وهكذا يخيل إليك أن مساكن الأغنياء معارض فنون؛ إذ تجد فيها الطراز القديم، وطراز عصر النهضة، وعصر لويس الثالث عشر، فلدينا من كل عصر أشياء، ولا شيء لدينا من عصرنا، وما شوهدت مثل هذه الحال في أي زمن من قبل، فنحن نذهب مذهب المتخيرين فنأخذ من كل ما نجد: هذا لجماله، وهذا لموافقته للراحة، وآخر لقدمه، وآخر لما فيه من القبح ... وهكذا نعيش على أنقاض كأن العالم قد اقترب من الزوال.
على مثل هذا كان تفكيري. كنت طالعت كثيرا، وتعلمت الرسم، وحفظت أشياء تراكمت في دماغي بلا ترتيب، فكان رأسي كالإسفنجة متضخما على فراغه.
وعشقت جميع الشعراء واحدا بعد واحد، غير أن إغراقي في تأثري كان يحول كل إعجابي إلى آخر شاعر عرفته، ويدفعني إلى كره سائر الشعراء، وثابرت على هذا المنهج حتى أنشأت من نفسي مستودعا للعاديات، وكنت اغترفت من كل حديث مجهول حتى بشمت؛ فإذا أنا طلل بال عليه شيء لم يزل في مهيع الصبا، هو أمل هذا القلب في طفولته. ذلك هو أملي الذي سلم من كل وصمة، ومن كل فساد، وسكب الحب فيه كل قوى الحياة، فإذا الخيانة تصيبه بالجرح القاتل، ومكر العشيقة يرميه بأحد سهم وهو يطير في أرفع أجوائه.
وكنت أشعر أن في نفسي شيئا يتشنج في استرخائه كأنه طير جريح يحتضر. إن المجتمع الذي ينزل الدواهي بأفراده لشبيه بالأفعى الهندية التي تستقر في الأعشاب الشافية للسعاتها، فإنك كثيرا ما تجد قرب الأدواء نفسها أنجع علاج لها، فالرجل الذي يتبع نظاما ينطبق على حالة المجتمع في حياته، فيعين وقتا لأعماله، ووقتا لزياراته، وميعادا لممارسة الحب ... لا يتعرض لأي خطر إذا هو فقد من يهوى؛ لأنه اتخذ لأعماله وتفكيره نظاما وترتيبا كصفوف الجنود المهيأة للكفاح، فإذا سقط جندي منها انكمش الصف، وقام آخر مكانه، فلا يشعر أحد بفراغ ذلك المكان.
أما أنا، فما كان لي ما ألجأ إليه منذ أصبحت وحدي، فكنت أقف أمام الطبيعة وهي أمي التي أحب فأراها تتسع حولي وتزداد فراغا، ولو أمكنني أن أنسى عشيقتي كل النسيان لكنت نجوت.
كثير من الناس يجدون الشفاء على أهون سبيل؛ لأنهم يصمدون للخيانة متغلبين على الحب الجريح، ولكن أنى لابن التاسعة عشرة أن يقتبس هذه الطريقة في حبه وهو يجهل كل شيء، ويشتهي كل شيء، وهو الشاعر بنمو جراثيم الشهوات كلها في نفسه. هل لمثل هذا الفتى أن تساوره الشكوك، وهو كيفما التفت يمينا أو شمالا أو علق نظره على الآفاق يسمع هاتفا يدعوه إلى الشهوة والأحلام؟ وما من حقيقة يمكنها أن تتسلط على القلب في فتوته. كل شيء ينبت الأزهار للشباب حتى العقد المتصلبة في أغصان السنديانة الهرمة، ولو كان للفتى ألف ذراع لمد بها إلى الفضاء، حتى إذا التفت على عشيقة أصبح هذا الفضاء في نظره مليئا عامرا.
وما كنت أحسب أن في العالم من عمل سوى الحب، وعندما كان أحد الناس يخاطبني عن غير الحب كنت أدير ظهري والتزم السكوت.
وكان ولهي بمحبوبتي ولها وحشيا ألقى على حياتي طابع الرهبنة والنسيان.
ولأوردن حادثة واحدة تثبت ما صورت من حالتي:
كانت محبوبتي أعطتني ذخيرة ضمنها رسمها المصغر، وكنت أحمل هذه الذخيرة على مخفق قلبي أسوة بكثير من الرجال، ولكنني وجدت يوما عند أحد الباعة سلسلة حديدية علقت في طرفها دائرة على ظهرها نتوءات شائكة، فابتعتها وربطت الذخيرة عليها، وحملتها مديرا النتوءات لجهة صدري، فكانت تغرز في جلدي فأشعر من ألمها بلذة غريبة، وكثيرا ما كنت أضغط عليها بكفي مستزيدا لذتي وآلامي ...
Bog aan la aqoon