رزق ابن رشد حظا آخر غير بعد الأثر واتساع مداه، وهو قوة الأثر وعمق البحث فيه وشدة الخلاف عليه.
فربما كان بعد الأثر واتساع مداه مسألة مسافات وأبعاد، ولكن قوة الأثر وعمق البحث فيه وشدة الخلاف عليه شيء آخر يقاس بدوافع الحياة والحركة النفسية ولا يقاس بالسنين والأمكنة.
وهو شيء في آفاق النفوس والعقول، وليس في آفاق الفضاء أو صفحات الأوراق. وقد رزق ابن رشد من هذا الحظ النادر أوفى نصيب، فما ظهرت فلسفته في مكان إلا انتصب فيه ميدان كفاح، وكان الكفاح عنيفا والاستبسال فيه من الجانبين على غايته في مجال الرأي والعقيدة.
فلم يحفظ لنا تاريخ الفكر مساجلة بين حكيمين في قوة المساجلة التي دارت بين ابن رشد والغزالي ومضاء سلاحها ونفاذ حججها وبراهينها، ثم تمت هذه المساجلة برد الإمام ابن تيمية (661-728ه/1263-1328م) الذي ناقش فيه براهين «مناهج الأدلة»، ووضع لعلم المنطق الإسلامي كتاب الرد على المنطقيين أو الرد في الحقيقة على العلوم الحديثة في زمانه، ومنها حساب الكواكب والنجوم.
ودامت هذه المعركة بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة إلى القرن التاسع للهجرة والقرن الخامس عشر للميلاد، فعهد السلطان محمد الفاتح العثماني إلى عالم زمانه خوجه زاده (المتوفى سنة 893 للهجرة) بالموازنة بين كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي وكتاب «تهافت التهافت» لابن رشد، فوضع في ذلك كتابه المشهور، وهو مطبوع بالقاهرة مع الكتابين في مجلد واحد.
أما في أوروبا فلم تنقطع المناقشة في الفلسفة الرشدية من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، ثم كان لها استئناف في القرن التاسع عشر على يد المؤرخ الباحث إرنست رينان (1823-1892) صاحب كتاب حياة المسيح وكتاب ابن رشد والرشدية وغيرهما من كتب البحث والتاريخ.
وشملت المعركة معسكر اللاهوت المسيحي ومعسكر اللاهوت الإسرائيلي في وقت واحد.
فعلى الرغم من تحريم المجمع الكنسي لهذه المباحث في أوائل القرن السادس عشر (1512) ظلت المعركة محتدمة طوال ذلك القرن، ولم تزل كذلك حتى اختتمت بالمساجلة الكبرى بين المتفلسفين الإيطاليين أشليني
Achillini
وبومبوناتسي
Bog aan la aqoon