مقدمات
خطبة الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب:
﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ "قرآن كريم".
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه، وأفاض لدينا مننه. وأنزل إلينا كتابه الذي فصل آياته فأحكمه وأتقنه، وجعلنا من حملته وخدام شرعه الذي علمنا فروضه وسننه. وخصنا بإرسال أكرم الخلق عليه الذي طهر قلبه وأظهر لُسُنَه. وجعل خير الناس أمته، وخير القرون قرْنه الذي به قرَنه، أبي القاسم، "محمد بن عبد الله" خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، وعلم أوليائه، الذي زان عصره وشرف زمنه، صلوات الله وسلامه عليه، ما قصد شام شامه، وبلغ يمان يمنه. وعلى آله الأبرار الممتثلين أمره والمقتفين سننه، وعلى أصحابه الكرام الذين منهم من أواه ونصره، ومنهم من هجر لأجله أهله وماله ووطنه، وعلى كل من تبعهم بإحسان، في جميع الأزمان، ممن اتخذ طاعة ربه سكنه، ووافق في الصلاح سره علنه، وجعلنا ممن أصغى للمواعظ في الدنيا أذنه، وأذهب عنه في الآخرة حزنه، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
"أما بعد" فإن أولى ما أفنى فيه المكلف عمره، وعلق به خاطره، وأعمل فيه فكره، تحصيل العلوم النافعة الشرعية، واستعمالها في الأعمال المرضية. وأهم ذلك علم كتاب الله تعالى، الذي تولى سبحانه حفظه بفضله، وأعجز الخلائق أن يأتوا بمثله، وجعل ذلك برهانا لتصديق رسالة من أنزل عليه، وأخبر أن الباطل لا يأتيه لا من خلفه ولا من بين يديه. ثم العلوم المتعلقة به كثيرة، وفوائد كل علم منها غزيرة، لكن الأهم أولا إتقان حفظه، وتقويم لفظه، ولا يحصل ذلك إلا بعد الإحاطة بما صح من قراءاته؛ وثبت من رواياته، ليعلم بأي لفظ يقرأ، وعلى أي وجه يروي. والقرآن كلام الله منقول نقل التواتر عن رسول الله ﷺ، الذي أنزل عليه، لم يزل في كل حين وجيل ينقله خلق لا يحصى، ويبحث في ألفاظه ومعانيه ويستقصى، وإنما يعد أهل العلم منهم من كثرت عنايته به، واشتهر عند الناس بسببه.
وذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في أول كتابه في القراءات تسمية من نقل عنهم شيء من وجوه القراءات من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من كبار أئمة المسلمين. فذكر الخلفاء الأربعة، وطلحة وسعدا، وابن مسعود، وحذيفة، وسالما مولى أبي حذيفة، وأبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن
1 / 3
العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وابن الزبير، وعبد الله بن السائب وعائشة، وحفصة وأم سلمة، وهؤلاء كلهم من المهاجرين ﵃ أجمعين.
وذكر من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبا الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبا زيد، ومجمع بن حارثة، وأنس بن مالك.
وعن التابعين بالمدينة: ابن المسيب، وعروة، وسالما، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان، وعطاء ابني يسار، ومعاذ بن الحارث الذي يعرف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وابن شهاب، ومسلم بن جندب، وزيد بن أسلم.
وبمكة عبيد بن عميرة، وعطاء، وطاوسا، ومجاهدا وعكرمة١، وابن أبي مليكة.
وبالكوفة علقمة، والأسود، ومسروقا، وعبيدة، وعمرو بن شرحبيل؛ والحارث بن قيس، والربيع ابن خيثم، وعمرو بن ميمون وأبا عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن نضلة وأبا زرعة بن عمرو ابن جرير، وسعيد بن جبير، والنخعي والشعبي.
وبالبصرة: عامر بن عبد بن قيس، وأبا العالية، وأبا رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر وجابر بن زيد، والحسن، وابن سيرين، وقتادة.
وبالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان بن عفان ﵁ في القراءة.
قال: ثم تجرد قوم للقراءة فاشتدت بها عنايتهم، وكثر لها طلبهم حتى صاروا بذلك أئمة بأخذها الناس عنهم ويقتدون بهم فيها، وهم خمسة عشر رجلا من هذه الأمصار الخمسة في كل مصر ثلاثة رجال. فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع بن أبي نعيم، وإليه صارت قراءة أهل المدينة.
وكان يمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن محيصن، وأقدمهم ابن كثير، وإليه صارت قراءة أهل مكة.
وكان بالكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصم بن بهدلة، وسليمان الأعمش ثم تلاهم حمزة رابعًا، ثم الكسائي.
وكان بالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وابو عمرو بن العلاء، وإليه صار أهل البصرة في القراءة واتخذوه إماما، وكان لهم رابع وهو عاصم الجحدري.
وكان بالشام: عبد الله بن عامر، ويحيى بن الحارث الذماري، وثالث نسيت اسمه.
قلت: قيل هو خليد بن سعد صاحب أبي الدرداء. وعندي أنه عطية بن قيس الكلابي أو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر.
ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا: وخلفهم أمم بعد أمم عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم. فمنهم المحكم للتلاوة المعروف بالرواية والدراية. ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بسبب ذلك الاختلاف، وقل الضبط واتسع الخرق، والتبس الباطل بالحق، فميّز جهابذة العلماء ذلك بتصانيفهم، وحرروه وضبطوه في تآليفهم، وقد أتقن تقسيم ذلك الإمام أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس
_________
١ هو أبو عبد الله بن عبيد الله التميمي، توفي سنة ١١٨.
1 / 4
ابن مجاهد رحمه الله تعالى في أول كتاب السبعة له، ثم قال. والقراءة التي عليها الناس: بالمدينة. ومكة، والكوفة والبصرة، والشام هي القراءة التي تلقوها من أوليهم تلقيا، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين، اجتمعت الخاصة والعامة على قراءته، وسلكوا فيها طريقه. وتمسكوا بمذاهبه على ما روي عن عمر بن الخطاب ﵁، وزيد بن ثابت. ثم عن محمد بن المنكدر، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وعامر الشعبي ﵃، يعني أنهم قالوا: إن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، فاقرءوا كما علمتموه.
قال زيد بن ثابت: القراءة سنة. قال إسماعيل القاضي ﵀: أحسبه، يعني هذه القراءة التي جمعت في المصحف الكريم.
وذكر عن محمد بن سيرين قال: أنبئت أن القرآن كان يعرض على النبي ﷺ كل عام مرة في شهر رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه مرتين. قال ابن سيرين: فيرون أو يرجون أن تكون قراءاتنا هذه أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة.
وعنه عن عبيدة السلماني قال: القراءة التي عرضت على رسول الله ﷺ في العام الذي قبض فيه هي التي يقرؤها الناس اليوم.
قلت: وهذه السنة التي أشاروا إليها هي ما ثبت عن رسول الله ﷺ-نصا، أنه قرأه أو أذن فيه على ما صح عنه أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فلأجل ذلك كثر الاختلاف في القراءة في زمانه بعده إلى أن كتبت المصاحف باتفاق من الصحابة ﵃ بالمدينة. ونفذت إلى الأمصار. وأمروا باتباعها وترك ما عداها، فأخذ الناس بها وتركوا من تلك القراءات كل ما خالفا وبقوا ما يوافقها نصا أو احتمالا، وذلك لأن المصاحف كتبت على اللفظ الذي أنزل، وهو الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة على رسول الله ﷺ-كما عرضها هو على جبريل عليهما الصلاة والسلام، وكل ذلك ثابت في الأحاديث الصحيحة مفرقا في أبوابه، قد وقف على ذلك من له بها عناية.
فمن ذلك ما في الصحيحين من رواية عائشة عن فاطمة عن أبيها ﷺ: "أنه أسر إليها في مرض موته أن جبريل ﵇ كان يعارضني بالقرآني في كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: "كان يعرض على النبي ﷺ القرآن كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه".
وذكر المحققون من أهل العلم بالقراءة ضابطا حسنا في تمييز ما يعتمد عليه من القراءات وما يطرح، فقالوا: كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها، ومجيئها على الفصيح من لغة العرب فهي قراءة صحيحة معتبرة. فإن اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة. أشار إلى ذلك كلام الأئمة المتقدمين، ونص عليه أبو محمد مكي -رحمه الله تعالى- في تصنيف له مرارا، وهو الحق الذي لا محيد عنه على تفصيل فيه، قد ذكرناه في موضع غير هذا.
