4
قال ابن سينا: «فأما السكون، فالزمان لا يتعلق به، ولا يقدره إلا بالعرض؛ إذ لو كان متحركا ما هو ساكن لكان يطابق هذا الجزء من الزمان، والحركات الأخرى يقدرها الزمان، لا بأنه مقدارها الأول، بل بأنه معها كالمقدار الذي في الذراع يقدر خشبة الذراع بذاته ويقدر سائر الأشياء بتوسطه؛ ولهذا يجوز أن يكون زمان واحد مقدار الحركات فوق واحدة.» والواقع أن الأجسام الطبيعية - وفق هذا المنهاج - لا تكون في الزمان مباشرة، وإنما تكون أولا في الحركة التي تكون في الزمان. وقد عبر عن هذه الفكرة البالغة الدقة في العبارة التي جاءت بعد الكلمة المذكورة: «والجسم الطبيعي في الزمان لا لذاته، بل لأنه في الحركة والزمان.»
ويحكم - بمطلع هذا التحليل - في السهولة التي وقعت بها معالجة هذه المبادئ، وقد كان سكلاسيو الشرق كثيري الاستقلال في أفكارهم حول الزمن، وهم لم يقاسوا عسرا في عده محدثا، في عده مخلوقا. وما أكثر ما اعتبر تفكيرهم نفسه محررا من الشرط الزماني، الذي يبدو لنا أكثر جبروتا في الوقت الحاضر.
وانظروا إلى مقدار البساطة التي يتكلم بها ابن سينا
5
عن ذلك. قال ابن سينا: «ليس الزمان محدثا حدوثا زمانيا، بل حدوث إبداع لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة، بل بالذات، ولو كان له مبدأ زماني لكان حدوثه بعدما لم يكن؛ أي بعد زمان متقدم»، وهذا ينافي الفرضية القائلة بوجود أصل له، «فالزمان مبدع؛ أي يتقدمه باريه فقط»، وقد يحاول بعض الناس عد هذه التأملات رفيعة الشأن ، ولكن القارئ الذي يتفضل بالاطمئنان إلى سياق مؤلفنا بلا غرض يحكم بسذاجتها من ناحيتها العقلية أكثر من أن يرى ذلك؛ ولذا فلنواصل التحليل. «ومعنى المحدث الزماني أنه لم يكن، ثم كان. ومعنى لم يكن أنه كان حال هو فيه معدوما، وذلك الحال أمر قد وجد». وأما الزمان فإنه لم يحدث في الزمان، ومثل هذا أمر الحركة، لا كل حركة، بل حركة السماوات المستديرة، والواقع أنه يجب أن نتعود الفكرة القائلة - في هذا المنهاج - إن حركة الأفلاك السماوية، أو الفلك الخارجي على الأقل، قد وضعت مثل مبدأ لجميع فعالية العالم على الوجه الذي سنوضحه؛ وذلك أن الزمان ليس سوى خضوع لازم لهذه الحركة، «فالزمان مقدار للحركة المستديرة». وهذه هي النظرية التي كنا قد لقيناها عند الكندي، وبما أن هذه الحركة متصلة فالزمان متصل.
ويقول ابن سينا مواصلا: إن جميع الموجودات ليست في الزمان حادثة في الحال، «بل الشيء الموجود في الزمان. أما أولا فأقسامه، وهو الماضي والمستقبل، وأطرافه وهي الآنات. وأما ثانيا فالحركات، وأما ثالثا فالمتحركات، فإن المتحركات في الحركة، والحركة في الزمان، فتكون المتحركات بوجه ما في الزمان»، وتكون الآنات كالوحدات في العدد، وتكون المتحركات ككون المعدودات في العدد، وكل متصل من المقادير الموجودة قد يفصل فيقع عليه العدد، فلا عجب لو فصل الزمان، ولا يكون ما لا يدخل في الأصناف الثلاثة المذكورة، في الزمان، بل إذا قوبل مع الزمان واعتبر به، فكان له ثبات مطابق لثبات الزمان وما فيه، وسميت تلك الإضافة وذلك الاعتبار دهرا له، فيكون الدهر هو المحيط بالزمان، ويطبق القياس الزماني على الأشياء التي ليست ضمن الزمان بواسطة هذا الدهر الثابت. ولا بد من الاعتراف بأن هذا تحليل نفاذ يمكن الانتفاع بكثير منه في هذه الأيام.
وقد يكون من الممتع أن يستمع إلى قول ابن سينا عن السرعة؛ وذلك لكلامه عنها بروح سكلاسية، فبعد أن لاحظ ابن سينا
6 «أن كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة»، وضع لنفسه سؤالا قائلا: علام يطبق هذا المقدار ، فاسمع جوابه: «وهذا المقدار وجوده في مادة؛ لأنه يوجد منه جزء بعد جزء، وكلما كان كذلك فكل جزء يفرض منه حادث، وكل حادث ففي مادة، أو عن مادة، وليس هذا عن مادة؛ لأن مجموع المادة والصورة لا يحدثان حدوثا أوليا، بل الهيئة والصورة. فهو - إذن - مقدار في مادة، وكل مقدار يوجد في مادة وموضوع. فإما أن يكون مقدار للمادة أو الهيئة فيها، ولكن ليس هذا المقدار للمادة؛ لأنه لو كان مقدارا للمادة بذاتها لكان بزيادتها زيادة المادة، ولو كان كذلك لكان كل ما أسرع أكبر وأعظم، والتالي باطل، فالمقدم باطل، فإذن هو مقدار للهيئة.»
وقد ترجمنا هذه العبارة التي هي على شيء من الطرافة بأسلوبها، ولكن النتيجة فيها ممتازة أيضا. وحاصل القول: إن ابن سينا يضع مبدأ الحركة في هيئة لمادة المتحركات، فالحركة تكون بالقوة في هذه الهيئة، ثم تنتقل إلى الفعل مقدارا فمقدارا، قال ابن سينا في موضع آخر:
Bog aan la aqoon