129

إن الشيخ، رضي الله عنه وأرضاه، بعد أن بين هذه الوجوه أخذ في مناقشتها، وانتهى بأنه ليس في الحكم الذي جاء به حديث الرسول

صلى الله عليه وسلم

شيء يخالف القياس، بل هو على وفقه تماما، وذلك إذ يقول: «أما قولهم: «رد بلا عيب ولا فوات صفة» فليس في الأصول ما يوجب انحصار الرد في هذين الشيئين، بل التدليس نوع ثبت به الرد وهو من جنس الخلف في الصفة، فإن المبيع تارة تظهر صفاته بالقول وتارة بالفعل، فإذا ظهر أنه على صفة وكان بخلافها فهو تدليس ...

وأما قولهم: «الخراج بالضمان» (أي أن الأمر برد صاع من تمر مخالف للقياس الذي يؤخذ من الأثر الذي يقول: الخراج بالضمان)، فإن حديث المصراة أصح منه باتفاق أهل العلم مع أنه لا منافاة بينهما، فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري ...

وهنا كان اللبن موجودا في الضرع فصار جزءا من المبيع، ولم يجعل الصاع عوضا عما حدث بعد العقد، بل عوضا عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد.

وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع، فلأن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد فتعذرت معرفة قدره؛ فلهذا قرر الشارع البدل قطعا للنزاع، وقدر بغير الجنس لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيفضي إلى الربا، بخلاف غير الجنس، فإنه كأنه ابتياع لذلك اللبن الذي تعذرت معرفة قدره، بالصاع من التمر، والتمر كان طعام أهل المدينة وهو مكيل مطعوم يقتات به كما أن اللبن مكيل مقتات به، وهو أيضا يقتات به بلا صنعة، بخلاف الحنطة والشعير فإنه لا يقتات به إلا بصنعة.

فهو (أي التمر) أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن؛ ولهذا كان من موارد الاجتهاد أن جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر، أو يكون ذلك لمن يقتات بالتمر، كأمره

صلى الله عليه وسلم

في صدقة الفطر بأن يخرج أهل كل بلد مقدار الصاع مما يقتاتون به كالشعير ونحوه.»

وبعد ، فقد وصل الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى بيان وإثبات ما اعتقده الحق، وهو أنه ليس في الشريعة الإسلامية من الأحكام ما يخالف القياس الصحيح، وقد تأتى له ذلك بما أوتيه من الحظ الوافر في فهم الفقه وأصوله الأولى، والقدرة على رد الأحكام الشرعية إلى أصولها الأصلية بعد إدراك عللها، والفهم العميق لكتاب الله والإحاطة بقدر المستطاع بسنة رسوله.

Bog aan la aqoon