وقد كثرت تصانيف الأئمة في القراءات المعتبرة والشاذة، ووقع اختيار أكثرهم على الاقتصار على ذكر قراء
1 / 5
سبعة من أئمة الأمصار، وهم الذين أجمع عليهم وإن كان الاختلاف أيضا واقعا فيما نسب إليهم. وأول من فعل ذلك الإمام أبو بكر بن مجاهد قبيل سنة ثلاثمائة أو في نحوها، وتابعه بعد ذلك من أتى بعده وإلى الآن، وكان من كبار أئمة هذا الشأن. وبعضهم صنف في قراءة أكثر من هذا العدد، وبعضهم في أنقص منه.
واختار ابن مجاهد فمن بعده هذا العدد موافقة لقوله ﵊:
"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف".
فإن كان المراد بها غير ذلك على ما ذكرناه في كتاب مفرد لذلك، وتأسيا لمصحف الأئمة التي نفذها الصحابة إلى الأمصار؛ فإنها كانت سبعة على ما نطقت به الأخبار، ووقع اختيارهم من أئمة القراءة على كل مختار.
وتولى شرح كتاب ابن مجاهد في السبعة: أبو علي الفارسي النحوي في كتاب كبير يسمى "الحجة" وقد أوضح فيه المحجة. وكان قد شرع فيه قبله شيخه أبو بكر بن السراج، فسلك أبو علي بعده ذلك المنهاج وهما من كبار أئمة النحويين المحققين المتقنين. ثم شرح كتاب ابن مجاهد في القراءات الشواذ أبو الفتح بن جني صاحب الشيخ أبي علي في كتاب سماه بـ "المحتسب" وأتى فيه بكل عجب.
فصل في ذكر القراء السبعة: في ذكر القراء السبعة الذين اختار ابن مجاهد قراءتهم، واشتهر ذكرهم في الآفاق: ومعظم المصنفين في القراءات يذكرونهم في أوائل كتبهم، مع طرف من أخبارهم، مختلفين في ترتيبهم. ونحن نذكرهم بطريق الاختصار على الترتيب الذي ألفناه بهذه الديار: الأول الإمام أبو عبد الرحمن نافع بن أبي نعيم المدني ﵀، وبه بدأ ابن مجاهد؛ قرأ على سبعين من التابعين. وقال فيه مالك بن أنس الإمام، وصاحبه عبد الله بن وهب: قراءة نافع سنة. وقال الليث بن سعد إمام أهل مصر: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة، وإمام الناس في القراءة يومئذ نافع بن أبي نعيم. وقال: أدركت أهل المدينة وهم يقولون: قراءة نافع سنة. وقال ابن أبي أويس: قال لي مالك: قرأت على نافع. الثاني: أبو معبد عبد الله بن كثير المكي ﵀: قرأ على مجاهد وغيره من التابعين، وقيل إنه قرأ عبد الله بن السائب المخزومي، وله صحبة. وقرأ عليه جماعة من أئمة أهل البصرة مع جلالتهم: كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل بن أحمد، وحماد، وحماد بن أبي سلمة، وابن زيد، وحديثه مخرج في الصحيحين. ونقل الإمام أبو عبد الله الشافعي قراءته، وأثنى عليها، وقرأ على صاحبه إسماعيل بن قسطنيطين قارئ أهل مكة، وقال: قراءتنا قراءة عبد الله بن كثير، وعليها وجدت أهل مكة، من أراد التمام فليقرأ لابن كثير: الثالث: أبو عمرو بن العلاء البصري، رحمه الله تعالى. أغزرهم علما وأثقبهم فهما. قرأ على جماعة جلة من التابعين، من أهل الحجاز والعراق، كمجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ويحيى بن يعمر، وأبي العالية. واشتهرت قراءته في البلاد، وأخبر مثل سفيان بن عيينة قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام فقلت: يا رسول الله قد اختلفت علي القراءات، فبقراءة من تأمرني أن أقرأ؟ قال: "اقرأ بقراءة أبي عمرو
فصل في ذكر القراء السبعة: في ذكر القراء السبعة الذين اختار ابن مجاهد قراءتهم، واشتهر ذكرهم في الآفاق: ومعظم المصنفين في القراءات يذكرونهم في أوائل كتبهم، مع طرف من أخبارهم، مختلفين في ترتيبهم. ونحن نذكرهم بطريق الاختصار على الترتيب الذي ألفناه بهذه الديار: الأول الإمام أبو عبد الرحمن نافع بن أبي نعيم المدني ﵀، وبه بدأ ابن مجاهد؛ قرأ على سبعين من التابعين. وقال فيه مالك بن أنس الإمام، وصاحبه عبد الله بن وهب: قراءة نافع سنة. وقال الليث بن سعد إمام أهل مصر: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة، وإمام الناس في القراءة يومئذ نافع بن أبي نعيم. وقال: أدركت أهل المدينة وهم يقولون: قراءة نافع سنة. وقال ابن أبي أويس: قال لي مالك: قرأت على نافع. الثاني: أبو معبد عبد الله بن كثير المكي ﵀: قرأ على مجاهد وغيره من التابعين، وقيل إنه قرأ عبد الله بن السائب المخزومي، وله صحبة. وقرأ عليه جماعة من أئمة أهل البصرة مع جلالتهم: كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل بن أحمد، وحماد، وحماد بن أبي سلمة، وابن زيد، وحديثه مخرج في الصحيحين. ونقل الإمام أبو عبد الله الشافعي قراءته، وأثنى عليها، وقرأ على صاحبه إسماعيل بن قسطنيطين قارئ أهل مكة، وقال: قراءتنا قراءة عبد الله بن كثير، وعليها وجدت أهل مكة، من أراد التمام فليقرأ لابن كثير: الثالث: أبو عمرو بن العلاء البصري، رحمه الله تعالى. أغزرهم علما وأثقبهم فهما. قرأ على جماعة جلة من التابعين، من أهل الحجاز والعراق، كمجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ويحيى بن يعمر، وأبي العالية. واشتهرت قراءته في البلاد، وأخبر مثل سفيان بن عيينة قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام فقلت: يا رسول الله قد اختلفت علي القراءات، فبقراءة من تأمرني أن أقرأ؟ قال: "اقرأ بقراءة أبي عمرو
1 / 6
ابن العلاء". وقال أحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه: قراءة أبي عمرو أحب القراءات إلي، هي قراءة قريش، وقراءة الفصحاء.
الرابع: أبو عمران: عبد الله بن عامر الدمشقي رحمه الله تعالى، هو أسن القراء السبعة وأعلاهم إسنادا: قرأ على جماعة من الصحابة: حتى قيل إنه قرأ على عثمان بن عفان ﵁، وأنه ولد في حياة النبي ﷺ. وممن قرأ هو عليه من الصحابة: معاوية، وفضالة بن عبيد، وواثلة بن الأسقع، وأبو الدرداء ﵃. فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر وقام مقامه، واتخذه أهل الشام إماما، وحديثه مخرج في صحيح مسلم. ومن رواته الآخذين عن أصحاب أصحابه: هشام بن عمار أحد شيوخ أبي عبد الله البخاري ﵏.
الخامس: أبو بكر عاصم بن أبي النجود الكوفي ﵀. قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وكانا من أصحاب عثمان، وعلى، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ﵃ على تفصيل في ذلك.
وجلس عاصم للإقراء بعد وفاة أبي عبد الرحمن. وروى عنه الحديث والقرآن قبل سنة مائة. وكانت قراءته عندهم جليلة خطيرة مختارة. وقال صالح بن أحمد بن حنبل: سألت أبي: أي القراءات أحب إليك؟ قال: قراءة نافع. قلت: فإن لم توجد. قال: قراءة عاصم. وفي رواية أخرى قال: أهل الكوفة يختارون قراءته وأنا أختارها.
السادس: أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات ﵀، من رجال صحيح مسلم، وهو إمام أهل الكوفة بعد عاصم: قرأ عليه جماعة من أئمة أهل الكوفة وأثنوا عليه في زهده وورعه، منهم سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله، وشعيب بن حرب، وعل بن صالح، وجرير بن عبد الحميد، ووكيع وغيرهم. ولم يوصف أحد من السبعة القراء بما وصف به حمزة من الزهد والتحرز عن أخذ الأجر على القرآن، حتى إن جرير بن عبد الحميد قال: مر بي حمزة الزيات في يوم شديد الحر، فعرضت عليه الماء؛ ليشرب فأبى؛ لأني كنت أقرأ عليه القرآن.
