Ibraahim Thani
إبراهيم الثاني
Noocyada
وخطر له وهو فى القطار أنه آن لحامد أن يتزوج، فقد ناهز الخامسة والثلاثين، ولأبيه الحق فى الإلحاح عليه فما رزق من الولد غيره. ولا خير فى العزوبة لرجل انقطع للعمل فى الأرض فما يفارق القرية إلا فى الندرة القليلة ولأمر تستدعيه مطالب الزراعة. وحدث نفسه أن حامدا حكيم حازم، وأن أباه موفق. ومن حكمته أنه أقنع أباه بالتخلص من الدار التى بالرمل؟ فإن الإقامة فيها معظم شهور السنة تنأى عن «الغيط»، وتكل أمره إلى الأجراء الذين لا يبالون أجاد الزرع أم كندت به الأرض.
وانثنى إلى نفسه فقال إنه هو أيضا فى مثل سنه أو أعلى منها، ولا علاقة هناك تؤذن بزواج. وطافت برأسه صور الماضى فنحاها، كما يهش المرء الذباب. وليس له أرض يحمل همها، فقد كان له أخ أسن منه - عليه رحمة الله - «كنس ومسح » كما تقول العامة وأعفاه من هذا العناء. وقد عنيت أمه بتعليمه، وآتته القدرة على كسب رزقه بعرق الجبين، فما حاجته لأرض؟ وإنه ليكسب كثيرا، ولكنه متلاف لايبقى على شىء ولا يحسن أن يدخر قرشا أبيض ليوم أسود، أترى هى الوراثة؟ وإن ابن عمته ليرى إنفاقه عن سعة فيتوهمه أغنى منه وخيرا حالا.. وضحك إبراهيم وقال: إن هذا هو «الستر» الذى لا ينفك الجمهور الأكبر من الناس يسألون الله أن يضفيه عليهم. ولقد عمل فى الصحافة - وإنه الان لحر - يكتب فى الصحف والمجلات، ويؤلف الكتب، و«يدبج» التقارير والمذكرات لمديرى الشركات بالعربية الذين يحسنون غيرها، ولا يجحد فضل الله عليه.
وما زالت أمه تحثه على الزواج وتدعوه إليه وتقول له: إنها مريضة، إحدى رجليها فى الدنيا والأخرى فى ... العياذ بالله.. ولا قدر الله. وكبر فى وهمه أنه خليق بأن يضل ويشقى إذا فقد أمه؟ فإنها عصمة له. وثقلت عليه وطأة هذا الخاطر، فنفاه بجهد، وذهب يفكر فى تحية، كيف هى ياترى؟ وماذا عسى أن يبلغ من صبرها على حياة الريف وهى بنت الإسكندرية، المشرقة الوضاءة؟
وبلغ القرية، وقد مالت الشمس للمغيب، فاستقبله على الجسر، عند مدخلها خادم أبلغه أنه أعد له «الكشك» الذى فى الجزيرة، وأركبه زورقا إليها، وكان الجو سجسجا، وأشعة الشمس الذهبية ترقص على الماء، فانشرح صدره، وأمر الخادم أن يكف عن التجديف، فبقى - الخادم - كالتمثال، ومقبضا المجدافين فى حجره، وطرفاهما يقطر منهما الماء، والزورق يسبح على غير هدى. وصارت الشمس فى عينيه فرفع كفه وحجبها، فعاد يرى النهر المتوهج و«الكشك» القائم على شاطئه والخضرة اليانعة حوله، وود فى هذه اللحظة لو أنه كان إلى جانبه.. من؟ وأحس أن حياته ناقصة.. ودار فى نفسه ما يشبه الحسد لقريبه، فأنكر هذا، وبادر فقال إنه يرجو له السعادة مع تحية ... ترى كيف هى؟ طويلة؟ قصيرة؟ ثقيلة؟ خفيفة؟ ومتكلفة أم على الفطرة؟ وهز كتفه ومط بوزه، وتنهد. وأمر الخادم أن يرسو به.
