Ibraahim Thani
إبراهيم الثاني
Noocyada
وخطر له أن لعله قد شط وأسرف، فأراد أن يراجع نفسه ويحاسبها، فسألها: «ما عيب كريمة؟» ونفى أن بها عيبا. فإن لها لجمالا، وإنها لعلى حظ من التعليم، وفى مقدورها بفضل نشأتها أن تتولى أمور بيته، وتريح أمه. وكره هذا اللون من التفكير، وحدث نفسه أنه لا يشترى بقرة من السوق. إذن ما علة هذا النفور من كريمة، وستشقى المسكينة، إذا صح ما كان بلغه عنها من. حبها له، وإذا صدقت دلائل ما رآه اليوم منها.. ولكن هل هى تحبه؟ إنها صغيرة، ولا يبعد أن يكون ما تشعر به - إذا كانت تشعر بشىء - ثمرة الإيحاء وجنايته. ولعل عمته الماكرة قد ظلت تحدثها عنه وتعدها به حتى تعلقت المسكينة بهذا الأمر، وشغل به خيالها، وصارت تحدث به نفسها وتناجيها. ولكن شبابها خليق أن يكون عونا لها، وسيندمل الجرح بسرعة، والشباب كفيل بذلك. والآن ماذا ينبغى أن يصنع؟ هل يخاطب عمته لتكف عن إلقاء الفتاة عليه؟ أو لا يقول ولا يصنع شيئا؟
ونهض. وفى مرجوه أن يفتح الله عليه بالرأى الأصوب، وانحدر ومضى إلى الشمال حتى بلغ حوض الورد، وكان الظلام قد أرخى سدوله، فاستغرب أن يبدو له الورد أسود فى الليل، وخطر له أنه لم يلاحظ ذلك من قبل. ثم استأنف المشى، فالتقى بمن لم يتبين، ولكنه قال: «تحية؟» نطق اسمها غير مستغرب كأنما كان يدور على لسانه طول عمره. ولم تجبه. ولكنها بدت له كأنها تترنح، وكبر فى ظنه أنها ستقع، فخطا إليها ودنا منها وأحاطها بذراعيه، فلم تدفعه، ولم تلق بنفسها عليه. وكانت كأنها غير مفيقة وليست تامة الوعى، وكان رأسها مطرقا، وذراعها على ذراعه. وظلا هكذا برهة، وهو مطوقها بذراعيه، وهى واقفة لا تبدى حراكا، ولا تقبل ولا تنفر، كأنما ليس لها فى الأمر رأى أو خيار، ثم رفعت رأسها، فأحنى رأسه، وباسها.
ولم يشعر حين باسها بنشوة، وإنما كان شعوره باغتباط هادئى. وكان مبلغ إدراكه لما هو فيه شبيها بصوت الموجة مقبلة من بعيد. وتلقت قبلته أول الأمر بلا مجاوبة، كأنها تمثال، ثم حركت شفتيها بغتة، وباسته، فأحس كأنه يكاد يختنق.
وكأنما ارتجت الأرض فتحاجزا، وتراخت السواعد إلى الجنوب. وكان يستطيع أن يرى، على الرغم من الظلام، جانب خدها وبياض جيدها، ويحس رشاقة قوامها، ويود لو تكلمت، لو نطقت بأى شىء، ولكنه لم يسمع سوى أنفاس غير منتظمة، ولم يجد هو كلاما يقوله سوى: «يحسن أن نجلس».
وجلسا، متباعدين، غير متلامسين. وخطر له وهو يتدبر تعمدها التباعد، أنها المعرفة التى أحوجت آدم وحواء إلى الخصف بورق الجنة، وكانا قبل ذلك لا يستحييان من العرى ولا ينكران شيئا. ثم قال بعد برهة: «لست آسفا، فلا تتوقعى منى الإعراب عن أسف». وقالت بعد فترة: «ولا أنا. كلا، لست اسفة، وإنى ...».
ولم تتمها.
فهم بكلام، فرفعت كفها الدقيقة الرخصة إلى فمه تصده، وقالت: «إنك لا تدرى ... ولكنى تمنيت أن يحدث ما حدث ... لم يبق إلا أن تقال الحقيقة فلأقلها. ولم أكن أدرك على وجه واضح ما أبغى، ولكنى كنت أحس برغبة غامضة فى شىء غير جلى. أخشى أن ترى كلامى هذا فارغا، ولكنى لا أعرف كيف أقول غير ذلك، وإنما أصف ما خامرنى».
قال: «لست أراه فارغا، فإن له لصدى فى نفسى. أنا أيضا كنت جاهلا ما يضطرب به صدرى، وكنت أحسى دفع الدوافع إلى مجهول أو غامض يأبى أن يخرج إلى النور. وقد عرفنا الآن، وهذا هو المهم، وسأخبرهم بما حدث، فما يليق ولا يعقل أن يبقى هذا مكتوما وموقفهم منك ما تعلمين وأعلم. يجب أن يسدل ستار على هذا الفصل، وإلا صار هزلا مرا».
فألحت عليه أن لا يقول شيئا، وأن يدع لها تدبير الفكاك من الموقف، فإنه موقفها، فأبى. فعادت تلح، وقالت: «إن ظهور الحقيقة يثير العداوة بينه وبين أهله، وبينهم وبين أهلها، ويخلق لغطا هم جميعا فى غنى عنه، وقد يحمل أباها على العناد فيأبى عليهما الزواج. وفى الوسع اتقاء هذا كله بالحكمة وحسن التدبير».
وبدت له الحكمة فيما تشير به. ولكنه رأى فيه ضربا من التامر والتواطؤ غير لائق، وذهب إلى أن الصراحة أمثل وأكرم. فوافقت على أن هذا تآمر قد تأباه المروءة، ولكنه تآمر يتقيان به ما هو شر من لوثته - يتقيان به لغطا أليما لا داعى له ولا مسوغ؛ وعداوة يسهل اجتنابها، وعذابا غليظا قد يجره عليهما استنكاف أبيها، وما قد يغريه به من العناد، ويكسبان به أخيرا سعادتهما.
Bog aan la aqoon