السابع: أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي إمام نحاة الكوفة عنه أخذ القراء وغيرهم، وانتهت إليه الرياسة في القراءة بعد حمزة، وبلغ عند هارون الرشيد منزلة عظيمة: وكان الناس يأخذون عنه ألفاظه بقراءته عليهم، وينقطون مصاحفهم بقراءته. وقال الإمام الشافعي ﵁: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي. وقال إسماعيل بن جعفر المدني، وهو من كبار أصحاب نافع: ما رأيت أقرأ لكتاب الله من الكسائي. ورؤي ﵀ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وفي رواية: رحمني ربي بالقرآن، وفي رواية: إلى ماذا صرت؟ قال: إلى الجنة، قيل له: ما فعل حمزة الزيات، وسفيان الثوري؟ قال: فوقنا، ما نراهم إلا كالكوكب الدري. وفي أخرى قال: غفر لي وأكرمني، وجمع بيني وبين النبي محمد ﷺ، فقال: ألست عليَّ بن حمزة الكسائي؟ فقلت: نعم١، فقال: اقرأ، فقرأت:
﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا﴾ حتى بلغت ﴿شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ ٢.
فقال لي: لأباهين بك الأمم يوم القيامة. فهؤلاء هم السبعة القراء الذي أطبق عليهم أهل الأداء.
_________
١ فقلت: نعم: الصواب أن يقال بلى.
٢ سورة الصافات، آية: ١، آية: ١٠ الصافات أيضا.
1 / 7
وقد كثرت التصانيف بعد ابن مجاهد في ذكر قراءتهم، وهي من بين مصنف وجيز، وكتاب مطول، يجمع طرفهم وأخبارهم ورواياتهم، وآل الأمر إلى أن صنف كتاب التيسير لأبي عمرو الداني ﵀ فاعتمد عليه، وصرفت العناية إليه؛ لما فيه من التنقيح والاختيار والتحرير والاختصار.
ثم إن الله تعالى سهل هذا العلم على طالبيه بما نظمه الشيخ الإمام العالم الزاهد أبو القاسم الشاطبي ﵀ من قصيدته المشهورة المنعوتة بحرز الأماني، التي نبغت في آخر الدهر أعجوبة لأهل العصر، فنبذ الناس سواها من مصنفات القراءات، وأقبلوا عليها لما حوت من ضبط المشكلات وتقييد المهملات، مع صغر الحجم وكثرة العلم، وإنما شهرها بين الناس شرحها؛ وبين معانيها وأوضحها، ونبه على قدر ناظمها، وعرف بحال عالمها، شيخنا الإمام العلامة علم الدين، بقية مشايخ المسلمين، أبو الحسن على بن محمد هذا الذي ختم به الله العلم مع علو المنزلة في الثقة والفهم، جزاه الله عنا أفضل الجزاء، وجمع بيننا وبينه في دار النعيم والبقاء. فلما تبين أمرها وظهر سرها تعاطى جماعة شرحها، ولم ينصفوا من أباحهم سرحها، ورقاهم صرحها، وهي أول مصنف وجيز حفظته بعد الكتاب العزيز، وذلك قبل بلوغ الحلم وجريان القلم، ولم أزل من ذلك الزمان إلى الآن طالبا إتقان باب، ومن معانيها ما لم يكن في حساب. وكنت سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن محمد المذكور، يحكي عن ناظمها شيخه الشاطبي رحمها الله مرارا أنه قال كلاما ما معناه: لو كان في أصحابي خير أو بركة لاستنبطوا من هذه القصيدة معاني لم تخطر لي.
ثم إني رأيت الشيخ الشاطبي ﵀ في المنام وقلت له: يا سيدي حكى لنا عنك الشيخ أبو الحسن السخاوي أنك قلت كيت وكيت، فقال: "صدق". وحكى لنا بعض أصحابنا أنه سمع بعض الشيوخ المعاصرين للشاطبي يقول: لمته في نظمه لها لقصور الأفهام عن دركها فقال لي: "يا سيدي هذه يقيض الله لها فتى يبينها" أو كما قال، قال: فلما رأيت السخاوي قد شرحها علمت أنه ذلك الفتى الذي أشار إليه.
قلت: ثم إن الله تعالى فتح على من مراجعته وبركات محاضرته معاني لم يودعها كتابه ولم يعرفها أصحابه، فأردت تدوينها مع استقصاء شرح للأبيات معنى ولفظا، وذكر ما يتعلق بها مما رأيت لها منه قسما وحظا، فابتدأت ذلك في كتاب كبير بلغت فيه "باب الهمزتين من كلمة" في نحو مجلدة بخطي محكمة، ثم إني فكرت في قصور الهمم، وتغيير الشيم وطولبت بتتميمه فاستقصرت العمر عن تلك الهمة مع ما أنا بصدده من تصانيف مهمة، فشرعت في اختصار ذلك الطويل واقتصرت مما فيه على القليل، فلا تهملوا أمره لكونه صغيرًا حجما، فإنه كما قيل: كنيف ملئ علما، وسميته:
مقدمة القصيدة مدخل ... مقدمة القصيدة: "إبراز المعاني من حرز الأماني": وقد أخبرني بهذه القصيدة عن ناظمها جماعة من أصحابه، وقرأتها على شيخنا أبي الحسن المذكور مرارا، وأخبرني أنه قرأها على ناظمها غير مرة، ومات ﵀ سنة تسعين وخمسمائة في جمادى الآخرة، ومولده في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فيكون عمره أقل من اثنتين وخمسين سنة.
مقدمة القصيدة مدخل ... مقدمة القصيدة: "إبراز المعاني من حرز الأماني": وقد أخبرني بهذه القصيدة عن ناظمها جماعة من أصحابه، وقرأتها على شيخنا أبي الحسن المذكور مرارا، وأخبرني أنه قرأها على ناظمها غير مرة، ومات ﵀ سنة تسعين وخمسمائة في جمادى الآخرة، ومولده في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فيكون عمره أقل من اثنتين وخمسين سنة.
1 / 8
قال -تغمده الله برحمته وجمع بيننا وبينه في جنته:
١-
بَدَأْتُ بِبِسْمِ اْللهُ فيِ النَّظْمِ أوَّلاَ ... تَبَارَكَ رَحْمَانًا رَحِيمًا وَمَوْئِلاَ
أي: قدمت لفظ: بسم الله الرحمن الرحيم في أول نظمي هذا يقال بدأت بكذا إذا قدمته فالباء الأولى لتعدية الفعل والثانية هي التي في أول البسملة: أي بدأت بهذا اللفظ. والنظم الجمع ثم غلب على جمع الكلمات التي انتظمت شعرا فهو بمعنى منظوم أو مصدر بحاله؛ واللام في النظم للعهد المعلوم من جهة القرينة وهي قائمة مقام الإضافة كقوله تعالى:
﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ ١.
أي أدنى أرض العرب أي في نظمي نزله منزلة المعروف المشهور تفاؤلا له بذلك أو أراد في هذا النظم نزله منزلة الموجود الحاضر فأشار إليه كقوله تعالى:
﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ ٢.
أو يكون المصدر في موضع الحال أي منظوما وأولا نعت مصدر محذوف أي في أن نظمت نظما أول أي أنه مبتكر لم يسبق إليه وهو نظم قصيدة على روي واحد في مذاهب القراء السبعة موجزة بسبب ما اشتملت عليه من الرموز وقد تشبه به قوم في زماننا، فمنهم من سلك مسلكه مختصرا لها ومنهم من غير الرموز بغيرها ومنهم من نظم في مذاهب القراء العشرة، زاد رواية أبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وخلف البزار فيما اختار والفضل للمتقدم الذي هو أتقى وأعلم فالألف في قوله أولا على هذا الوجه للإطلاق؛ لأنه غير منصرف، ويجوز أن تكون الألف بدلا من التنوين على أن يكون أولا ظرف زمان عامله بدأت أو النظم أي بدأت في أول نظمي "بسم الله" أو بدأت بسم الله في نظمي الواقع أولا فهو كقول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا٣
والبركة كثرة الخير وزيادته واتساعه وشيء مبارك أي زائد نامٍ وما لا يتحقق فيه ذلك يقدر في لازمه وما يتعلق به كقوله تعالى:
﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ ٤، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ ٥.
أي كثير خير ذلك وما يتعلق به من الأجر وتبارك تفاعل منه كتعاظم من العظمة وتعالى من العلو، وقيل إنه فعل لم يتصرف أصلا لا يقال يتبارك وغيره، ثم كمل لفظ البسملة بقوله رحمانا رحيما وزاد قوله وموئلا وهذا المعنى زاد دخول الواو فيها حسنا والموئل. المرجع والملجأ وهو وإن لم يكن لفظه ثابت الإطلاق على الله تعالى من حيث النقل فمعناه ثابت نحو:
﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ ٦، ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ ٧.
_________
١ سورة الروم، آية: ٣.
٢ سورة القصص، آية: ١٥.
