وأخيرا، إن معنى قول الشيخ ابن تيمية رضي الله عنه أن الاستصحاب حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وفي كونه حجة في اعتقاد العدم خلاف، أنه حجة لمن لا يعتقد تغير الحال التي لها حكمها الثابت بالدليل، فيندفع بها (أي بهذه الحجة) دعوى مدعي التغير إلا إذا قام عليه دليل، ولكنه مع هذا، ليس حجة متفقا عليها في دعوى عدم تغير الحال فلا يصح حينئذ استصحاب الحكم، فقد تكون الحال قد تغيرت فعلا مع أنه دليل على هذا التغير.
ويظهر هذا واضحا لنا إذا أشرنا إلى مركز المفقود وحكمه عند الفقهاء؛ أي الذين يرون منهم أن الاستصحاب حجة لعدم الاعتقاد لا لاعتقاد العدم، فإن المركز الشرعي للمفقود عندهم هو اعتباره حيا في حق نفسه، وميتا في حق غيره حتى تعرف وفاته أو يحكم بها القضاء، ويترتب على هذا أمران: (أ)
عدم قسمة أمواله بين ورثته بعد فقده؛ وذلك استصحابا لحال حياته التي لم يقم دليل بعد على تغيرها. (ب)
ألا يرث أحد ممن مات من أقاربه بعد فقده؛ لأن الميراث يقتضي اعتقاد بقائه حيا، لا عدم اعتقاد موته فحسب. لكن استصحاب الحال يصلح علة وحجة لبقاء ما كان على ما كان (وهو حال الحياة) التي تمنع قسمة أمواله بين ورثته، لا لاكتساب حقوق جديدة لا تكون إلا إذا اعتقدنا عدم موته، وهذا ما لا يكون الاستصحاب حجة فيه عندهم، ومن هؤلاء الفقهاء الأحناف.
40
على حين أن الفقهاء الآخرين الذين ذهبوا إلى أن الاستصحاب يصلح حجة في الحالين، فإنهم يرون أنه استصحاب حال حياته لبقاء ما يملكه على ملكه حتى يثبت موته حقيقة أو حكما يستلزم اعتقادنا عدم موته فيكون له حينئذ وراثة من مات بعد فقده قبل الدليل على موته حقيقة أو حكما.
ونعتقد أن الرأي الأول الذي ذهب إليه بعض الأحناف هو الأصح، كما نرى أنه هو الذي يذهب إليه بعض الحنابلة ومنهم ابن تيمية وتلميذه الأكبر ابن القيم؛ وذلك بدليل ما جاء في كتبهم من المثل والأحكام الدالة على الذهاب إليه والأخذ به.
وفي هذا يذكر ابن القيم - وهو يتكلم عن الاستصحاب وتحميله البعض فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه (أي في الحالين) لعدم علمهم بتغير الحال، مع أنه ليس عدم العلم علما بالعدم - ما ينبغي أن ننقله عنه، وذلك إذ يقول لبيان معنى رأي بعض الأحناف: «إنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغير الحال، لإبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغير له، فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمكننا ألا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته.
فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل، فهو يمنعه الدلالة حيث يثبتها، لا أنه يقيم الدليل على نفي ما ادعاه، وهذا غير حال المعارض، فالمعارض لون والمعترض لون؛ المعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلم دلالته ويقيم على نقيضه.
وذهب الأكثرون، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيره، إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه؛ لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل (أي المغير للحال الأولى)، غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه.»
Bog aan la aqoon