والنفس هاربة والموت يرصدها
وكل عثرة رجل عندها زلل
والمرء يسعى لما يبقى لوارثه
والقبر وارث ما يسعى له الرجل
وعلى ما لعمرو بن عبيد من شهرة، فإننا لا نعرف غير القليل عن مذهبه، كما هو حاصل القول.
وبعد هؤلاء الأولين من المعتزلة أدخلت إلى الإسلام معرفة الكتب اليونانية، وقد درسها المعتزلة، فنبصر أي تقدم أسفرت عنه هذه الدراسة في مذهبهم، وأي غنى وصقل اتفقا له، وذلك بلقائنا بعد جيل أو جيلين طائفة من علماء هذه الفرقة، يجدر أن نذكر أبا الهذيل العلاف البصري على رأسهم، وقد ولد أبو الهذيل سنة 135، وكان بنو عبد القيس قد أعتقوه، ودرس الفلسفة في بغداد تحت إدارة أحد تلاميذ واصل بن عطاء، وألف عدة كتب لا نملكها مطلقا، واشترك في المجادلات الكلامية التي وقعت في عهد المأمون. وروى الشهرستاني أنه مات سنة 235 ابنا للمائة، غير أن أبا المحاسن روى أنه مات سنة 226، وهذه الرواية أرجح من تلك لا ريب.
لم يوافق أبو الهذيل موافقة مطلقة على رأي أسلافه في إنكار الصفات الإلهية، وإنما قال بالصفات على أنها وجوه تتجلى بها الذات الإلهية، وقد شبه الشهرستاني هذا المبدأ بمبدأ الأقانيم لدى النصارى. بيد أن هذا التشبيه ليس مقنعا؛ فقد روى هذا المؤرخ بأوضح من ذلك أن الصفات الإلهية عنده هي عين ذات الله، وأنها ليس لها غير معنى سلبي صرف، أو أنها تعبر - فقط - عما ينطوي عليه مفهوم الذات، ولم يقل أبو الهذيل إن الله عالم بذاته لا بالعلم، وإنما قال: إن الله عالم بعلم هو ذاته، والصيغة الأولى التي يمكن أن تكون صيغة المعتزلة السابقين تنفي الصفة، وتقول الصيغة الثانية بذات هي صفة اتحادا أو بصفة هي ذات اتحادا.
وتوجد هذه الدقة التحليلية الممتازة في القواعد الأخرى من فلسفة أبي الهذيل، وتعد نظريته في الإرادة الإلهية والبشرية ممتعة؛ فالإرادة في الله ليست سوى وجه للعلم، والله يريد كل شيء يعلم أنه خير. ويوجد نوعان للإرادات أو الأعمال الإلهية؛ فبعضها لا ضرورة لأن يكون في مكان، وإنما يحدث معلوله المباشر بنفسه، وذلك كالإرادات في نظام الخلوة، وهي ما يعبر عنها بكلمة: «كن»، وبعضها الآخر يحتاج إلى الوقوع في مكان لإحداث معلوله، وهذه هي الإرادات الأدبية التي يعبر عنها بأوامر الله ونواهيه وبلاغاته. وفي الإنسان تكون الإرادات والفاعلية الباطنية حرة وجوبا، ويقول عالمنا، على رواية الشهرستاني: إنه لا يمكن تصورها على شكل آخر، وهذا دليل على حرية الإرادة عن شعور بها. وأما الفاعلية الخارجية، فليست حرة بنفسها، ولكنها تكون - عادة - نتيجة لإرادات الباطن الحرة.
ونظرية أبي الهذيل عن حركة العالم على شيء من الغرابة، ويلوح أن هذا الفيلسوف حاول قبول المذهب اليوناني في دوام العالم من غير أن يناقض القرآن صراحة، وبما أنه لم يستطع الذهاب إلى حركة دائمة بلا بداية ولا نهاية، فإنه قال: إن الخلق هو في حركة العالم، وإن نهاية العالم هي دخوله في السكون؛ ولذا، فإنه يكون هناك دوام، وإن مادة تبقى ساكنة إلى الأبد.
ثم إن هذا السكون أدرك على وجه كثير اللاهوتية؛ وذلك أنه لا ينبغي اتخاذ هذه الكلمة ضمن معناها العادي، فحال السكون الأبدي للعالم هي حال النظام المطلق كما هو الأحرى، هي هذه الحال التي ينتهي إليها كل وفق سنن لازمة، وذلك طبق تبصر باق. ومجمل القول أن هذه حال ينقطع فيها كل هوى وكل حرية، ولا ريب في أن أبا الهذيل قد قصدها على هذا الوجه، وهو لم يدرك حرية الإنسان في غير هذا العالم كما روى الشهرستاني؛ فالناس بعد هذا العالم يدخلون في ضرب من حال الإطلاق التي هي حال سعادة بالغة لأناس، وحال عذاب هائل للآخرين.
Bog aan la aqoon