٣ البيت ليزيد بن الصعق لا كما نسب إلى عبد الله بن يعرب، وأتى الشارح بصدره مستشهدا به وتمامه:
أكاد أغص بالماء الفرات
والصواب: الحميم.
٤ الأنبياء، آية: ٥٠.
٥ سورة الدخان آية: ٣.
٦ سورة يونس، آية: ٤.
٧ سورة فاطر، آية: ١٨.
1 / 9
وانتصاب الثلاثة على التمييز أو الحال: أي تبارك من رحمن رحيم أو في حال كونه كذلك أو يكنَّ منصوبات على المدح وتم الكلام على تبارك، وهذا نحو قولهم: الحمد لله الحميد ويتعلق بهذا البيت أبحاث كثيرة ذكرناها في الكبير واستوفينا ما يتعلق بشرح البسملة في كتاب مفرد وغيره والله أعلم:
٢-
وَثَنَّيْتُ صَلَّى اللهُ رَبِّي عَلَى الِرَّضَا ... مُحَمَّدٍ الْمُهْدى إلَى النَّاسِ مُرْسَلاَ
أي ثنيت بصلى الله أي بهذا اللفظ كما قال بدأت ببسم الله أو على إضمار القول أي بقولي صلى الله أو ثنيت بالصلاة فقلت صلى الله فموضع صلى الله نصب على إسقاط الخافض في الوجه الأول وعلى أنه مفعول مطلق أو مفعول به إن قلنا إنه على إضمار القول وصلى الله لفظه خبر معناه دعاء والرضى بمعنى ذي الرضى أي الراضي من قوله تعالى:
﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ ١.
أو المرضي أي الذي ارتضاه الله تعالى أو الذي يرضيه يوم القيامة أي يعطيه ما يرضيه من الشفاعة وغيرها فيرضى، وقرئ قوله تعالى في آخر طه:
"لعلك تَُرضى"٢.
بفتح التاء وضمها جمعا بين المعنيين وقوله محمد بدل أو عطف بيان والمهدَى اسم مفعول من أهديت الشيء فهو مهدَى؛ لأن الله تعالى أهداه إلى خلقه تحفة لهم فأنقذ به من أسعده من النار وأدخله الجنة مع الأبرار، وعن الأعمش عن أبي صالح قال: كان النبي رسول الله ﷺ يناديهم:
"يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة".
أخرجه أبو محمد الدارمي في مسنده هكذا منقطعا، وروي موصولا بذكر أبي هريرة فيه وفي معناه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ ٣.
ومرسلا حال من الضمير في المهدَى، ويجوز أن يكون تمييزا كما سبق في تبارك رحمانا أي المهدى إرساله والله أعلم:
٣-
وَعِتْرَتِهِ ثُمَ الصَّحَابَةِ ثُمّ مَنْ ... تَلاَهُمْ عَلَى اْلأِحْسَانِ بِالخَيْرِ وُبَّلاَ
سئل مالك بن أنس ﵀ عن عترة رسول الله ﷺ فقال: هم أهله الأدنن وعشيرته الأقربون، وقال الجوهري: عترة الإنسان نسله ورهطه الأدنون.
قلت: وهو معنى قول الليث: عترة الرجل أولياؤه يعني الذين ينصرونه ويهتمون لأمره ويعنون بشأنه
_________
١ سورة الضحى، آية: ٤.
٢ سورة طه، آية: ١٣٠.
٣ سورة الأنبياء، آية: ١٠٧.
1 / 10
وليس مراد الناظم بالعترة جمع من يقع عليه هذا الاسم من عشيرة النبي ﷺ وإنما مراده المؤمنون منهم وهم الذين جاء فيهم الحديث: "وإني تارك فيكم ثقلين: كتاب الله وعترتي" وفي رواية موضع عترتي: "وأهل بيتي".
وكأن ذلك تفسير للعترة وأهل بيته: هم آله من أزواجه وأقاربه، وقد صح: أن النبي ﷺ سئل عن كيفية الصلاة عليه فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" وفي رواية: "على محمد وعلى أزواجه وذريته".
فكأنه فسر الآل بما في الحديث الآخر، فلهذا لما صلى على النبي صلى على عترته ثم على الصحابة وإن كان بعضهم داخلا في العترة؛ ليعم الجميع ثم على التابعين لهم بإحسان، ومعنى "تلاهم" تبعهم وقوله: "على الإحسان" أي على طلب الإحسان أو على طريقة الإحسان أو على ما فيهم من الإحسان أو يكون على بمعنى الباء كما يأتي في قوله: "وليس على قرآنه متأكلا" وفي تلا ضمير مفرد مرفوع مستتر عائد على لفظ من، و"وبلا" جمع وابل وهو المطر الغزير وأصله الصفة ولذلك جمع على فعل كشاهد وشهد وهو منصوب على الحال من أحد الضميرين في تلاهم: إما المرفوع العائد على التابعين وإما المنصوب العائد على الصحابة أي مشبهين الوبل في كثرة خيرهم أو يكون حالا منهما معا كقوله: لقيته راكبين فإن كان حالا من المرفوع المفرد فوجه جمعه حمله على معنى من وبالخير متعلق بوبلا من حيث معناه أي جائدين بالخير، ويجوز أن يتعلق بتلا أي تبعوهم بالخير على ما فيهم من الإحسان وإن جعلنا على بمعنى الباء كان قوله بالخير على هذا التقدير كالتأكيد له والتفسير والله أعلم:
٤-
وَثَلَّثْتُ أنَّ اْلَحَمْدَ لِلهِ دائِمًا ... وَمَا لَيْسَ مَبْدُوءًا بِهِ أجْذَمُ الْعَلاَ
وثلثت مثل ثنيت في أنه فعل يتعدى بحرف الجر فيجوز في أن بعدها الفتح والكسر فالفتح على تقدير بأن الحمد والكسر على معنى فقلت: إن الحمد لله ودائما بمعنى ثابتا وهو حال من الحمد أو من اسم الله أو نعت مصدر محذوف أي حمدا مستمرا وما مبتدأ وهي موصولة وليس مبدوءا به صلتها واسم ليس ضمير مستتر يعود على ما ومبدوءا خبرها والهاء في به عائدة على الحمد أو على اسم الله تعالى على تقدير بذكره أو باسمه وبه منصوب المحل بمبدوء أو مرفوع مبدوء ضمير عائد على ما أي وكل كلام ليس ذلك الكلام مبدوءا بالحمد "أجذم العلا" أي مقطوع الأعلى أي ناقص الفضل فأجذم خبر المبتدأ الذي هو ما والجزم أصله القطع والعلاء بفتح العين يلزمه المد وهو الرفعة والشرف وأتي به في قافية البيت على لفظ المقصور وليس هو من باب قصر الممدود الذي لا يجوز إلا في ضرورة الشعر بل يمكن حمله على وجه آخر سائغ في كل كلام نثرا كان أو نظما وذلك أنه لما وقف أسكن الهمزة ثم إنه قلبها ألفا فاجتمع ألفان فحذف أحدهما كما يأتي في باب وقف حمزة وهشام على نحو السماء والدعاء وهكذا نقول في كل ما ورد في هذه القصيدة من هذا الباب في قوافيها كقوله: "فتى العلا" "أحاط به الولا" "فتنجو من البلا" "وإن افتحوا الجلا" "بعد على الولا" "عن جلا" ... أما ما يأتي في حشو الأبيات كقوله: وحق لوى باعد ومالي سما لوى ويا خمس أجرى ... فلا وجه لذلك إلا أنه من باب قصر الممدود ثم يجوز في موضع العلا أن يكون مرفوعا ومنصوبا ومجرورا؛ لأن أجذم العلا من باب حسن الوجه فهو كما في بيت النابغة:
1 / 11
أجب الظهر ليس له سنام١
يروى الظهر بالحركات الثلاث وأشار بما في عجز هذا البيت إلى حديث خرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم".
قال الخطابي: معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له، قلت: وروي هذا الحديث مرسلا وروي: "أقطع" موضع: "أجذم" وروي: "لم يبدأ فيه بذكر الله ... ".
