هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد. ولد في قرطبة في منتصف القرن الخامس، وبرز في الفقه حتى صار كما يقول الضبي في «بغية الملتمس»: «أوحد زمانه فيه.» ونبت نباتا حسنا، فعرف له المرابطون - والموحدون من بعد - فضله في الفقه والدين مع الخلق الكامل، فصار صاحب الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، وقاضي الجماعة بها، كما يذكر ابن بشكوال، صاحب كتاب «الصلة»، معاصره وأحد مؤرخي أئمة الأندلس وعلمائها ومحدثيها وفقهائها وأدبائها.
وكان لتقدمه في الفقه على جميع معاصريه مفخرة من مفاخر الأندلس، ونجعة رائدي التفقه من جميع أقطارها، والمرجع في المشكلات وعظائم الأمور طيلة حياته، كما كان مشاركا في علوم أخرى كثيرة، «مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن والهدي الصالح».
وبعد أن ذكر هذا المؤرخ الأندلسي قدرا من مؤلفاته، ومنها كتاب «المقدمات» المشهور الذي عرفه المستشرقون أكثر من المسلمين، أشار إلى أنه سار في القضاء بأحسن سيرة، وأقوم طريقة، ثم رأى الخير في أن يستعفي منه فأجيب إلى طلبه، وعمل على نشر كتبه وتواليفه، كما أشار إلى أنه كان محببا إلى الناس، لحسن خلقه، وسهولة لقائه، وكثرة نفعه للمتصلين به، فكان الناس يلجئون إليه ويعولون في مهماتهم عليه، واستمر كذلك حتى توفي عام 520ه، بعد أن اكتحلت عيناه بمرأى حفيده فيلسوفنا العتيد، وأنس به عدة أشهر.
ويكاد مؤرخو الأندلس وعلماؤها، ومنهم الضبي وابن بشكوال وابن الأبار، ثم قاضي القضاة ابن فرحون في كتابه «الديباج المذهب»، يجمعون على وصف ابن رشد الجد هذا بما عرفنا في نفسه وخلقه وعلمه، وحب الناس له، وإكبارهم إياه، وفي ذلك ما يستدعي أن نقف قليلا.
هذا الثناء الذي لا تعقيب عليه ممن أرخه من العلماء المعاصرين له، أو الذين تأخروا عنه قليلا، يؤكد لنا بحق حسن خلقه، وجميل عشرته للناس، وكثرة بره لهم، حتى غلب ذلك ما يكاد يكون طبيعة من تحاسد النظراء، وتعادي الأكفاء المعاصرين.
ابن رشد الأب
هذا ابن رشد الفقيه أو الجد. أما ابن رشد الأب؛ فقد يكفي أن يقال فيه: حسبه أن يكون ابن الجد وأبا الحفيد، ولكنه مع هذا كان ابن أبيه في الفقه والعلم، فأخذ عنه وتفقه به، وولي كذلك قضاء الجماعة، كما ذكر ابن الأبار المحدث الفقيه في كتابه «المعجم»، كما ورث عنه الخير والفضل، فكان محببا إلى الناس بارا بهم، كما يروي ابن بشكوال. وكانت وفاته في عام 563ه في شهر رمضان.
ابن رشد الحفيد أو الفيلسوف
تحدر ابن رشد الطفل من هذا البيت، الذي له - كما عرفنا - المركز العالي المرموق في العلم والقضاء، والمنزلة الرفيعة لدى الأمراء، ورأى الحياة عام 520ه بمدينة قرطبة، وهي سوق العلم ومركز العلماء في ذلك الحين.
ونشأ وهو فتى في هذه البيئة العلمية؛ فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والأصول وعلم اللغة والكلام والأدب، وأخذ عن أبيه أبي القاسم في الفقه ونحوه من علوم الدين، فاستظهر عليه موطأ الإمام مالك، وأخذ أيضا عن غيره من جلة الفقهاء: أمثال أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر سمحون، كما يذكر ابن الأبار في كتابه «التكملة».
Bog aan la aqoon