55
ولا يتفق لهذا الطراز مثل ذاك الاعتبار كما يلوح. ومن دواعي الدهش - على ما يحتمل - كون العنعنات الأفلاطونية الجديدة السائدة للعرب لم تحو- على رأس مؤلفي اليونان الذين عرفوهم - اسم فلوطين المعدود من أهم أساتذة الأفلاطونية الجديدة، والواقع أنه كان من النادر ذكر فلوطين من قبل العرب الذين كانوا يميزونه - مع ذلك - بلقب «الشيخ اليوناني»،
56
ومع ذلك فإن اسم فلوطين - إذا ما جرد من حروف العلة - على حسب عادة المؤلفات السامية، شابه اسم أفلاطون مشابهة مؤلمة، فحدث غير مرة أن احتمل أفلاطون - الذي هو أشهر الاثنين - مسئولية آراء شبه سميه، حتى إن هذا حدث لأرسطو، مع أن السبب أقل من ذلك كثيرا، وذلك أن كتابا، لم يشتمل بالحقيقة على غير مقتطفات من الجزء الرابع والجزء السادس من كتاب الإنياد لفلوطين، ترجم في ذلك الزمن، فانتشر تحت اسم أرسطو في القرون الوسطى، ولا مراء في أن ذلك من أغرب القصص عن الاختلاق في الفلسفة، وهو يستحق أن نقف عنده دقيقة قبل إغلاق هذا الفصل.
وعلم اللاهوت (الأثولوجيا) لأرسطو،
57
وهذا هو عنوان الكتاب، قد ترجم إلى العربية من قبل ابن ناعمة الحمصي حوالي سنة 226. وقد أعاد الكندي الشهير النظر في هذه الترجمة من أجل أحمد بن الخليفة المعتصم، واتفق لهذا الكتاب رواج كبير في الشرق، وتكلم عنه اليهودي موسى بن عزرا، مطلقا عليه اسم بدلاخ، الذي يرجح أنه ليس شيئا غير كلمة أثولوجيا المحرفة بنقل نقاط شكلية، وقد شرح باللاتينية في عصر النهضة هنا، وظهر برومة سنة 1519 تحت عنوان «علم اللاهوت أو الفلسفة الصوفية للعلامة أرسطو على رواية المصريين، وقد وجدت مؤخرا، ونشرت باللاتينية بعد التهذيب والتنقيح». وقد أعيد طبعه بباريس سنة 1572.
وإليك مع الاختصار، كيف تظهر هذه «الأثولوجيا»، وهي على سوء انتظامها تسيطر عليها معضلة الواحد والتعدد، كما يلوح بسرعة. «فالواحد الخالص هو علة جميع الأشياء، وهو ليس أحد الأشياء، وإنما هو مبدأ كل شيء، وهو ليس الأشياء بنفسه، وإنما ينطوي على جميع الأشياء»، وكل يصدر عنه، فالعقل يصدر عنه في البداءة بلا واسطة، ثم إن جميع الأشياء التي في العالم المعقول الأعلى تصدر عن هذا العقل، ثم إن الأشياء التي في العالم الأسفل تخرج من أشياء العالم المعقول، وهي تخرج من الواحد بوساطتها.
ويجب أن يدرك على الوجه الآتي هذا الصدور عن العقل الأول، وذلك أن الموجود الأول يقف بعد خروجه من الواحد، ويلقي نظراته على الواحد ليراه، فهنالك يصير عقلا، وتصير أفعاله مشابهة لأفعال الواحد المحض؛ وذلك لأنه بعد أن يلقي نظراته على الواحد، ويراه وفق قدرته يفيض الواحد عليه قوى كثيرة كبيرة ، وهنالك تخرج صورة النفس من العقل من غير أن يتحرك العقل، وكما خرج العقل من الواحد المحض من غير أن يتحرك الواحد؛ ولذا فإن النفس معلول لمعلول، وهي تعود عاجزة عن إحداث الفعل من غير حركة، ويكون ما تحدث زائلا، وسنرى فيما بعد أن فلاسفة العرب تمسكوا بهذه النظرية.
والنفس التي تخرج من العقل هي صورة العقل، ولا يقوم عملها إلا على معرفة العقل والحياة، التي تجعلها تفيض على الأشياء بدورها. والعقل العام كالنار، والنفس العامة كالحرارة التي تشع من النار حولها، ويسمى عمل النفس صورة. ومتى أرادت النفس أن تنتج نظرت إلى خيال الشيء الذي تريد أن تنتج، وهي بهذا النظر تمتلئ قوة ونورا، ثم تتحرك إلى الأسفل وتكون الصورة التي تخرج منها محسوسة. وهكذا فإن النفس تكون متوسطة بين عالم العقل والعالم المحسوس مرتبطة فيهما، وهي عندما تتحول عن تأمل العقل لتتجه إلى الأشياء السفلى تنتج الأفراد وفق مراتبهم؛ أي تنتج أفراد عالم الكواكب وأفراد العالم الأرضي. ولكل موجود في العالم السفلي مثاله في العالم العقلي. أجل، تكون النفس - التي هي رابطة ما بين العالمين - جميلة بالنسبة إلى المحسوس لتعلقها بالعقلي، وتكون بشعة بالنسبة إلى العقلي لتعلقها بالمحسوس، بيد أن صورة النفس جميلة دائما، ويصدر جمال الطبيعة عن جمالها.
Bog aan la aqoon