فتكون البسملة على هذا إذا اقتصر عليها مخرجة من عهدة العمل بهذا الحديث ولو أن الناظم ﵀ قال: وثنيت أن الحمد وثلثت: صلى الله لكان أولى تقديما لذكر الله تعالى على ذكر رسوله الله ﷺ، ووجه ما ذكر أنه أراد أن يختم خطبته بالحمدلة فإن ذكر الله تعالى قد سبق بالبسملة فهو كقوله سبحانه في آخر سورة والصافات:
_________
١ وقبله قوله:
وتمسك بعده بذئاب عيس
بعض ما جاء في ذكر القرآن العزيز وفصل قراءته ... بعض ما جاء في ذكر القرآن العزيز وفضل قراءته: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ١ والله أعلم. ٥- وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللهِ فِينَا كِتَابُهُ ... فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ الْعِدَا مُتَحَبِّلاَ أي وبعد هذه الخطبة أذكر بعض ما جاء في فضائل القرآن العزيز وفضل قرائه "وحبل الله: مبتدأ، وفينا: متعلق به من حيث المعنى على ما نفسر به الحبل أو يكون صلة لموصول محذوف أي الذي فينا وكتابه خبر فحبل، ويجوز أن يكون فينا هو الخبر وكتابه خبر مبتدأ محذوف أي هو كتابه والفاء في فحبل رابطة للكلام بما قبله ومانعة من توهم إضافة بعد إلى حبل والعرب تستعير لفظ الحبل في العهد والوصلة والمودة وانقطاعه في نقيض ذلك، فلذلك استعير للقرآن العزيز لأنه؛ وصلة بين الله تعالى وبين خلقه من تمسك به وصل إلى دار كرامته، وجاء عن ابن مسعود ﵁ وغيره في تفسير قوله ﷿: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ ٢. أنه القرآن، وفي كتاب الترمذي من حديث الحارث الأعور عن علي ﵁ في حديث طويل في وصف القرآن قال: "هو حبل الله المتين". وفي كتاب أبي بكر بن أبي شيبة في ثواب القرآن عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: "كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض". _________ ١ وقبله قوله: وتمسك بعده بذئاب عيس ٢ سورة الصافات، آخر آية. ٣ سورة آل عمران، آية: ١٠٣.
بعض ما جاء في ذكر القرآن العزيز وفصل قراءته ... بعض ما جاء في ذكر القرآن العزيز وفضل قراءته: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ١ والله أعلم. ٥- وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللهِ فِينَا كِتَابُهُ ... فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ الْعِدَا مُتَحَبِّلاَ أي وبعد هذه الخطبة أذكر بعض ما جاء في فضائل القرآن العزيز وفضل قرائه "وحبل الله: مبتدأ، وفينا: متعلق به من حيث المعنى على ما نفسر به الحبل أو يكون صلة لموصول محذوف أي الذي فينا وكتابه خبر فحبل، ويجوز أن يكون فينا هو الخبر وكتابه خبر مبتدأ محذوف أي هو كتابه والفاء في فحبل رابطة للكلام بما قبله ومانعة من توهم إضافة بعد إلى حبل والعرب تستعير لفظ الحبل في العهد والوصلة والمودة وانقطاعه في نقيض ذلك، فلذلك استعير للقرآن العزيز لأنه؛ وصلة بين الله تعالى وبين خلقه من تمسك به وصل إلى دار كرامته، وجاء عن ابن مسعود ﵁ وغيره في تفسير قوله ﷿: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ ٢. أنه القرآن، وفي كتاب الترمذي من حديث الحارث الأعور عن علي ﵁ في حديث طويل في وصف القرآن قال: "هو حبل الله المتين". وفي كتاب أبي بكر بن أبي شيبة في ثواب القرآن عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: "كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض". _________ ١ وقبله قوله: وتمسك بعده بذئاب عيس ٢ سورة الصافات، آخر آية. ٣ سورة آل عمران، آية: ١٠٣.
1 / 12
وفيه عن ابن شريح الخزاعي أن النبي ﷺ قال: "إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به".
وقوله: ﴿فَجَاهِدْ بِهِ﴾ أي بالقرآن العزيز كما قال تعالى: ﴿فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ ١.
أي بحججه وأدلته وبراهينه والحبل بكسر الحاء الداهية ومتحبلا حال من فاعل فجاهد يقال تحبل الصيد إذا أخذه بالحبالة وهي الشبكة واستعمل التجانس في هذا البيت والذي بعده وهو مما يعد من الفصاحة في الشعر وغيره:
٦-
وَأَخْلِقْ بهِ إذْ لَيْسَ يَخْلُقُ جِدَّةً ... جَدِيدًا مُوَاليهِ عَلَى الْجِدِّ مُقْبِلاَ
أخلق به تعجب أي ما أخلقه بالمجاهدة به أي ما أحقه بذلك يقال هو خليق بكذا أي حقيق به وإذ هنا تعليل مثلها في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ﴾ ٢.
ويقال: أخلق الثوب خلق إذا بلى وجدّة تمييز وهي ضد البلى يستعار ذلك للقرآن العزيز لما جاء في الحديث عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا: "إن هذا القرآن حبل الله لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد". أخرجه الحافظ البيهقي في كتاب المدخل أي لا يحدث له البلى ناشئا عن كثرة ترداده وتكراره ومرور الزمان عليه وجديدا فعيل من الجد بفتح الجيم وهو العظمة والعزة والشرف وانتصابه على الحال من ضمير يخلق العائد على القرآن العزيز أو على المدح ومواليه بمعنى مصافيه وملازمه العامل بما فيه وهو مبتدأ وعلى الجد خبره فهي جملة مستأنفة أي حصل على الجد واستقر عليه والجد بكسر الجيم ضد الهزل ومقبلا حال من الضمير المقدر في الخبر الراجع على مواليه أي استقر على الجد في حال إقباله عليه واحتفاله به عملا وعلما يشير إلى ما كان الأولون عليه من الاهتمام به، ويجوز أن يكون مواليه فاعل جديدا فيكون بمعنى جديدا له وإن كان حالا من القرآن العزيز لفظا نحو رأيت زيدا كريما غلامه وعلى هذا يكون في على الجد ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون حالا ومقبلا حال بعد حال:
والثاني: أن يكون معمول مقبلا قدم عليه:
والثالث: أن يكون معمول مواليه أي للذي والاه على الجد حصل له العز والشرف وعند هذا يجوز أن يكون الجد ههنا من الجد في الأمر وهو الاجتهاد فيه وهو يئول إلى ضد الهزل، والله أعلم:
٧-
وَقَارِئُهُ الْمَرْضِيُّ قَرَّ مِثَالُهُ ... كاَلاتْرُجّ حَالَيْهِ مُرِيحًا وَمُوكَلاَ
نظم في هذا البيت ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ
_________
١ سورة الفرقان، آية: ٥٢.
٢ سورة الزخرف، آية: ٣٩.
1 / 13
"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب" ... الحديث.
فقوله: "وقارئه" مبتدأ والمرضي صفته وأراد به تفسير المؤمن المذكور في هذا الحديث لأنه ليس المراد به أصل الإيمان بل أصله ووصفه، وفي كتاب الترمذي من حديث صهيب ﵁ عن النبي ﷺ: "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه".
والجملة من قوله: "قر مثاله" هي خبر المبتدأ وقر بمعنى استقر أي استقر مثاله مشابها للأترج ويجوز أن يكون المرضي خبر المبتدأ أي لا يعد قارئا للقرآن إلا من كان مرضي الطريقة ثم استأنف جملة فعلية فقال قر مثاله كالأترج ويجوز أن يكون قر وحده هو خبر المبتدأ وفيه ضمير عائد على القارئ: أي قرت عينه أو استقر أمره بنيل درجات الأبرار ثم استأنف جملة اسمية بقوله: مثاله كالأترج فقوله: كالأترج خبر مثاله وعلى هذا يجوز أن يكون قر دعاء كما تقول زيد العاقل أقر الله عينه، والأترج بتشديد الجيم والأترنج بالنون لغتان، وكلاهما مستقيم في وزن البيت وإنما اختار لغة التشديد للفظ الحديث وحاليه بدل اشتمال من الأترج، ومريحا وموكلا حالان من الأترج يقال أراح الطيب: إذا أعطى الرائحة وآكل الزرع وغيره: إذا أطعم والله أعلم.
٨-
هُوَ الْمُرْتَضَى أَمًّا إِذَا كَانَ أُمَّهً ... وَيَمَّمَهُ ظِلُّ الرَّزَانَةِ قَنْقَلاَ
فسر بهذا البيت ما عناه بقوله المرضي فقوله: هو ضمير القارئ المرضي أو ضمير القارئ مع الإعراض عن وصفه بالمرضي؛ لأنه أغنى عنه قوله: المرتضى أما ... إلى آخر البيت، ويجوز أن يكون هو المرتضى خبر قوله: وقارئه المرضي وما بينهما من قوله قر مثاله خر البيت اعتراض وإما تمييز ومعناه القصد أي هو المرتضى قصده تيمنا به وانتفاعا بعلمه وكان بمعنى صار ويقال للرجل الجامع للخير أمة كأنه قام مقام جماعات؛ لأنه اجتمع فيه ما تفرق فيهم من المصالح ومنه قوله تعالى:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ ١.
