Ibraahim Thani
إبراهيم الثاني
Noocyada
قال: «هذا أثره فى العادة ... يحدث تغييرا على كل حال».
قالت: «لا أدرى لماذا كنت أتوقع أن تقول لى شيئا آخر ... أهم».
قال وهو يبتسم: «آسف.. ربما كان حامد أقدر على ذلك ... وأولى».
وبدا له أن كل هذا الحوار غير لائق، فى الكشك، وفى جزيرة منعزلة. وخيل إليه مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتحرك، ولا يقدر أن يعبر إلى الضفة الأخرى ... فى هذه الليلة على الخصوص. وكبر فى وهمه أن لا وسيلة إلى الاتصال بهذه الضفة الأخرى، كأن الجزيرة قد سبحت وانتقلت إلى موقع اخر قصى ... موقع ليس له حدود، ولا على جانبيه ضفتان. وكم من «ضفة أخرى» فى الحياة ينشدها المرء ويشتهيها ويتمناها ولا يبلغها.
ولم تقل له عمته من العروس التى اختارت له. ولكنه عرفها تخمينا، وهل فى القرية كلها من بنات الأسر الظاهرة من تستحق أن توصف بالجمال غير «كريمة»؟ وكان أبوها قد اختفى بعد مولدها وانقطعت أخباره فليس يعرف أحد أحى هو فيرجى، أم ميت فيندب؟ وآثرت زوجته له الموت كراهة منها لأن يكون حيا، ويهجرها هذا الهجر القبيح، وإن كان قد ترك لهما أرضه ولم يبعها ولم يرهنها، فنشأت كريمة يتيمة وإن كانت لعلها غير ذلك . وكان عهد إبراهيم بالبلدة غير قريب ولكنه تذكر كريمة كما راها آخر مرة: وكانت تفرق شعرها الوحف من الوسط وترسله على جانبى وجهها وتربطه من الخلف بأنشوطة، فكأن محياها من شعرها الدجوجى فى إطار. وكانت وجنتاها كالوردتين، وعيناها سوداوين نجلاوين، وفيهما سعة وفتور. وقدر إبراهيم أن تكون قد ناهزت السادسة عشر من عمرها الغض فهى صغيرة، ولكنها لابد أن تكون الآن ناضجة. وتبسم إذ تذكر حديثا روى له لما كان فى البلدة اخر مرة، وكان على الطعام مع الأسرة، وكانت كريمة وأمها حاضرتين. وكانت كريمة تتهامس هى وجارة لها فى مثل سنها، وكان ذلك يستغرقهما ويكاد يلهيهما عن الطعام. وكانت عمته على يمينه، وإلى جانبها فتاة صغيرة أخرى، فمالت الفتاة على عمته فألصقت فمها الدقيق - وعليه ابتسامة رفافة - بأذنها وقالت همسا - كذلك جرت الرواية -: «هل تعرفين فى أى شىء تتحدث كريمة وفتحية؟» قالت المرأة: «كلا. ولكنا نحن أيضا نستطيع أن نتهامس مثلهما». قالت الصغيرة: «ولكن لا يجوز أن يسمع إبراهيم ما أقول»، فوعدتها الكبيرة أن تكتم الخبر، وأكدت أن الكلام سيدخل من أذن ويخرج من أذن. فزوت الصغيرة ما بين عينيها وقالت: «إذن سيصك سمعه لا محالة»، فضحكت الكبيرة وطمأنتها على أن الكلام الخارج من الأذن الأخرى لن يبلغه، فأنبأتها أن كريمة تحب إبراهيم ...
وأقبل الخادم الهرم «عم آدم» يسأله ألا ينوى أن يتعشى؟ فقال إبراهيم إنه يكتفى ببطيخة، وطلب منه أن يقطعها ويقشرها ويضعها على الشرفة لتبرد. ففعل، ووضع معها سكينة، فاستغرب إبراهيم وقال له: «كان الأولى أن تجىء بشوكة إذا كان لابد من شىء آكل به» قال: «هذه لتصرف الشمامة» فلم يفهم وسأله «أى شمامة؟» قال: «التى تشم البطيخ»، فضحك إبراهيم وصرفه، وغطى الطبق بفوطة. ولكنه نام قبل أن يأكل منها فى ليلته.
وفى الصباح عبر النهر إلى الضفة الأخرى التى زايلها الغموض والنأى فى النهار، فالتقى بالقوم جميعا جلوسا إلى المائدة يفطرون. وكان الجو رقيقا، والهواء معطرا بأنفاس الحقول والرياض. وأقبلت تحية تسلم عليه كأنها لم تره من قبل، فاستغرب هذا وكبر فى ظنه أن لعلهما كتمتا رحلتهما إليه البارحة فلماذا؟ أتراهما يخشيان أن يثير الخبر غيرة حامد؟ ومم يغار الأبله؟ وأيتهما صاحبة الرأى فى الكتمان؟ وألفى نفسه يسخط على عمته.
وحدث نفسه وهو يختلس النظرات إلى تحية أنها أقل جمالا حتى مما توهمها البارحة فى الظلام. ولم يخدعه المصباح حين أراه أن خديها متهضمان، ووجد أن عينيها عسليتان، وبدا له أن جمال شعرها فى أنه كأنما يأبى أن يخضع للتمشيط أو التصفيف أو الترجيل. وكانت لا قصيرة ولا طويلة. على أنه أحس أن عليه أن يغير رأيه فيها، وإن كان لم يدمن النظر إليها، فإن لها لجمالا، وإن شبابها ليفيض عليها رونقا عجيبا، وإن فى صوتها لحيوية «حادة» هذا هو الوصف الوحيد لما يصافح سمعه من نبراتها، وخيل إليه أن حيويتها تكاد «تؤلمها». واستغرب منها أنها طويلة النظرات حديدتها، ولكن فيها مع ذلك رقة مستوردة، ولينا وراء هذه اللحظات الحداد. ثم رشاقة جسمها ومرونة بدنها ...
وأمسك عن الاسترسال، وأنكر من نفسه أن تطوف برأسه هذه الخواطر، وشعر بارتباك، فأطبق فمه وزمه كأنما كان يتكلم. وأحس أن وجهه يضطرم، وخشى أن يلاحظ أحدهم ذلك، وسمع حامدا يقول لتحية، وكأن الصوت يأتى من بعيد: «إنك خليقة أن تحبى إبراهيم فإنه من هؤلاء الخياليين الذين تعجبين بهم. يحلم بدنيا سعيدة حافلة بالخير، له ولمن حوله من أهل وإخوان».
وسمع نفسه يقول فى جواب ذلك: «إنى ما فكرت فى هذا قط، ولكنك لابد أن تكون على صواب».
Bog aan la aqoon