لعلنا عرفنا مما تقدم كيف أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وكيف أخذ بها الإمام ابن حنبل والذين اتبعوا مذهبه ومنهجه في الأخذ بها، فكان ذلك من العوامل التي جعلت فقهه خصبا متفقا مع مقاصد الشريعة التي هي تحقيق المصالح ودرء المفاسد عن الناس، هذه المصالح التي - وإن لم يشهد لاعتبارها دليل شرعي خاص - تتفق وما جاء به الدين، ولا تخالف أصلا من أصوله.
والآن، علينا بعد ذلك أن نعرض لهذه المسائل: ما هي المصلحة المرسلة، وما هو موقف ابن تيمية منها، ولماذا تشكك وتردد فيها، وسنتناول كلا من هاتين المسألتين على هذا الترتيب:
الأولى:
يجد الباحث العليم أن كل أمر تناوله الشارع بحكم من الأحكام لا بد فيه من معنى أو وصف مناسب اقتضى هذا الحكم الشرعي، وهذا المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له بالملاءمة والتأثير وعدم ذلك إلى أقسام ثلاثة: ما يعلم أن الشارع اعتبره، وما يعلم أنه ألغاه، وما لا يعلم أنه اعتبره أو ألغاه.
والمصالح المرسلة هي هذا القسم الثالث؛ أي الذي لا يشهد له أصل من أصول الشريعة لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، وعلى هذا يراد بها كل مصلحة غير مقيدة بنص من الشارع يدعو إلى اعتبارها أو عدم اعتبارها، ويكون في اعتبارها مع ذلك جلب نفع أو دفع ضرر، وقد يقال: إنها المصالح التي يرجع معناها إلى اعتبار أمر مناسب لا يشهد له أصل من الشارع معين.
وليس صحيحا ما يقوله بعض العلماء من اشتهار الإمام مالك ورجال مذهبه بانفرادهم بالقول بهذا الأصل والأخذ به، فإن الفقهاء - كما يقول الشوكاني - في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك.
48
وإذن، يكفي أن نقول بأن المالكية هم أكثر الفقهاء أخذا بهذا الأصل المختلف فيه من أصول الأحكام الفقهية.
49
ومهما يكن، فإنه يشترط لاعتبار المصالح المرسلة مصدرا أو أصلا من أصول التشريع، في رأي القائلين بها، ثلاثة شروط وهي: (أ)
Bog aan la aqoon