وصاحت بريجيت: هيا بنا! لنطر كغردين في الأجواء، وليقم في ذهننا أننا لم نلتق إلا منذ أمس الدابر في أحد المراقص، فأعجبت بك وأعجبت بي، ولسوف تقص علي بعد أن نبتعد أميالا أنك في القرى الصغيرة عشقت امرأة تدعى مدام بيارسون، فلا أصدق شيئا مما ستسرده عنها؛ إذ لا أريد أن تسر إلي بما وقع بينك وبين امرأة هجرتها لتتبعني، ولسوف أقول لك أنا أيضا: إنني منذ أمد غير بعيد أحببت رجلا ذا أخلاق سيئة حملت الشقاء من صحبته، فتسمعني كلمات الإشفاق وتلزمني السكوت، وهكذا نطوي إلى الأبد تلك الصفحة القديمة.
وعندما كانت بريجيت تتكلم بمثل هذا كنت أشعر بجشع الحريص وارتياعه، فأضمها إلى صدري بساعدين يرتجفان، وأنا أهتف قائلا: إنني لا أعلم ما يوجب ارتعاشي أفرحي أم خوفي؟ سأحملك إلى بعيد يا بريجيت؛ لأنك كنزي الوحيد، فتكونين لي تحت هذه الآفاق الوسيعة. هيا إلى الأمام، ولتمت ورائي أيام شبابي وتذكاراتي، فتضمحل معها آلامنا وأوصابنا.
أي خليلتي، لقد حولت بصبرك الولد رجلا، فإذا ما تخليت عني الآن يمتنع علي أن أحب بعد.
من يدري؟ لعل امرأة غيرك كانت ستتولى معالجتي لو لم تعثري علي. أما الآن فأنت وحدك في العالم المرأة التي بيدها إنقاذي وهلاكي؛ لأنني أحمل على قلبي وسم جميع ما حملتك إياه من عذاب. لقد كنت عاقا فعميت بصيرتي، وقسوت عليك. وإنني أشكر الله لأنك لا تزالين تحبينني، فإذا ما عدت يوما إلى القرية التي رأيتك تحت أشجارها، فتطلعي مليا إلى ذلك المسكن المقفر؛ إنك لتجدي فيه طيفا يتوه في أرجائه، ذلك هو الرجل الذي دخل إليك من باب هذا المسكن فبقي فيه؛ لأن الرجل الذي خرج معك منه إنما هو رجل آخر .
وكان جبين بريجيت يشع بنور الحب، وتلتفت إلى السماء قائلة: أصحيح أنني لك، وأننا سنبتعد عن هذا العالم الذي أهرمك في شرخ شبابك. إنك ستعرف ما هو الحب فتنجلي أمامي حقيقة نفسك، وإذا وهنت محبتك لي يوما إيان يستقر بي الترحال فإنك لن تتملص من تبكيت ضميرك؛ لأنني أكون قمت بالمهمة التي قدرت علي، فإذا ما تخليت عني أجد في السماء إلها أوجه إليه شكري على ما أولاني من نعمته.
إن هذه الكلمات لم تزل تصدي في جوانب تذكاري فتملأني حزنا وروعة.
وأخيرا قررنا أن نسافر إلى «جنيف» فنختار لنا مسكنا هادئا على منحدر جبال «الألب»، فبدأت بريجيت تذكر البحيرة الجميلة، فأحسبني أنشق النسمات التي تعقد زردا على سطحها حاملة عطور أزهار الوادي، فكنا نشاهد بعين الخيال «لوزان» و«فيفي» و«أوبرلند»، ووراءها قمم الجبل الوردي الذي يفصلها عن سهول «لومباردي» الواسعة، فكأننا كنا نسمع في هذه الأماكن هتاف السكينة وهمسات أرواح العزلة تدعونا إليها لإغراق حياتنا فيها.
وعندما كان يحين المساء وأربط على أنامل بريجيت بأناملي كنا نشعر كلانا بشيء من التسامي يقصر البيان عنه، وما هو إلا عاطفة كل قلب يستعد للرحيل، فتتنازعه روعة الابتعاد وآمال ما يتوقع مشاهدته في سفره.
إن في فكر الإنسان أجنحة خافقة وأوتارا ناطقة تمثل الألوهية فيه، فإذا ما استعد للرحيل ينتصب فيه عالم جديد كأنه خلق فيه خلقا.
وما عتم حتى ظهرت على بريجيت دلائل الشحوب، فأصبحت صامتة تحني دائما رأسها، وإذا ما سألتها عما بها تجيب بصوت خافت أنها لا تشعر بشيء، ونبهتها يوما إلى قرب ميعاد السفر فنهضت متخاذلة لتتمم معدات الرحيل، وأردت أن أشدد عزمها بتأكيدي لها أنها ستلقى السعادة، وأنني سأكرس لها حياتي، فلجأت إلى ذرف الدموع، وقبلتها فعلا وجهها الشحوب وأعرضت بعينيها عني تاركة شفتيها لشفتي، وقلت لها: إن بوسعها العدول عن الرحيل، فقطبت حاجبيها.
Bog aan la aqoon