وقوله: ويممه أي قصده والرزانة الوقار وقد رزن الرجل بالضم فهو رزين أي وقور ثابت، واستعار للرزانة ظلا إشارة إلى شمول الوقار له واستراحته في ظله وأمنه من تخليط الناقص من عقله وجعل الرزانة هي التي تقصده كأنها تفتخر به وتتزين بأن تظله لكثرة خلال الخير فيه مبالغة في مدحه، وفي الحديث عن أنس بن مالك ﵁ قال قال رسول ﷺ: "من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت".
وعن عبد الملك بن عمير قال: كان يقال: إن أبقى الناس عقولا قراء القرآن وقنقلا حال من ظل الرزانة: أي مشبها قنقلا وكذا يقدر في ما جاء مثله مما هو منصوب على الحال وليس بمشتق كقوله: وانقاد معناه يعملا والقنقل: المكيال الضخم وكان لكسرى تاج يسمى القنقل والقنقل أيضا: الكثيب من الرمل،
_________
١ سورة النحل، آية: ١٢٠.
1 / 14
يشير إلى عظم الرزانة وتوفرها إن قصد الكثيب أو المكيال وإن قصد التاج قدرت الحال بمتوجا ومن كلامهم جلس فلان وعليه السكينة والوقار، فإن قلت: علام عطف قوله: ويممه؟ قلت: يحتمل وجهين أحدهما أن يكون عطفا على معنى المرتضى: أي هو الذي ارتضى أمة ويممه الوقار فهو من باب قوله تعالى:
﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا﴾ ١.
أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا ويكون مضمون البيت ثناء عليه بأنه مرتضى كامل العقل، والوجه الثاني أن يكون معطوفا على كان أمة أي إذا اتصف بهاتين الصفتين أي أن قارئ القرآن إنما يرتضى للاقتداء به ويقصد للانتفاع به بشرطين وهما أن يكون جامعا للخير وافر العقل والله أعلم.
٩-
هُوَ الْحُرُّ إِنْ كانَ الْحَرِيّ حَوَارِيًا ... لَهُ بِتَحَرّيهِ إلَى أَنْ تَنَبَّلاَ
هو ضمير القارئ المرتضى قصده الذي هو أمة وافر العقل، أو يكون ضمير القارئ مع الإعراض عن تلك الأوصاف؛ لأنه يغني عنها اشتراطها بقوله: إن كان الحري أي إن كان الحري بها ولهذا قال بعضهم: إن إن بمعنى إذ ولو أراد الناظم ذلك لقال إذ وكان تعليلا والوزن موافق له فل حاجة إلى ارتكاب ما لم يثبت لغة وإن ثبت فهو لغة بعيدة ضعيفة، فإن قلنا: هو ضمير القارئ بصفاته فكل بيت كأنه تأكيد لما قبله، وإن قلنا: هو ضمير القارئ مطلقا كان كل بيت مستقلا بالغرض من وصفه بما يستحق به الإمامة والحرية، على أني أقول قوله بتحريه صلة الحري وليس المراد الحري بها بل الحري بالتحري وقوله: حواريا له معترض بينهما والحر الخالص من الرق أي لم تسترقه دنياه ولم يستعبده هواه؛ لأنه لما تحقق بتدبر القرآن وفهم معانيه صغرت في عينه الدنيا وأهلها كقوله تعالى:
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾، ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ٢، ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ ٣، ﴿وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ ٤.
إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى وما أحسن ما قاله الشاطبي ﵀ من قصيدة له:
لمن يترك القراء وردٌ فراته ... ورودا من الدنيا أجاج المشارب
ولو سمع القراء حين اقترائهم ... لفي آل عمران كنوز المطالب
بها ينظر الدنيا بعين احتقارها ... فقيه المعاني غير عاني الذوائب
يعني قوله تعالى:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ إلى قوله ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ ٥
_________
١ سورة الحديد، آية: ١٨.
٢ سورة الحديد، آية: ٢٠.
٣ سورة العنكبوت، آية: ٦٤.
٤ سورة طه، آية: ٣١.
٥ سورة آل عمران، آبة: ١٤.
1 / 15
وما أحلى قوله: "فقيه المعاني" يعني من أعطاه الله فهما وفقها في معاني القرآن العزيز فهذا هو الذي يحتقر الدنيا عند تلاوته لهذه الآية ونظائرها لا الفقيه الذي هو أسير الذوائب المتقيد بلباسه وخدمة أهل الدنيا ففقيه المعاني محرر عن رق الأشياء، ويحتمل قوله: هو الحر معاني أخر ذكرناها في الكبير، والحري بمعنى الحقيق، والحواري: الناصر الخالص في ولائه والياء مشددة خففها ضرورة، والتحري القصد مع فكر وتدبر واجتهاد أي يطلب هو الأحرى، والهاء في له للقرآن العزيز وفي تحريه للقارئ أو للقرآن، وحواريا خبر لكان بعد خبر أو حال من ضمير الحري العائد على القارئ، ويجوز أن يكون بتحريه متعلقا بحواريا أي ناصرا له بالتحري أو تكون الباء للمصاحبة أي مصاحبا للتحري فيه هذا كله على أن يكون التقدير إن كان الحري بالأوصاف السابقة والأولى ألا يتعلق قوله بتحريه بالحري كما سبق، وقوله: إلى أن تنبلا متعلق بالتحري أو بحواريا ومعنى تنبل: مات أو أخذ الأنبل فالأنبل أي انتفى ذلك من المعاني التي تحتملها ألفاظ القرآن.
١٠-
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ ... وَأَغْنى غَنَاءً وَاهِبًا مُتَفَضِّلاَ
هذا حث على التمسك بالقرآن العزيز وتحريه والعمل بما فيه ليكون القرآن العزيز شافعا له كافيه كل ما يحذر واهبا له متفضلا عليه بما يلقاه من ثواب قراءته واعمل به، وفي الصحيح عن أبي أمامة ﵁ قال قال رسول ﷺ: "اقرءوا القرآن فإنه يجيء يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا البقرة وآل عمران؛ فإنهما الزهراون تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما".
وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة ﵁ قال قال ﷺ: "إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ ".
قال: هذا حديث حسن وأوثق من قولهم شيء وثيق أي محكم متين، وقد وثق بالضم وثاقة وإنما وصفه بذلك؛ لأن شفاعته مانعة له من وقوعه في العذاب وشفاعة غيره مخرجة له منه، بعد وقوعه فيه والغناء بالفتح والمد الكفاية وفعله أفعل كقوله تعالى:
﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ ١.
فقوله: "وأغنى غنا" أي وأكفى كفاية أي كفاية القرآن العزيز أتم من كفاية غيره فأغنى في هذا البيت ليس فعلا ماضيا ولكنه أفعل التفضيل وبناؤه من غير الثلاثي المجرد شاذ، والقياس أن يقال: أشد غناء أو أتم غناء أو نحو ذلك، ويجوز أن يقال: هو من غني، إذا استغنى، أو من غني بالمكان: إذا أقام به فمعناه على الأول أنه غني من كفاية ما يحذر حامله مليء بها واسع جوده، وعلى الثاني أنه دائم الكفاية مقيم عليها لا يسأم منها ولا يمل، ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل غناء على الوجهين أي وأغنى ذي غناء؛ لأن المراد أن القرآن أثرى ذوي الكفايات وأدومهم عليها، ولك أن تقدر مثل ذلك في الوجه الذي بدأنا به أي والقرآن أكفى ذوي الكفايات
_________
١ سورة الحاقة، آية: ٢٨.
1 / 16
وتلخيص اللفظ على الأوجه الثلاثة أن نقول التقدير وأغنى مغنٍ والمغني الكافي ولا يتغير معناه عن ذلك في الوجوه كلها وإنما المعاني الثلاثة في لفظ أغنى ولولا تقدير المضاف المحذوف للزم نصب غناء؛ لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما أفعل بعضه والقرآن ليس بعض الكفاية فيجب النصب كقولك هو أفره عبدا بالنصب إذا كانت الرفاهية في العبد وهو ليس بعبد وواهيا ومتفضلا حالان من الضمير في أغنى العائد على كتاب الله تعالى، وقيل النصب على التمييز كقولك هو أغناهم أبا وقيل إن قلنا إن أغنى بمعنى أثرى فالنصب على التمييز وإن قلنا بالوجهين الآخرين فالنصب على الحال، وقد بينا فساد هذين القولين١ في الكتاب الكبير والله أعلم.
