مقدمة المؤلف
نحمدك أن أطلعت لعلم الفتوى في سماء التحقيق شموسًا وبدورًا، وجعلت علماء علم الشريعة الغراء أرفع الناس في الدارين مكانة وحبورًا
1 / 43
وسرورًا، واخترتهم لحفظ فرائض الإسلام وسننه، وأقمتهم نجومًا يُهتدى بها في ظلمات الجهالات إلى منهجك القويم وسننه. ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادة يلوح عليها أمائر الإخلاص، وينجو مدخرها من أهوال قبائح المفترين عليك حين لا مناص، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدك ونبيك أفضل من أوذي فيك فصبر، وأجلّ من ابتليته فرضي وشكر، وأرسلته لخير أمة أخرجت للناس، فهديت به كل حائر، وأرديت به كل جائر، ومحوت به ظلم البدع والكفر لا سيما من بلدك الحرام، وقصمت ببراهين دينه الطغاة من الطغام، وأمرته بأن يورثها من بعده من الأئمة الأعلام حتى يردّوا بها على من عاندهم في واقعة من وقائع الأحكام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نصروا الحق وأشادوا فخره، ودمغوا الباطل وأهله الكثيرين وأماتوا ذكره، صلاة وسلامًا دائمين ما قام بنصرة دينه القويم بعض وارثيه، وبذل نفسه في الله تعالى رجاء لما أعده لعارفيه.
أما بعد: فهذا تأليف جامع، ومجموع إن شاء الله نافع، دعاني إليه وقوع غلط فاحش في مسألة أفتيت بها فأحببت بيانها مع ما يتعلق بها؛ لأن الحاجة ماسة إلى جميع ذلك. سيما وقد توعرت هذه المسالك حتى صار الغلط في الواضحات فضلًا عن المشكلات أقرب إلى المنسوبين إلى العلم من حبل الوريد، ولسان حالهم يعلن أنه ليس لهم عنها من محيد، لما جبلوا عليه من مخالفة سنن الماضين، والخلود إلى أرض الشهوات والطمع فيما بأيدي
1 / 44
الظلمة والمتمردين، نسأل الله تعالى أن يعافينا من ذلك، وأن ينجينا من ظلم هذه المهالك، وأن يوفقنا إلى ما كان عليه أئمتنا من صالح العمل، وأن يجنبنا الزلل، إنه أكرم مسؤول وأرجى مأمول.
هذا، وقد لوّحت لك بالقضية الحاملة على هذا التأليف، وبيانها: أني لما كنت بمكة في مجاورتي الثالثة سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة، رفعت إليّ فتوى صورتها: ما قولكم رضي الله عنكم في من تزوج غير بالغة ثم أشهد عليها أنه أقبضها حالّ صداقها، فهل يصح هذا الإشهاد؟ وهل للوصي مطالبته بالمهر، والدعوى به عليه؟ وهل له ولو حاكما أن يقول له: يا كلب يا عديم الدين أم لا؟ فماذا يلزمه في ذلك؟
فأجبت بما صورته: إن بلغت مصلحة لدينها ومالها صح قبضها والإشهاد عليها، ولم يكن للوصي مطالبته ولا الدعوى عليه، وقوله له ما ذكر محرم التحريم الشديد، بل ربما يكون قوله: يا عديم الدين كفرًا، فيعزر التعزير الشديد اللائق به والزاجر له ولأمثاله، والله ﷾ أعلم بالصواب، وكتبه فلان.
ثم دفعتها إلى صاحبها، فوقعت في أيدي جماعة أصدقاء للصادر منه ذلك، فقصدوا التقرب إليه بالكذب على الله (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الشعراء/٢٢٧، فاعترضوا ما كتبته وشنعوا به عند العوام وموّهوا عليهم حتى
1 / 45
قال بعض مجازفيهم لعوامه: هذا الإفتاء كفر، وعلله بأنه يقتضي أنّ قائل هذا اللفظ يكفر مطلقًا وليس كذلك، ومن كفّر مسلمًا فقد كفر، ثم اعترضوه بأمور أخرى، منها: كيف يُفرع التعزير على الحكم بأنه كفر، ومنها: كيف يكتب المفتي التعزير الشديد، والتعزير راجع إلى رأي الإمام في الشدة والضعف.
