتاب هذه المذكرات مفتوحا على الخوان، فتقدمت إليه وجثوت، فإذا على الصفحة الأخيرة هذه الكلمات:
الوداع يا ولدي ... أحبك ... وأموت.
جمدت دموعي، واختنقت زفراتي، فكأن يدا شدت على عنقي وختمت على فمي، فوقفت شاخصا بالميت المسجى أمامي، وما كان في حياته يجهل ما كانت عليه حياتي، فقد كان يشكوني إلى نفسي ويوجه إلي التقريع، وما اجتمعت به مرة إلا وحدثني عن مستقبلي، وتناول باللوم مآتي شبابي، ولكم أنقذتني نصائحه من تهلكة! فقد كان لإرشاده قوته المستمدة من فضيلته؛ لأنه كان مثال الدعة ومكارم الأخلاق، وقد كان يتمنى لو يراني قبل موته ليردني عن السبيل الضلول الذي توغلت فيه، ولكن المنية عاجلته فلم تدع له إلا كلمة واحدة يقولها، فقال: إنه يحبني ...
الفصل الثاني
وكان قبر والدي يحوطه سور من خشب؛ لأنه أراد أن يدفن في القرية، فكنت أذهب كل يوم لأقضي ساعات على مقعد صغير موضوع داخل السور، ثم أعود إلى المسكن الذي كان يقطنه ولا رفيق لي إلا خادم واحد.
مهما فعلت أحزان الشهوة في النفوس، فما هي إلا آلام حياة، وهل تقاس آلام الحياة بأحزان الموت؟ إن أول ما تبادر إلى ذهني حين وقفت إلى جنب سرير والدي الميت هو أنني ولد جاهل لا يعلم شيئا، ولا يعرف شيئا، وعندما ربط الأسى على قلبي شعرت به كألم في جسدي حتى كنت أتلوى كمن أفاق من غفلة، فشعر بجهله، وأحس بآلامه.
ومضت الشهور الأولى علي في الضاحية وأنا ذاهل لا أذكر الماضي ولا أبالي بالمستقبل؛ فما كنت أشعر أن من عاش فيما مضى كان إياي، وما كان ما يستولي علي في ذلك الحين ليشبه آلام اليأس الثائر التي كانت تقبض علي من قبل، بل كان نوعا من الجمود والتعب، فكأنني كرعت السآمة فوجدت لها مرارة تتشنج لها أحشائي.
وكنت أجلس طيلة نهاري إلى كتاب أتصفحه ولا أقرأ، بل أنظر إليه لأسبح في أجواء تشبه العدم؛ لأنني كنت فقدت التفكير، فاستغرقت في سكينة مطبقة؛ فإن ما صدمت به كان من العنف والاستمرار على قوة نالت مني حتى غدوت كالمسلوب تنقر أعصابه فلا تجيب.
Bog aan la aqoon