١١-
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ ... وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلًا
"وخير" مثل قوله: وأغنى كلاهما معطوف على أوثق، ولا يمل حديثه صفة خير أو جليس أو هو خبر بعد خبر؛ لأن كل قول مكرر مملول إلا القرآن العزيز؛ فإنه كلما كرر حلا واقتبس من فوائده ما لا يدخل تحت الحصر وأجر على تلاوته بكل حرف عشر حسنات فهو خير جليس وكيف يمل حديثه وهو أحسن الحديث كما قال سبحانه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ ٢.
وقال النبي ﷺ: "مثل صاحب القرآن مثل جراب مملوء مسكًا يفوح به كل مكان".
فأي جليس أفضل منه؟ والترداد بفتح التاء: مصدر ردده ترديدا وتردادا والهاء المتصلة به تعود على القارئ أو على القرآن العزيز؛ لأن المصدر يجوز إضافته إلى افاعل وإلى المفعول فهو كما سبق في قوله بتحريه والضمير المستكن في يزداد يحتمل الأمرين، والهاء في فيه عائدة على الترداد وفيه بمعنى به أي يزداد القرآن بالترداد تجملا لما يظهر من تلاوته ونوره وحلاوته وفصاحته أو يزداد القارئ بالترداد تجملا لما يقتبس من فوائده وآدابه وجزيل ثوابه، ويجوز أن يكون الضمير في يزداد للترداد وفي فيه للقارئ وتكون فيه على ظاهرها لا بمعنى به وتجمل الترداد يئول إلى جمال حاصل في القارئ وزينة له والله أعلم.
١٢-
وَحَيْثُ الْفَتى يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ ... مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَنًا مُتَهَلِّلًا
كنى عن القارئ بالفتى وصفًا له بالفتوة وهي خلق جميل يجمع أنواعا من مكارم الأخلاق ويرتاع: أي يفزع والهاء في ظلماته للفتى: أي في ظلماته الناشئة من القبر ووحشته وإنما أضافها إليه لملابستها له،
_________
١ لا يظهر وجه فساد القولين، غير أن يقال: إذا جعل واهبا ومنفضلا تمييزان، يصير معناه أغنى ذوي غناء هبة وتفضلا فيكون نسبة أغنى في الحقيقة إلى الهبة والتفضل، وهذا ليس بلائح الوجه إلا على طريقة المجاز، هذا غاية ما يمكن في توجيه الفساد، وفيه ما فيه.
٢ سورة الحاقة، آية: ٢٨.
٣ سورة الزمر، آية: ٢٣.
1 / 17
وكونه فيها، فقوله من القبر على هذا في موضع الحال من الظلمات أي صادرة من القبر، ويجوز أن يكون كنى بالظلمات عن أعماله السيئة فيكون من القبر على هذا متصلا بيلقاه أي يلقاه القرآن من القبر أي يأتيه من تلك الجهة، ويجوز أن يكون التقدير يرتاع من القبر كائنا في ظلماته، ويجوز أن يكون قوله في ظلماته من القبر واردا على طريقة القلب لأمن الإلباس أي يرتاع في القبر من ظلماته والهاء في يلقاه للفتى أو للقرآن العزيز؛ لأن كل واحد منهما يلقى الآخر، والسنا بالقصر الضوء، والسناء بالمد الرفعة والمتهلل الباش المسرور وكلاهما حال من القرآن أي يلقى القرآن الفتى في حال إضاءته وبشاشته أي ذا سنا أي مستنيرا، ويجوز أن يكون متهللا صفة لسنا، وفي جامع الترمذي عن ابن عباس ﵄ قال:
"ضرب بعض أصحاب النبي ﷺ خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا هو قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي ﷺ فأعلمه فقال النبي ﷺ": "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر".
وفي كتاب ابن أبي شيبة وأول كتاب الوقف والابتدا لابن الأنباري آثار في فضل قارئ القرآن العامل به ذكرنا بعضها في الكتاب الكبير والله أعلم.
١٣-
هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلًا وَرَوْضَةً ... وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزِّ يُجتلَى
هنالك من تتمة قوله يلقاه أي يلقاه في ذلك المكان ثم استأنف قوله: يهنيه أو يكون يهنيه حالا، ويجوز أن يكون هنالك ظرفا ليهنيه وهنالك يستعمل ظرف زمان وظرف مكان وكلاهما محمل هنا والظرف هو هنا والكاف خطاب واللام زائدة للدلالة على البعد والعرب تنزل الميت أبعد منزلة وذلك لبعد الملتقى كقول الشاعر:
من كان بينك في التراب وبينه ... شبران فهو بغاية البعد
والهاء في يهنيه للقارئ وضمير الفاعل مستتر عائد على القرآن أو على القبر فإن عاد على القرآن كان مقيلا مفعولا ثانيا ليهنيه من قولهم: هنأت الرجل أهنؤه وأهنئه إذا أعطيته ثم ترك الهمز ضرورة على لغة كسر النون ولو استعمل لغة الفتح لقال يهناه، وإن عاد الضمير على القبر كان مقيلا تمييزا من قولهم هنأ لي الطعام أي لذ لي طعمه وطاب، وروضة عطف على مقيلا بالاعتبارين، والمقيل موضع القائلة وهي الاستراحة في وسط النهار، ولا يشترط فيها نوم أي يصير له القبر كالمقيل وكالروضة بثواب قراءة القرآن والعمل به عبر بذلك عن الراحة الحاصلة له حينئذ، وفي الحديث: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار".
والهاء في: ومن أجله للقرآن ومرفوع يجتلى للقارئ ويتعلق بيجتلى ما قبله من المجرورات وذروة كل شيء أعلاه تضم ذاله وتكسر ويجتلى معناه ينظر إليه بارزا من قولهم اجتليت العروس وعبر بذلك عن عظم أمره فهو سالم من كل آفة والله أعلم.
1 / 18
١٤-
يُنَاشِدُه في إرْضَائِهِ لحبِيبِهِ ... وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلًا إلَيْهِ مُوَصَّلاَ
يناشد أي يسأل ربه وقيل معناه يكثر المسألة ملجًّا فيها وعدى بفي؛ لأن في المناشدة معنى الرغبة وفاعل يناشد ضمير عائد على القرآن العزيز وهو جملة واقعة خبرا لقوله: وإن كتاب الله أوثق شافع، بعد أخبار سلفت أي هو أوثق شافع وخير جليس ويلقى قارئه حيث يرتاع ويناشد في إرضائه والهاء في لحبيبه تعود على القرآن العزيز وحبيبه قارئه العامل بما فيه والهاء في إرضائه يعود إلى الله تعالى، وقد تقدم ذكره في قوله وإن كتاب الله كقولك: غلام زيد يطلب منه كذا أي من زيد أي يناشد الله تعالى في أن يرضي حبيبه أي يعطيه من الأجر والثواب ما تقر به عينه فالإرضاء مضاف إلى الفاعل وعدي الإرضاء بلام الجر؛ لأنه مصدر نحو عجبت من ضرب لزيد، ويجوز أن يكون التقدير يناشد لحبيبه في إرضائه: أي يسأل الله تعالى في أن يرضى حبيبه ففي الكلام تقديم وتأخير فتكون الهاء في إرضائه للحبيب والإرضاء حينئذ مضاف للمفعول وقيل الهاء في إرضائه للقرآن العزيز: أي يسأل ربه أن يعطي القارئ ما يرضى به القرآن وتكون اللام في لحبيبه بمعنى لأجل حبيبه.
وفي كتاب الترمذي من حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال:
"يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله فيلبس تاج الكرامة فيقول: يا رب زده حلة الكرامة ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة".
قال: هذا حديث حسن، وروي عن أبي هريرة ﵁ غير مرفوع، وفي ذا المعنى أحاديث كثيرة ذكرناها في الشرح الكبير، وقوله: وأجدر به تعجب كأخلق به أي ما أجدره بذلك وأحقه به والسؤل المسئول وهو المطلوب ونصبه على التمييز وموصلا نعته وإليه متعلق بموصلا والهاء عائدة على القرآن العزيز أو على القارئ والضمير في له للإرضاء أي ما أحق سؤله أن يوصل إليه وقيل يجوز أن يكون الهاء في إليه للرضى الدال عليه الإرضاء أو للإلحاح الدال عليه يناشد، وموصلا حال من القرآن العزيز وقيل غير ذلك على ما بينا وجه فساده في الشرح الكبير والله أعلم.
١٥-
فَيَا أَيُّهَا الْقَارِى بِهِ مُتَمَسِّكًا ... مُجِلًاّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا
نادى قارئ القرآن المتصف بالصفات المذكورة في هذا البيت وبشره بما ذكره في البيت الآتي وبعده١ والقارئ مهموز وإنما أبدل الهمزة ياء ضرورة والهاء في به للقرآن وهو متعلق بمتمسكا مقدم عليه أي متمسكا به يعني عاملا بما فيه ملتجئا إليه في نوازله كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ ٢.