ومنها أن من صدر منه ذلك مثله لا يفتى عليه، ومنها أن الجواب غير مطابق للسؤال، هذا ما نُقل إلي، وسمعته من اعتراضاتهم، وهي لدلالتها على غباوة قائلها غنية عن التعرض لها بردّ أو إبطال، لكن أحببت في هذا التأليف تحرير الألفاظ المكفرة التي ذكرها أصحابنا وغيرهم، فإن هذا باب منتشر جدًا، وقد اضطربت فيه أفكار الأئمة وعباراتهم، وزلت فيه أقدام كثيرين، ولخطر أمره وحكمه كان حقيقًا بالإفراد بالتأليف، ولم أر أحدًا عرج على ذلك، فقصدت تسهيل جمعه وبيان ما وقع للناس فيه بحسب ما اطلعت عليه، وضممت إلى ذلك فوائد عثر عليها فكري الفاتر، واستنتجها نظري القاصر.
أسأل الله أن يجعلني ممن هداه، وهدى به، وأن يصيّرني ممن وصل الخير لهذه الأمة بسببه، إنه جواد كريم رؤوف رحيم، غافر الزلات وراحم العثرات، فعليه التكلان ومنه التأييد والامتنان، وإليه المفزع في المهمات، ومن فيض فضله يغترف أسباب السداد والعصمة في الملمات.
ولنتكلم أولًا على الحكم الذي أبديناه في "يا عديم الدين" مقدمين عليه الكلام على من قال لمسلم: "يا كافر" فإنه الأصل الذي أخذت منه ما أشرت إليه في الجواب من التفصيل، ثم نعقبه برد ما ذكروه من الشُبه، ثم بتحرير بقية الألفاظ التي تقع بين الناس مما اتفق على أنها كفر أو اختلف فيه، فنقول: عبارة
1 / 46
الرافعي في العزيز نقلًا عن التتمة: أنه إذا قال لمسلم: "يا كافر" بلا تأويل كفر؛ لأنه سمى الإسلام كفرًا، وقد صح عنه ﷺ: (إذا قال الرجل لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)، والذي رماه به مسلم فيكون هو كافرًا. انتهى.
وتبعه النووي في الروضة وعبارته: قال المتولي: ولو قال لمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر؛ لأنه سمى الإسلام كفرًا. انتهى.
1 / 47
واعتمد ذلك المتأخرون: كابن الرفعة والقمولي، والتتائي والإسنوي
1 / 48
والأذرعي وأبي زرعة وصاحب الأنوار وشارح الأنوار، بل كثير منهم كالتتائي والقمولي وصاحب الأنوار وغيرهم جزموا به من غير عزو، ولم ينفرد المتولي بذلك، بل سبقه إلى ذلك ووافقه عليه جمع من أكابر الأصحاب، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني
1 / 49
والحليمي والشيخ نصر المقدسي، وكذا الغزالي وابن دقيق العيد، بل
1 / 50
قضية كلام هؤلاء: أنه لا فرق بين أن يؤول أو لا، كما سيتضح لك من كلامهم الذي أذكره عنهم.
فإن قلت: قد خالف ذلك النووي نفسه في الأذكار، فقال: يحرم تحريمًا غليظًا.
قلت: لا مخالفة، فإن إطلاق التحريم في لفظ لا يقتضي أنه لا يكون كفرًا في بعض حالاته، فعبارة الأذكار لا تنافي عبارة الروضة وغيرها، على أن الكفر يحرم تحريمًا غليظًا فتكون عبارة الأذكار شاملة للكفر أيضًا، ونكتة التعبير بالتحريم الغليظ قصد الشمول للحالة التي يكون فيها كفرًا وغيرها.
وإذا تأملت هذا التقرير ظهر لك حسن ما فعلته في الجواب المذكور من قولي: فيعزر إلى آخره ...، حيث فرّعت على التحريم ولم أفرّع على الكفر، لأن التحريم هو الأمر المحقق، وأما الكفر فقد يوجد عند عدم التأويل، وقد لا يوجد، ولم نعلم أن قائل ذلك لم يؤول، فتعيّن التفريع على الأمر المحقق، وطرح الأمر المشكوك فيه، وبهذا اندفع الاعتراض السابق، وهو: كيف يفرع التعزير على الحكم بالكفر؟ وسيأتي لذلك مزيد.
فإن قلت: يؤيد ما في الأذكار قول ابن المنذر في الإشراف في باب
1 / 51
القذف: وأجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لرجل من المسلمين: يا يهودي، يا نصراني، عليه التعزير ولا حد عليه. ثم قال: ويشبه ذلك مذهب الإمام الشافعي.
