المعاذير، وقال إنه قد أملاها «ملك البرين» فصحفها النساخون حين نقلوها إلى ملك البربر ... إذ كان سم الوقيعة قد سرى مسراه ووافق ما كان في نفس الأمير من الغيظ لمناداته باسم الإخاء، فلم يدفع عنه عذر النديم ما جلبه عليه صدق العلماء.
أو لعله قد وافق في نفس الأمير غيظا آخر لم يكن صاحبنا الفيلسوف يلتفت إليه أو يحسبه مما يعاقب عليه؛ فقد كان يصادق أخا الخليفة (أبا يحيى) والي قرطبة كما كان يصادق الخليفة ... فلم يعدم واشيا يقول، وسامعا يسمع أن وراء هذه الصداقة للأخ عداوة مستترة لأخيه، توشك أن تنكشف عن تمرد وعن ولاء للمتمردين.
ولما أراد الخليفة أن ينكبه لم يذكر في أسباب نكبته سببا من هذه الأسباب بطبيعة الحال، بل أحال على الدين تبعة هذه النكبة كما سيأتي بيانه، وأعلن من ذنوب الفيلسوف ما هو ذنب الأمير في باطن الأمر؛ لأنه تعلل عليه بإدمان النظر في كتب القدماء، وقد كان أبو الأمير هو مغريه بالنظر فيها ومعالجة شرحها وتيسيرها لطلابها. (2) نكبته وأسبابها
يحتاج المؤرخ في كل مصادرة فكرية أو دينية إلى البحث عن سببين: أحدهما معلن والآخر مضمر، فقليلا ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح، وكثيرا ما كان للنكبة - غير سببها الظاهر - سبب آخر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان، ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة، ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد.
لقد نكب بشار ولم ينكب مطيع بن إياس، وكلاهما كان يتزندق ويهرف
8
في أمور الزندقة بما لا يعرف، ولكن بشارا هجا الخليفة، ومطيع لم يقترف هذه الحماقة، فنجا مطيع وهلك بشار.
ولم يكن ابن رشد أول شارح لكتب الأقدمين، فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها، وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه، ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يكن يحسن هذه الصناعة، فنكب ابن رشد ولم ينكب ابن باجة، ولم يغن عن الفيلسوف المنكوب أنه شرح الكتب كما تقدم بأمر من أبي الخليفة.
وقد كتب المؤرخون كثيرا عن اضطهاد اليهود في دولة الموحدين، وقيل إنهم كانوا مضطهدين تعصبا من رؤساء الدولة لمخالفتهم إياهم في الدين، وحقيقة الأمر أن الخليفة كان يتهم الذين تحولوا منهم إلى الإسلام كما كان يتهم الباقين على دينهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، وقد كان بعضهم على صلة بخدمة الإفرنج. وجاء في كتب «بغية الملتمس» أنه كان في صحبة جيش الأذفنش تجار من اليهود وصلوا لاشتراء أسرى المسلمين.
فلم يكن اضطهاد هذه الطائفة لمخالفتها في الدين، ولكنها اضطهدت لما خامر أصحاب الدولة من الشك في مساعيها الخفية، ومنها ما يخشى ضرره على الجيش في إبان القتال، وأما في غير هذه الحالة فلم يكن ثمة اضطهاد ولا مصادرة، وكان من اليهود من ارتقى إلى مناصب الوزارة.
Bog aan la aqoon