_________
١ أي الآتي بعده وبعده فحذف الأول للقرينة اهـ من هامش الأصل.
٢ سورة الأعراف، آية: ١٧٠.
1 / 19
وفي الحديث الصحيح: "كتاب الله فيه الهدى والنور فتمسكوا بكتاب الله وخذوا به"، وفي رواية: "من استمسك وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل".
وفي به وجوه أخر بعيدة ذكرناها في الكبير، وإجلال القرآن العزيز تعظيمه وتبجيله توقيره وهما متقاربان في المعنى ونصب متمسكا وما بعده على الحال من ضمير القارئ؛ لأن المعنى يا أيها الذي قرأ القرآن ومن إجلال القرآن حسن الاستماع له والإنصات لتلاوته وتوقير حملته وصيانة القارئ نفسه مما يشين دينه جعلنا الله كذلك والله أعلم.
١٦-
هَنِيئًا مَرِيئًا وَالِدَاكَ عَلَيْهِما ... مَلاَبِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ
الهنيء: الذي لا آفة فيه، الطيب المستلذ، الخالي من المنغصات، الحاصل من غير تعب، والمريء: المأمون الغائلة المحمود العاقبة، المستساغ في الحلق، وهما من أوصاف الطعام والشراب في الأصل، ثم تجوز بهما في التهنئة بكل أمر سار، وهما هنا منصوبان على الحال أي ثبت لك ثواب تمسكك بالقرآن العزيز وإجلالك له هنيئا مريئا، ويجوز أن ينصبا بفعل مضمر أي صادفت أمرا هنيئا مريئا، وأن يكونا نعتي مصدر محذوف أي كاللبس وجمعه لاختلاف الملبوس، أو تكون جمع ملبس بكسر الميم وفتح الباء وهو الشيء الذي يلبس ويسمى أيضا لباسا ومثله ميزر وإزار وملحف ولحاف وملابس فاعل عليهما وعليهما خبر والداك أو يكون ملابس مبتدأ ثانيًا خبره عليهما المقدم عليه والجملة خبر والداك وأنوار جمع نور والنور الضياء وأضاف الملابس إلى الأنوار؛ لملابستها إياها والتاج الإكليل والحلي جمع حلية وهي الهيئة من التحلي الذي هو لبس الحلي، ويجوز أن تكون الحلي جمع حلة وأراد الحلل لكنه أبدل من ثاني حرفي التضعيف حرف علة نحو أمليت وهذا وإن لم يكن مسموعا فهو جائز في الضرورة نص عليه الرماني في آخر شرح الأصول والمنظوم في هذا البيت حدي أخرجه أبو داود وغيره من حديث سهل بن معاذ الجهني عن أبيه ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا".
فقوله: "من قرأ القرآن وعمل بما فيه" نظمه في البيت السابق وقوله: "فما ظنكم بالذي عمل بهذا" منظوم في البيت الآتي والباقي منظوم في هذا البيت، وفي مسند بقي بن مخلد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "يكسى والداه حلة لا تقوم لها الدنيا وما فيها".
ففي هذا ذكر الحلة وفي الذي قبله ذكر التاج فصح تفسيرنا لقوله: الحلي بالحلل ويكون نظم ما تفرق في الحديثين، وقوله في الحديث: "تاجا وحلة" أي كل واحد منها والله أعلم.
1 / 20
١٧-
فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ ... أُولئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلاَ
هذا استفهام تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه كقوله تعالى: ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ١.
وقوله: فما ظنكم مبتدأ وخبر وفيه معنى الأمر؛ أي ظنوا ما شئتم من الجزاء لهذا الولد الذي يكرم والداه من أجله، والخطاب للسامعين مطلقا، فيكون التفاتا من خطاب القارئ إليهم، ويجوز أن يكون خطابا إليهم مع القراء؛ لأن قوله: "فيا أيها القارئ" للجنس؛ أي فما ظنكم بأنفسكم، "والنجل" النسل كالولد يقع على المفرد والجمع فحمل على اللفظ قوله: عند جزائه، ثم حمل على المعنى قوله: أولئك ومفعولا الظن محذوفان؛ أي ما تظنونه واقعا بالنجل، وقوله: "عند جزائه" ظرف للمحذوف ولا يجوز أن يكون ظرفا للظن وقوله: أولئك أهل الله إشارة إلى حديث آخر أخرجه أبو عبيد والبزار وابن ماجه عن أنس بن مالك ﵁ عن النبي ﷺ قال: "إن لله أهلين من الناس قيل من هم يا رسول الله قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته".
والإشارة بالأهلية إلى قرب المنزلة من رحمته وكرامته والأهل اسم جمع كالرهط والركب وقد جمع في الحديث جمع السلامة ومثله في القرآن العزيز: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ إلى: ﴿أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ ٢.
فيجوز أن يكون في بيت الشاطبي ﵀ تعالى أيضا مجموعا وسقطت النون للإضافة والواو لالتقاء الساكنين واللفظ بالمفرد والجمع في مثل هذا واحد وإنما يفترقان في الخط، فتزاد واو في الجمع والمصنف لم يكتب ما نظمه؛ لأنه كان ضريرا وإنما أملاه ولا يظهر في اللفظ جمع فكتبه السامع مفردا ويطرد ذلك في قول النبي ﷺ في آخرها هذا الحديث: أهل الله وخاصته يجوز أن يكون جمعا وهو الأظهر اعتبارا بما في أول الحديث، ويجوز أن يكون استعمله جمعا ومفردا في حديث واحد كما قال سبحانه: ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ ٣، ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ ٤، ﴿إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ﴾ ٥.
وقال ﷺ في حديث آخر: "هؤلاء أهل بيتي".
والصفوة: الخالص من كل شيء بكسر الصاد وفتحها وروي ضمها. وأشار بالصفوة إلى الخاصة المذكورة في الحديث. وأدخل واو العطف في قوله: "والصفوة" ليأتي على صورة لفظ الحديث في قوله ﷺ:
_________
١ سورة الصافات، آية: ٨٧.
٢ سورة الفتح، آية ١١ و١٢.
٣ سورة الأحزاب، آية: ٣٣.
٤ سورة الفتح، آية: ٢٦.
٥ سورة المطففين، آية: ٣١.
1 / 21
"أهل الله وخاصته".
والملأ: الأشراف والرؤساء وهو موافق لما روي من حديث ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ قال: "أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل"، وفي رواية: "قراء القرآن وقوام الليل"، ومن حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ﵃ رفعوه: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة". أخرجهما الحافظ أبو العلا الهمذاني والملأ مهموز أبدل من همزة ألفا للوقف والله أعلم.
١٨-
أُولُو الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى ... حُلاَهُم بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَّلاَ
"أولو" مثل ذوو: بمعنى أصحاب وهو خبر بعد أخبار لقوله: أولئك أي هم المتصفون بهذه الصفات الجليلة من البر وما بعده وحلاهم مبتدأ ومعناه صفاتهم جمع حلية وهي الصفة وخبره الجملة التي بعده وبها متعلق بجاء، ويجوز أن تكون حلاهم صفة البر والإحسان والصبر والتقى فيكون مجرور المحل، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه حلاهم ثم قال: بها جاء القرآن والقرآن بلا همز وبالهمز لغتان وهما للقراء قراءتان ومفصلا حال من القرآن ومعناه مبينا ومنه قوله تعالى:
﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ ١.
ويجوز أن يكون مفصلا من باب تفصيل القلائد بالفرائد كقول امرئ القيس٢:
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
وقوله:
تعرُّضَ أثناءِ الوشاح المفصل٣
وقيل هذا المعنى أيضا في تفسير قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ ٣.
أي فصلت بدلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص فكذا أراد الناظم أن القرآن مشتمل على ذكر الأبرار وأخبار الكفار فصفات الأبرار فيه كالفرائد التي تفصل بها العقود وهي الجواهر التي تزينها وتعظم وقعها وهذا بالنسبة إلى المذكور وأما النسبة إلى الذاكر فكلتاهما سواء؛ لأن كلا كلام الله ﷿: والله وأعلم.
١٩-
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِسًا ... وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ
"عليك بها" إغراء وحث: أي الزم هذه الصفات، والصق بها وبادر إليها مدة حياتك منافسا فيها غيرك
_________
١ سورة فصلت آية: ٣.
٢ آخره:
بجيد معم في العشيرة مخول
٣ أوله:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
٤ سورة هود، آية: ١.
1 / 22