قلت: قد علمت مما تقرر في عبارة الأذكار أن عبارته كهذه العبارة مطلقة، وعبارة الشيخين وغيرهما السابقة عن المتولي مفصلة، والمطلق لا ينافي المفصل. ثم رأيت الأذرعي ذكر ما هو صريح في ذلك حيث قال عقب كلام ابن المنذر: وقياس ما تقدم أي: عن المتولي أنه إذا قاله بلا تأويل أنه يكفر، لأنه جعل الإسلام يهودية أو نصرانية، فتأمله. انتهى، فجعله مطلقا وجعل كلام الشيخين عن المتولي مفصلا، وحمل هذا الإطلاق على هذا التفصيل أخذًا بالقاعدة الأصولية الشهيرة.
فإن قلت: عبارة النووي في شرح مسلم قد تنافي ما تقرر
1 / 52
وحاصلها: أن هذا الحديث مما عده العلماء من المشكلات من حيث إن ظاهره غير مراد، فإن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه: يا كافر. من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، ثم حكى في تأويل الحديث وجوهًا:
أحدها: أنه محمول على المستحل "ومعنى باء بها أحدهما": بكلمة الكفر، وكذا "حار عليه" في رواية أي: رجعت عليه كلمة الكفر، فباء وحار ورجع بمعنىً.
الثاني: رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره.
الثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك
1 / 53
وهو ضعيف؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع.
الرابع: معناه أنه يؤول إلى الكفر فإن المعاصي -كما قالوا- بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيده رواية أبي عوانة في مستخرجه على مسلم: (فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَه وَإِلَّا فَقَدْ بَاءَ بِالْكُفْرِ) وفي رواية: (إِذَا قَالَ لأخيه: يَا كَافِرُ فَقَدْ وَجَبَ الْكُفْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا).
الخامس: معناه فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام انتهى.
ومنازعة السبكي في بعض فتاويه، مبنية على رأي انتحله مذهبا واعترف
1 / 54
بأنه خارج عن قواعد الشافعي وهو أن من كفر أحدًا من العشرة المشهود لهم بالجنة كفر، وإن كان مؤولا، وقد بسطت الكلام على ذلك في كتابي [الصواعق المحرقة] في الرد على الروافض وغيرهم.
قلت: لا تنافي عبارته المذكورة ما مرّ؛ لأن قوله من غير اعتقاده بطلان دين الإسلام هو من التأويل الذي مرّ عن المتولي أنه إذا سلكه لا يكفر.
نعم في الوجه الأول تقييد لما قاله المتولي بالمستحل، كذا قيل. وأقول: إن أريد أنه تقييد للمفهوم فظاهر أو للمنطوق فليس كذلك، وبيانه: إذا قيل: يا كافر، مؤولا بكفر النعمة أو نحوه كان مع ذلك حرامًا إجماعًا أخذًا مما مرّ عن ابن المنذر، فإن اعتقد حله حينئذ انبنى القول بكفره على الخلاف الآتي في مستحل الحرام المجمع عليه.
فإن قلنا باشتراط أن يكون معلوما من الدين بالضرورة احتمل أن نقول بالكفر هنا، وندعي أن حرمة ذلك معلومة من الدين بالضرورة؛ لأن أحدًا لا يجهل تحريم إيذاء المسلم، سيما بهذا اللفظ القبيح، وإن قلنا بعدم اشتراط ذلك فالكفر بهذا اللفظ واضح.
وإن ذكر هذا اللفظ من غير تأويل، فإن قصد مع ذلك أن دينه الذي هو متلبس به وهو الإسلام كفر، فلا نزاع بين أحد في أنه يكفر بذلك، وإن أطلق فلم يؤول
1 / 55
ولا قصد ذلك اتجه ما أفاده كلام شرح مسلم من أنه إن استحل ذلك كفر وإلا فلا.
وإذا تأملت هذا التقرير علمت أن كلام شرح مسلم لا ينافي كلام الشيخين عن المتولي إلا من حيث أن قضية كلامهما التكفير مطلقا في حال الإطلاق، وهو وإن كان له وجه لكن التفصيل بين الاستحلال وغيره أوجه، هذا ما يتعلق بالوجه الأول من الوجوه التي ذكرها في شرح مسلم، وأما الوجه الثاني: فهو لا ينافي ما مر عن المتولي؛ لأن رجوع نقيصته إليه صادقة بالكفر في بعض الحالات.
