وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم أن هؤلاء الذين تكلموا في الأشياء التي من خارج - أعني في صدور الخطب، وفي الاقتصاص، وفي الانفعالات وما يجري هذا المجرى - لم يتكلموا في شيء يجري في الخطابة مجرى الجزء، وإنما تكلموا في أشياء تجري مجرى اللواحق، ومن أجل أنه معلوم أن الأشياء المنسوبة إلى هذه الصناعة إنما يقصد بها التصديق والاعتراف من المخاطب بالشيء الذي فيه الدعوى.
وللخطابة منفعتان: إحداهما أن بها يحث المدنيين على الأعمال الفاضلة، والثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معهم البرهان في الأشياء النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وليس واجبا أن نرى أنه قبيح بالإنسان أن يعجز عن أن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح أن يعجز عن أن يضر بلسانه الذي المضرة به مضرة خاصة بالإنسان.
فهذه الصناعة التي ذكرنا منافعها.
والخطابة هي قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المفردة، وليس كما ظن الذين ذكرنا أنهم تكلموا في الخطابة أن الفضيلة والأناة إنما هي نافعة في باب الانفعال فقط.
ومقدمات القياسات الخطبية قد تكون ضرورية، وذلك في الأقل، وتكون ممكنة، وذلك في الأكثر.
وكما يوجد الاستقراء والقياس في صناعة الجدل والبرهان، كذلك يوجد المثال في الخطابة، وقد يجب أن يفعل هاهنا في هذه الأشياء مثل ما فعل في كتاب الجدل، وكلما كان القول أكثر عموما كان أكثر مؤاتاة وتأتيا لأن يستعمل في أشياء كثيرة، وكلما كان أقل عموما كان أحرى أن يكون جزءا من صناعة مخصوصة.
ولما كانت هذه الصناعة قياسية؛ فمعلوم أنه يجب أن تكون فيها مقدمات من الضرورة الداعية لهذه الأشياء ومقدار الحاجة إليها، يقف الخطيب على مقدار ما يحتاج أن يشير به في واحد من هذه الأشياء.
وأجناس القول الخطبي ثلاثة: مشوري، ومشاجري، وتثبيتي.
وغاية الأول النافع والضار، وغاية الثاني الجور والعدل، وغاية الثالث الفضيلة والرذيلة.
والأمور التي يشير بها الخطيب: منها ما يشير به على أهل المدينة بأسرهم، ومنها ما يشير به على واحد من أهل تلك المدينة أو جماعة. فأما الأشياء التي تكون فيها المشورة في الأمور العظام من أمور المدن، فهي قريبة من أن تكون خمسة: أحدها الإشارة بالعدة المدخرة من الأموال للمدينة، والثاني الإشارة بالحرب أو السلم، والثالث الإشارة بحفظ البلد مما يرد عليه من خارج، والرابع الإشارة بما يدخل في البلد ويخرج عنه، والخامس الإشارة بالتزام السنن.
Bog aan la aqoon