وفي العالم العلوي تتم سلسلة الموجودات التي رأينا أن درجاتها تجاوز العالم الطبيعي والعالم النفسي، وإليك كيف يبسط ترتيب الموجودات بين عالمنا والله، كما جاء في الرسالة النيروزية
1
الطريفة التي ذكرها ابن أبي أصيبعة، ونشرت في مجموعة «رسائل في الحكمة»: «واجب الوجود هو مبدع المبدعات ومنشئ الكل، وهو ذات لا يمكن أن يكون متكثرا، أو متحيزا، أو متقوما بسبب في ذاته، أو مباينا في ذاته، ولا يمكن أن يكون وجود في مرتبة وجوده فضلا عن أن يكون فوقه ... هو الوجود المحض، والحق المحض، والخير المحض، والعلم المحض، والقدرة المحضة، والحياة المحضة من غير أن يدل بكل واحد من هذه الألفاظ على معنى منفرد على حدة، بل المفهوم منها عند الحكماء معنى وذات واحد ... وأول ما يبدع عنه عالم العقل، وهو جملة تشتمل على عدة من الموجودات قائمة بلا مواد خالية عن القوة والاستعداد، عقول ظاهرة وصور باهرة، ليس في طباعها أن تتغير، أو تتكثر، أو تتحيز، كلها تشتاق إلى الأول، والاقتداء به، والإظهار لأمره، والالتذاذ بالقرب العقلي منه سرمد الدهر على نسبة واحدة.
ثم العالم النفسي هو يشتمل على جملة كثيرة من ذوات معقولة، ليست مفارقة للمواد كل المفارقة، بل هي ملابستها نوعا من الملابسة، وموادها مواد ثابتة سماوية، فلذلك هي أفضل الصور المادية، وهي مدبرات الأجرام الفلكية وبواسطتها للعنصرية، ولها في طباعها نوع من التغير ونوع من التكثر لا على الإطلاق، وكلها عشاق للعالم العقلي، لكل عدة مرتبطة في جملة منها ارتباطا بواحد من العقول، فهو عامل على المثال الكلي المرتسم في ذات مبدئه المفارق مستفاد عن ذات الأول، ثم عالم الطبيعة، ويشتمل على قوى سارية في الأجسام، ملابسة للمادة على التمام، تفعل فيها الحركات والسكونات الذاتية، وترقى عليها الكمالات الجوهرية على سبيل التسخير، فهذه القوى كلها فعال، وبعدها العالم الجسماني، وهو ينقسم إلى أثيري وعنصري، وخاصية الأثيري استدارة الشكل والحركة ... وخاصية العنصري التهيؤ للأشكال المختلفة والأحوال المتغايرة.»
ومع ذلك، فإن الشكل الاعتيادي الذي تشتمل عليه نظرية انبثاق الأفلاك لدى ابن سينا، وفي جميع المدرسة الفلسفية العربية كما هو ظاهر، ليس الشكل المعروض بهذه الرسالة الجميلة، وتكون هذه النظرية أكثر جفاء بمظهرها المعتاد، ومع أن عالم العقل موجود فيها أيضا لم يذكر فيها باسمه، ولا يستخلص منها بصراحة، وإليك هذا الشكل المشترك: وفوق الكل يكون الله الذي لا يدعوه الفلاسفة باسمه، بل يدلون عليه بتعابير ما بعد الطبيعة، وهي: الواحد، والأول، وواجب الوجود، والسبب الأول، والحق الأول، وعن الله يصدر موجود واحد ثان، وهو الذي يسمى العقل المحض المسبب الأول، وعن المسبب الأول تصدر نفس فلك العالم المحدود وجسمه معا كما يصدر عقل، وعن هذا العقل تصدر نفس زحل، الذي هو أبعد السيارات، كما يصدر عقل ثالث، وعن هذا العقل الثالث تصدر نفس المشتري، الذي هو سيارة تالية، كما يصدر عقل رابع يكون عقل الفلك، الذي يتبع المشتري في نظام السيارات، ويدوم الانبثاق وفق هذا النظام، وعن عقل القمر الذي هو آخر سيارة يصدر آخر عقل محض، وهو العقل الفعال، وعن العقل الفعال يصدر العالم الأرضي.
فمن هذا البيان يرى أنه يتألف من العقل الفعال وعقول الكواكب الصرفة مجموع عالم العقول، الذي كان أكثر وضوحا في المنهاج الأول.
ولكننا نشعر بأنه سيكون لدى القراء أثر سيئ ضد ابن سينا عند سماع هذه النظرية، فيستعدون، كما يلوح لنا - لإغلاق الكتاب - لائمين إيانا على إنفاق كثير من العلم والتدقيق لنيل إعجابهم، ثم لجعلهم ينقضون نهائيا، على منهاج همجي أو منهاج صبي، فنرى - والحالة هذه - أن من الواجب أن ندافع عن بطلنا حيال هذه المشاعر الجائرة، كما نرى من الواجب أن نساعد القارئ ، الذي يمكن أن تؤدي دقيقة غيظ أو خور إلى خسرانه جميع ثمرة صبره السابق.
والحق أننا لا نزعم أن فكرة تثبيت النجوم على أفلاك من بلور مشتملة على هذه وتلك، ومنح هذه الأفلاك أرواحا وعقولا، تنطوي على فائدة في زماننا، وإنما نريد الإشارة إلى أن هذه الفكرة إذا ما وضعت في مكانها في تاريخ معتقدات الإنسان، وجد أنها - بالأمد الطويل الذي شغلت فيه ذهن الإنسان - تعود مهمة ممتعة جميلة، فتستحق ضربا من الاحترام بسبب عمق الجذور التي تغرس في الماضي. والحق أن اعتقاد حياة النجوم ليس شيئا غير حال خاصة عجيبة لاعتقاد حياة الطبيعة، التي تسمى في تاريخ الأديان بالطبيعية،
2
وأن الأرواح عند الرجل الفطري كانت تسيطر على النجوم كما كانت تسيطر على الرياح والسحب ومجاري المياه ونمو النباتات، وإنما امتازت أرواح النجوم - في نظر راصدي كلدة باكرا - من القوى الروحية في الطبيعة الأرضية، وارتقت فوقها بالجلال والصفاء والتناسق في مظاهرها، وقد حقق أكثر العلوم ابتدائية تباين ما بين طبيعة الموجودات الدنيا، الخاضعة للتولد والفساد، والذاهبة في تقصي مركب الظاهرات الجامحة المتقلبة، وطبيعة الموجودات الفلكية التي تبدو ناجية من الولادة والممات، فتقوم بحركاتها الموزونة في الفضاء الثابت قياما بهيا، ولو كان الهدوء والخلود يناسبان الآلهة الأعلين لكان النجوم هؤلاء الآلهة، وبما أن الآلهة خالدون - كما يلوح - فإن أجسامهم الإلهية صنعت من مادة غير مادة أجسامنا القابلة للانحلال.
Bog aan la aqoon