Ibn Taymiyyah: His Life and Times, Opinions and Jurisprudence
ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه
Daabacaha
دار الفكر العربي
محنة الشيخ
٥٢- لسنا نقصد بمحنة الشيخ إهانته، فقد عاش رحمه الله معززاً مكرماً، حتى في محبسه، فيما حل كان محل الإجلال والاحترام، وإنما نقصد بالمحنة الحبس، وتقييد حريته في الخروج والدعوة
بلغت مكانة ابن تيمية الذروة، فقد علا على المنافسة، وصار اسمه في كل مكان؛ وكان من حق مثله أن يغتر، ولكن لم يصب الغرور قلبه، وحسبك أن تعلم أن الفخر الذي ناله المصريون إلى اليوم لأنهم الذين حطموا قوة التتار، وفرقوهم، وردوهم على أدبارهم خاسئين إنما كان مرجعه في الدور الأخير إلى ذلك العالم التقي فهو الذي ثبت القلوب بقوله، وقوى العزائم بروحه وجمع الجموع؛ والأجناد، وخاض المعركة بنفسه، وكان روحها الدافع وقلبها الخافق، وعزيمتها الوثابة، وقد حمى الدولة في الخارج، وعمل على حمايتها في الداخل بإزالة من كانوا يحصون على المسلمين أعمالهم، ويبلغونها لأعدائهم، ويكشفون العورات، وإن لم يحتثهم من أصلهم، فقد أخضعهم.
إن العالم الذي رأى صخرة التتار تتحطم نهائياً في مرج دمشق عليه أن يعلم أن العامل الأول في تلك الواقعة الأخيرة إنما هو ابن تيمية العالم الورع التقي.
ولكن الغرور لم يمس قلبه؛ لأن الغرور والإيمان لا يجتمعان؛ إذ الغرور من الشيطان، والإيمان من الرحمن، وإذا كان الله سبحانه قد طهر قلبه من الغرور والحسد فقد أعطاه عزيمة من حديد؛ ولساناً ذرباً قوياً، وإرادة عاملة وقد كان كل ذلك لمصلحة الإسلام والمسلمين؛ وقد أثارت منزلته حقد من لم يبلغ شأوه من هذه الصفات ولم يصل إلى مرتبته منها؛ وخصوصاً أن العلماء في ذلك الزمان كانت تجري عليهم الأرزاق من بيت المال؛ فالقريب من السلطان منهم يكون له رأي في أرزاقهم؛ وقد رأينا ابن تيمية صار له شأن في التولية، وإن لم يعرف له شأن في العزل، وما فعل ما فعل إلا وهو يقصد وجه الله سبحانه لا يبغي من أحد جزاء ولا شكوراً؛ وهو ما تخير لنفسه منصباً، بل رضى أن يكون الواعظ المرشد، والمدرس المجيد.
49