وأما الثالث: فاعترضه الزركشي بأن ما حكاه عن الأكثرين من عدم تكفير الخوارج ممنوع. قال: بل هو الحق لما سنذكره في كتاب "الشهادات" وينبغي حمل كلامه على ما إذا لم يصدر منهم سبب مكفر كما إذا لم يحصل إلا مجرد الخروج والقتال ونحوه، أما مع تكفير منهم لمن تحقق إيمانه من الصحابة المشهود لهم بالجنة فلا. انتهى.
وأقول: الخوارج لم يكفروا غيرهم إلا بتأويل، ولم يسموا الإسلام كفرًا وحينئذٍ فالمعتمد ما في شرح مسلم وغيره من عدم تكفيرهم، نعم إن أنكروا صحبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أو كفروا الصحابة أو ضللوا الأمة
1 / 56
فسيأتي مع ما شاكله. وأما الرابع والخامس فلا ينافيان ما مر أيضا نظير ما سبق من أنهما محمولان على من أوّل، ووقع في الحديث روايات لا بأس بالإشارة إليها فروى مسلم: (إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا). وفي رواية له: (أَيُّمَا رجل قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ).
وفي رواية له أيضا: (لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ. وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ). ومرّ في رواية أبي عوانة: (فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا فَقَدْ بَاءَ بِالْكُفْرِ). وفي رواية: إِذَا قَالَ لأخيه: يَا كَافِرُ فَقَدْ وَجَبَ الْكُفْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا). ومعنى كفّر الرجل أخاه: نسبته إياه إلى الكفر بصيغة الخبر نحو أنت كافر، أو بصيغة النداء نحو: يا كافر، أو اعتقد فيه ذلك كاعتقاد الخوارج تكفير المؤمنين بالذنوب، وليس من ذلك تكفير جماعة من أهل السنة أهل الأهواء، لما قام عندهم من الدليل على ذلك، ومعنى: (باء بها أحدهما) أي: رجع بكلمة الكفر كما مر، والجزم بأنه لا بدّ أن يبوء بها أحدهما، بيّنه قوله في الرواية الأخرى: (إن كان كما قال وإلا رجعت
1 / 57
عليه). ومن ثم كانت هذه الرواية في قوة قضية منفصلة أقيم البرهان على صدقها بخلاف الأولى، إذ معناها كل مكفر أخاه: فدائمًا إما أن يكفر القائل أو المقول له، وبرهن على صدق ذلك في الرواية الثانية، بأنه إن كان كما قال وإلا كفر القائل أي: بالمعنى السابق بيانه. وقوله: (أو قال: عدو الله) نص كما قاله بعض الشارحين في أن نسبة الرجل غيره إلى عداوة الله تعالى تكفير له، وكذا نسبة نفسه إلى ذلك، ويوافقه قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ) الآية. البقرة/٩٨، وسيأتي آخر الكتاب ما لو قال: إنه عدو للنبي ﷺ، ومر أن معنى (حار): رجع، والاستثناء قيل: معنوي، أي: لا يدعوه أحد إلا حار عليه؛ لأن القصد الإثبات ولو لم يقدر النفي لم يثبت ذلك، ويحتمل عطفه على ليس من رجل فيكون جاريًا على اللفظ.
وقد فسر الحليمي في المنهاج الحديث بما يوافق كلام المتولي فقال: إن أراد به أن الدين الذي يعتقده كفرٌ كفرَ هو دون أخيه إن كان أخوه مسلمًا حقيقيًا، وإن كان يُبطن الكفر ولا يظهره فذلك غير مراد بالحديث إذ لا يبوء واحد منهما بالكفر، وحينئذٍ يعذر القائل. انتهى. فتأمله تجده صريحا فيما مر عن المتولي وأن التعزير إنما يجب عند كون المقول له ذلك كافرًا باطنًا.
فإن قلت: كيف يكون كافرًا باطنًا ويبقى؟
قلت: يمكن بقاؤه لاستتابته إن قلنا: إن المرتد يمهل ثلاثة أيام، أو لإزالة شبهة أو تغلب أو غير ذلك.
فان قلت: قضيته أن من قال لمرتد: يا كافر يعزر.
1 / 58
قلت: قد يلزمه ذلك لأنه إيذاء، وإيذاؤه إنما يجوز للإمام بالقتل إن لم يتب، ويمكن الفرق بأن المرتد لم يُظهر الإسلام فلم يكن له احترام أصلًا بخلاف من أظهر الإسلام، وإن كان كافرًا باطنًا، ومع ذلك فالموافق للقواعد أنه حيث ثبت كفره باطنًا كان حكمه حكم المرتد، ولا تعزير على من قال له: يا كافر.
