وكان يسود سكوت عميق حول البيت التي تقطنه هذه السيدة؛ إذ كان يسكن أحد أقسامه مريض، ففرش التبن على الطريق المجاورة منعا لقرقعة العربات، وكنت أنا مطوقا هذه المرأة بذراعي وقد أذهلتني عاطفة اقتسام الأشجان، وطالت محادثتنا، فكنا نتشاكى فأشعر أن بين آلامي وآلامها شيئا من اللذة، وأسمع صوتا مواسيا كأنه نشيد سماوي يتعالى من أنين متوجعين، وكان دمعانا يتمازجان وأنا مكب عليها، فما كنت أرى غير وجهها، ولكني عندما تراجعت عنها رأيت أنها كانت في هذه الأثناء رفعت إحدى رجليها وأسندتها على رف الموقد، فانسحب رداؤها حتى بدت ساقها عارية.
ولما رأت اضطرابي لهذا المشهد لم تغير وضعها، فأدرت ظهري ليتسنى لها ستر ما انكشف منها، فتجاهلت الأمر، فوقفت إلى الموقد أتفرس فيها واجما، وإذ اتضح لي أنها مدركة ما تفعل، أدركت بدوري أن هذه المرأة قد شاءت أن تلعب دورها لإغوائي، فما كانت دموعها وما نقلته عن آلامها إلا اختلاقات تستكمل بها فنها.
أخذت قبعتي وتوجهت إلى الباب، فأرخت رداءها على مهل، فلم أنبس بكلمة، بل أومأت مسلما وخرجت.
الفصل السابع
وعندما رجعت إلى مسكني وجدت وسط غرفتي صندوقا كبيرا، وكانت إحدى عماتي انتقلت إلى ربها، ولم تكن حصتي من ميراثها ذات شأن، فوجدت في الصندوق أدوات وأشياء مختلفة بينها عدد من الكتب القديمة علاها الغبار، وكنت إذ ذاك أتململ ضجرا، فرأيت أن أتصفح بعض هذه الكتب، وأكثرها روايات نشرت في عهد لويس الخامس عشر. ولعل عمتي - وهي من الصالحات العابدات - كانت ورثتها من أقارب لها، فاحتفظت بها دون أن تطالعها؛ لأن هذه الكتب كانت عبارة من مجموعة دروس في الغواية والفحشاء.
أعهد بنفسي ميلا لا قبل لي برده إلى تحليل جميع ما يقع لي من حوادث، سواء أكانت هامة أم تافهة، فأطمح دائما إلى إيجاد ارتباط بينها، فأجيء بتسلسل لها وأنظمها في سلك واحد كعقد لا بد من ضم شتاته، ولعلني ذهبت مع الوهم إذ اعتقدت بوجود علاقة بين حالتي ووصول هذه الكتب، فاندفعت إلى مطالعتها مبتسما وفؤادي ينفطر حزنا. وكنت أناجي هذه الصفحات قائلا: إنك دون سواك تعلنين حقيقة الحياة، وتجسرين على القول بأن لا حقيقة إلا بالتمتع بالملذات والمراوغة والفساد. كوني لي نعم الصديق، وانفثي على جراح نفسي سمومك الكاوية، فأتعلم منك أن أومن بما تعلنين.
وهكذا بدأت باقتحام المسالك المظلمة مهملا مطالعة دواوين أحب الشعراء إلي، فعلا الغبار كل كتاب كنت أجالسه من قبل كأستاذ أتلقن الحقيقة عنه، وكثيرا ما أخذتني سورة الغضب فدست على هذه الكتب بقدمي كأنني أنتقم من مؤلفيها فأقول لهم: أيها التائهون في الأحلام، إنكم لا تعلمون الناس غير الألم. إذا كنتم عرفتم الحقيقة فما أنتم إلا منمقو عبارات مخادعون، وإذا كنتم جهلتموها فما أنتم إلا بلهاء ... وفي الحالين أنتم كاذبون لأنكم أوجدتم من قلب الإنسان أساطير ضلال وأوهام. مهلا! إنني سأدفع بكل ما كتبتم إلى ألسنة اللهيب.
وما كنت أجد من منجد في ثورتي غير دموعي، فأتيقن وأنا أسكبها أن الحقيقة التي لا حقيقة سواها إنما هي الأوجاع والآلام؛ فأهتف قائلا: أجيبيني أيتها العبقريات المنقسمة على الخير والشر لأعرف إلى أية ناحية أتجه. أقيمي بينك حكما يفصل في خلافك فأهتدي من حكمه إلى المنهج السوي.
وتناولت توراة قديمة كانت على الخوان ففتحتها قائلا: أجبني أنت أيها الكتاب المقدس وامددني بأحكامك، فوقع نظري على الإصحاح التاسع من سفر الجامعة، فإذا فيه:
لأن هذا كله جعلته في قلبي، وامتحنت هذا كله. إن الصديقين والحكماء وأعمالهم في يد الله. الإنسان لا يعلم حبا ولا بغضا. الكل أمامهم، الكل على ما للكل ، حادثة واحدة للصديق والشرير، للصالح وللطاهر والنجس، للذابح وللذي لا يذبح، كالصالح الخاطئ، الحالف كالذي يخلف الحلف. هذا أشر كل ما عمل تحت الشمس. إن حادثة واحدة للجميع، وأيضا قلب بني البشر ملآن من الشر، والحماقة في قلبهم وهم أحياء، وبعد ذلك يذهبون إلى الأموات.
Bog aan la aqoon