وكان الكشك عبارة عن بيت من خشب، فيه غرفتان أرضيتان، واحدة للخادم والأخرى متخذة مخزنا لما عسى أن يحتاج إليه الضيف، وفوقهما غرفتان أخريان للنوم والجلوس، وحولهما شرفة من جهات ثلاث. والأثاث بسيط مريح: طارقتان - كنبتان - بينهما «كليم» من نسج الصعيد، فوقه منضدة مستديرة عليها رخامة، وإلى جانبها كرسيان من الخيرزان، ورف بجانب الباب عليه أكواب وفناجين للقهوة والشاى. وفى غرفة النوم سرير وكرسى هزاز، ومشجب ومنضدة صغيرة. وعلى حافة الشرفة قلل شتى الأحجام والأشكال ملأى بالماء ليبترد، وعلى أرضها وسائد منتثرة للجلوس.
وصرف الخادم وأخرج من حقيبته زجاجة ويسكى صب منها قيراطين فى كوب وشعشعه بالماء، وقعد على كرسى خرج به إلى الشرفة، وتبسم وقد تذكر أنه كتب مرة إلى صديق، من هذه الجزيرة - ومن هذا الكشك - يصف له الموقع والمقام، فما كان من صديقه إلا أن بعث إليه بالرد بهذا العنوان: «بكشك بجزيرة فى مجرى النيل بين قريتى كذا وكذا، لا يمكن أن يخطئها عامل البريد إلا إذا غلط وركب النيل على فرعه الاخر».
وخطر له وهو ينظر إلى الماء والخضرة، أنه لا يريد أن يعبر إلى حيث القوم فى «الدوار»، وماذا يصنع فى ذلك الزحام؟ إن حاجته إلى هذا السكون المريح. وقد يستغربون تخلفه عن العشاء معهم، ولكن فى وسعه أن يعتذر غدا بطول الرحلة وتعب السفر ووجع الرأس. وعلى ذكر ذلك قال لنفسه إن رأسه سيوجعه على التحقيق إذا ظل يعب فى هذا الشراب.
ونهض وانحدر على درجات السلم الخشبى وتلفت فلم يجد أحدا، حتى الزورق اختفى، لابد أن يكون «آدم» قد عاد به إلى الضفة الثانية. إذن سيجىء على الأرجح بحمولة أخرى. وقطب، فقد كان يؤثر أن يظل وحده فى هذه الجزيرة الساكنة، وأن يسعه أن يقول كما قال الشاعر بلسان مستفرد وحاد فى جزيرة كهذه: «إنى ملك على كل ما أرى!». وراح يتمشى، فأشرف على مزرعة بطيخ، فنزع واحدة صغيرة ودقها على ركبته فانفلقت وانشطرت، فإذا هى حمراء مغرية، فقضم، فاستحلاها، فعكف على القضم، وابتل أنفه وخداه، وهو لا يحفل ذلك، ورمى القشرة البيضاء الماسخة، واستأنف المشى غير جاعل باله إلى الوقت.
ودخل الليل فقعد على الأرض، ومد ساقيه، ومد بصره أيضا ليرى الماء. وكان يسمع خريره، ولا يبصر إلا سوادا يخلطه فى رأى العين بالأرض، إلا حين تلتمع صفحته من بعيد. وشاع فى نفسه الاغتباط، فصح عزمه على التخلف عن العشاء هناك. وحدث نفسه أنه اعتاد، فى حياته المضطربة أن يتقبل بقبول حسن ما تجيئه به الساعة التى يكون فيها، وأن لا يضيع أو يفسد ما يفيد فيها بالطمع فيما عسى أن يجنى من سواها. وإنه لكذلك.
وإذا بحفيف توهمه بادئ الأمر من أوراق الشجر، وكان الظلام والسكون قد أرهفا سمعه، فخيل إليه أن أحدا قادم، فحدق فى الليل فلم ير شيئا. وكانت الكلاب تنبح - على الناحية الأخرى من النيل - والضفادع تنقنق حوله، ولكن هذه الأصوات كانت تزيد السكون عمق وقع فى نفسه.
Bog aan la aqoon