وفسر الغزالي في الإحياء الحديث بما يوافق كلام المتولي أيضا حيث قال: معناه أنه يكفره وهو يعلم أنه مسلم، أي: فيكفر بدليل قوله، فإن ظن أنه كافر ببدعة أو غيرها كان مخطئًا لا كافرًا انتهى.
وقد يؤخذ من كلامه حمل كلام الحليمي السابق على غير ما مرّ، بأن يقال: معنى قوله: إن كان أخوه مسلمًا حقيقيًا أي: في اعتقاده، وقوله: وإن كان يُبطن الكفر ولا يُظهره أي: في اعتقاده وحينئذٍ فاتضح قوله: وحينئذٍ يعزر القائل، وهذا التأويل متعين لا ينبغي العدول عنه.
وقد فسر ابن رشد من أكابر أئمة المالكية الحديث بما يوافق كلام المتولي أيضا، حيث قال: حُمِل الحديث على أن من قال ذلك كفر حقيقة، لكن فيمن كفر أخاه حقيقة؛ لأنه إن كان المقول له كافرًا فقد صدق، وإلا كفر القائل؛ لأنه اعتقد ما عليه المؤمن من الإيمان كفرًا، واعتقاد الإيمان كفرًا كفر، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) المائدة/٥. وقال غيره من أئمتهم: لا يبعد حمل الحديث على ظاهره من تكفير القائل على القول بأن الدعاء على غيره بالكفر كفر. واعترضه بعضهم بأن الداعي إنما كفر على
1 / 59
القول بذلك من جهة أنه لما دعا بالكفر كأنه رضيه، والرضا بالكفر كفر بخلاف هذا.
وظاهر كلام الحليمي والغزالي الذي ذكرته عنهما أن القائل حيث اعتقد أن المقول له مسلم كفر مطلقا وإن أوّل، لكن ما مر عن المتولي أوجه.
قال ابن دقيق العيد في قوله ﵊: (وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ). أي: رجع. وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدًا من المسلمين وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا
1 / 60
في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضًا، وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية وهذا الوعيد لاحقٌ بهم، ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني من أكابر أصحابنا أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني، قال: وربما خفي هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلًا بالكفر وليس كذلك رجع عليه الكفر، وكذا قوله ﵊: (من قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: الحديث دلّ على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المُكَفِّر أو المُكَفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع بأني لست بكافر، فالكفر راجع إليه، انتهى.
فتأمله تجده صريحًا فيما مرّ عن المتولي، وفي أن ابن دقيق العيد موافقه على ذلك، وفي أنه لا فرق بين التأويل وعدمه.
وكلام الشيخ نصر المقدسي في تهذيبه في كتاب الصلاة صريح في ذلك، فإنه لم يقيد التكفير إلا بما إذا كان المقول له ظاهر العدالة، لكن الأوجه ما مرّ عن المتولي من التفصيل.
وفي كافية الخوارزمي لو قال: لست من أُمة محمد أو لا أعرف الله
1 / 61
ورسوله أو أنا كافر، أو بريء من الإسلام كفر. انتهى. والحكم فيه ظاهر إلا أن يزعم أنه أراد أنه ليس منهم قطعًا بل ظنًا وأنه لا يعرف الله ورسوله على طريقة أهل الأصول ونحو ذلك فيما يظهر.
وللفتى تلميذ ابن المقري اعتراض على الروضة أحببت ذكره مع التنبيه على رده، وعبارته: قال في الروضة: قال المتولي: لو قال للمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الإسلام كفرًا. انتهى. ذكر القمولي مثله ولم يعلله ولم يعزه إلى أحد، قال: فإن أراد كفر النعمة والإحسان فلا. انتهى.
ولا نسلم قول الروضة: لأنه سمى الإسلام كفرًا، فإن هذا المعنى لا يفهم من لفظه ولا هو مراده، ومعنى لفظه: أنك لست على دين الإسلام الذي هو حق، وإنما أنت كافر، دينك غير الإسلام وأنا على دين الإسلام، هذا مراده بلا شك؛ لأنه إنما وصف بالكفر الشخصَ، لا دين الإسلام، فنفى عنه كونه على دين الإسلام فلا يكفر بهذا القول، وإنما يعزز بهذا السبّ الفاحش بما يليق به، ويلزم على ما قاله أن من قال لعابد: يا فاسق كفر؛ لأنه سمى العبادة فسقًا، ولا
1 / 62