إن ما ينتج عن أحقر الحوادث في هذه الحياة، وما تبدل في مسالكنا أتفه الأمور لمعضلة تفتح أعمق المهاوي أمام المفكرين.
إن أفعالنا لشبيهة بالسهام الصغيرة التي نتلهى بتفويقها نحو الهدف حاسبين أنها ستتجه طوع اختيارنا ومهارتنا، ولكن لفحة من الهواء تهب على أحدها فجأة فتحوله عن مجراه، وترفعه لتدفع به إلى مجاهل الآفاق.
إننا نشعر بصدمة مروعة عندما يتضح أن كبرياءنا الواثقة من ذاتها ليست إلا شبحا يتجلى مهارة وعزما ...
إن القوة نفسها، وهي سيدة العالم التي يقبض الإنسان عليها وينتضيها سيفا يناضل به في معترك البقاء، إنما هي خاضعة ليد خفية تحولها عن الهدف الذي نرمي إليه، فإذا جهدنا منطلق كالسيف خلا أمامه مضربه فرمى بحامله إلى الحضيض.
هكذا بينما كنت أتجه بكل إرادتي إلى تطهير نفسي من أدران خطيئتي - ولعلني كنت أتجه أيضا إلى إنزال العقاب بنفسي - رأيتني ماثلا أمام تجربة خطرة قدر علي أن أسقط فيها.
وكان البشر يطفح من وجه ديجنه، فانطرح على المقعد وهو يتهكم لما ينم عليه وجهي من اضطراب ومن سهد، وما كنت في حالة أحتمل معها المزاح، فرجوته بلهجة جافة أن يعفيني من مزاحه، فما اهتم لقولي، بل تناول الموضوع الذي جاء من أجله، وما جاء إلا ليعلمني أن خليلتي لم تكتف باتخاذ عشيقين في آن واحد؛ إذ بلغ عشاقها الثلاثة، وذلك معناه أنها لم تعامل من خدعتني لأجله بأحسن مما عاملتني.
قال ديجنه: إن مزاحمك لم يتورع من نشر الخبر، وقد عرفت باريس كلها بخيانة الخليلة له أيضا. وما أدركت لأول وهلة معنى هذا القول حتى استعدته الحكاية ثلاث مرات، وإذ فهمتها صعقت ولم أجد سوى الضحك ألجأ إليه حين أيقنت أن من أحببت امرأة ساقطة، ولكنني وجمت حين قالت لي نفسي إنني أحببتها، بل لم أزل أحبها إلى الآن.
وأيد رفيقا ديجنه ما قاله هو، فعرفت منهما أن خليلتي كانت في منزلها، وقد التقى العاشقان فيه فكان عراك شديد اشتهر أمره، حتى اضطرت المرأة إلى مغادرة باريس هربا من الفضيحة والعار.
وما كان ليخفى علي ما يصيبني من كل هذه المهازل؛ إذ أصبحت مبارزتي من أجل هذه المرأة، وتولهي بها، وجميع ما فعلته من أجلها سخرية وهزؤا، وما كان ما توصف به من أحط الصفات، وما يفترض من عهرها فوق ما اشتهر منه إلا ليشعراني بأنني لم أكن إلا واحدا من عديد من تناولهم خداع هذه المرأة الساقطة.
ولاحظ الشابان امتعاضي فوقفا عن التمادي في السخرية، غير أن ديجنه لم يقف؛ إذ كان مصمما على معاملتي معاملة الطبيب يعالج مريضه بقسوة لا بد من الأخذ بها، وكان يرى لنفسه هذا الحق - وهو الصديق الحميم الذي محضني الود، وبادلني الخدمات العديدة - وقد اعتقد بحسن نيته، فما زاده اضطرابي إلا إيغالا في الشدة ليقذف بي إلى السبيل الذي يريده لي، ولكنه ما لبث أن شعر بنفاد صبري فاختار السكوت، وما كان سكوته هذا إلا ليزيد من ثورتي، فبدأت بدوري أتحرش بزائري مستفهما وأنا أتمشى ذهابا وإيابا في الغرفة، متوقعا سماع التفاصيل عن هذه الحوادث التي صعقت لها، وكنت أتكلف الابتسام ثم أتظاهر بالسكون، فما نجحت محاولاتي؛ لأن ديجنه تمنع بالصمت فجأة بعد أن ذهب بثرثرته إلى مدى بعيد، فكان ينظر إلي بهدوء وأنا أذرع غرفتي بخطواتي كالثعلب أطبق قفصه عليه.
Bog aan la aqoon