أليس كذلك؟»
لم أتأهب لمقابلة كهذه. رأيت أن لا تمثيل هنا، ولا مجاملة ولا رياء. هنا روح تتوق إلى روح أخرى. هذا ترحيب صديق عرف عيني صديقه وراء الوجه العارية ورغم التنكر الاتفاقي. فأخذت يدها التي مدتها إلي وقلت: من حادث الملائكة لا يقول «أنتم».
ولكن ما أعظمها قوة سبكت في قوالب الحياة واصطلاحاتها! وكم يتعذر التكلم بلغة القلب حتى مع أشبه الأرواح بأرواحنا! تعذر ذلك علينا فاضطرب حديثنا وتضعضعت أفكارنا وشعرنا بارتباك مزعج حاولت التخلص منه بما حضرني من الكلام فقلت: «لقد اعتاد الناس عيشة الأقفاص منذ الحداثة فإذا ما وجدوا نفوسهم فجأة في الهواء الطلق لا يجرءون على تحريك أجنحتهم، ويتخوفون الاصطدام بالصخور إذا هم حلقوا في الفضاء الوسيع!»
فقالت: «هو ذلك، وهو عين الصواب وليس نقيضه بالممكن. لا ريب أننا نود أحيانا أن نكون كالأطيار أحرارا نتنقل على أشجار الغابات ونلتقي فوق الأغصان ونغرد سويا ثم نفترق دون أن يعرف أحدنا الآخر. ولكن اذكر يا صديقي أن بين الأطيار غربانا يؤثر تجنبها. ولعل الحياة كالشعر: فكما يحسن الشاعر سبك المعاني الجميلة والحقائق الخالدة في أوزان معينة، كذلك على الناس صيانة حريتهم الفكرية والوجدانية رغم قيود المجتمع ودون الإيذاء بها أو التطاول عليها.»
فأجبت مستشهدا بقول الشاعر بلاتن: «أي شيء أثبت نفسه خالدا في كل مكان؟ ذاك هو الفكر الحر رغم قيود الألفاظ.»
2
فابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت: «نعم. ولكن لي من ألمي ووحدتي ما يخول لي ما ينكر علي سواي. وكم أشفق على الفتيات والشبان الذين لا يربطون فيما بينهم برابطة الصداقة والائتلاف إلا ويفكرون هم أو يفكر لهم ذووهم، بدنو الحب أو ما يسمونه حبا. الفتيات يجهلن الجمال المختفي في نفوسهن وقد يكفي لإظهاره حديث جدي مع صديق نبيل. والشبان يتعشقون فضائل الفروسية ويمرنون نفوسهم على المحامد والمكارم إذا هم شعروا بمراقبة امرأة تحوم حول جهودهم ونتائجها سرية كانت أم علنية. ولكن للأسف ذلك لا يكون. لأن الحب لا يلبث أن يقتحم الميدان. الحب أو ما يسمونه حبا: أي ضربات القلب المتسارعة المتباطئة، وعواصف اليأس والرجاء، والتلذذ بالوجه المحبوب والتصورات المرضية، وقد يرافق هذه غايات وأطماع جمة. تهجم كلها متعاونة على إقلاق ذلك البحر الهادئ العميق، بحر الصداقة، وهو صورة صادقة للحب الإنساني الطاهر.»
صمتت هنيهة فيها لاحت على وجهها أمارات الألم، ثم قالت: «حسبي اليوم كلاما فطبيبي لا يسمح لي بالإطالة. والآن أرغب في سماع تلك القطع الموسيقية لمندلسهن، النغمة المزدوجة، وكان صديقي الصغير يعزفها جميلا فيما مضى. أليس كذلك؟»
لم أحر جوابا لأنها عندما صمتت وطوت ذراعيها على صدرها كالعادة رأيت في خنصرها ذلك الخاتم الذي أعطتنيه يوما ثم رددته إليها. وكان تلاطم أفكاري يحول دون البيان، فجلست إلى البيانو وعزفت ما شاءت. ولما فرغت التفت إليها وقلت: «حبذا لو أنيل الإنسان قدرة الإفصاح بالنغمات الموسيقية من غير ألفاظ!»
فقالت: «ذلك واقع لا يحتاج إلى التمني. ولقد وعيت كل ما تهمس به هذه الألحان. غير أني لا أستطيع استماع غيرها هذه المرة لأن ضعفي يتزايد يوما فيوما. على الواحد منا أن يقبل بالآخر كما هو على علاته، ولناسكة مسكينة عليلة مثلي أن تتوقع بعض الحلم من صديق مثلك. سنجتمع مساء غد في الساعة نفسها . أليس كذلك؟»
Bog aan la aqoon