لا يقيم بيلاطس ببرج أنطونيا الذي أصبح مقرا للشرطة إلا في الأعياد، ويحرس أبوابه وجسوره كتائب من الرومان، وينظر بعض ألوف الغرباء إلى هذا البرج القيصري المسيطر على المدينة بعين الخوف، وبعضهم بعين الاحترام، ويتجمهر جمع كبير خلف الكهنة المتوجهين إليه لابسين حلل العيد. وليس دخوله مباحا لهم، فمما يدنسهم أن يدخلوا قلعة المشركين في يوم عيد، فرئي للخروج من هذا المأزق أن يصنع أمام حائط القلعة محكمة من خشب؛ ليجلس فيها الوالي الروماني أيام إقامته هنالك.
وبيلاطس يرى اقتراب الموكب فيمر من الباب محاطا بضباطه وحملة فئوسه، فيستقبل واقفا رئيس الكهنة ورئيس المجمع الكبير قيافا، وينظر إلى المقيد بين الكهنة فيسأل بغلظة: «أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟» والوالي الروماني إذا ما خلا إلى رئيس الكهنة؛ ليفاوضه في غرفته، حاول الاثنان أن يتفاهما بأدب ما رغبت رومة في إرضاء رعاياها، وما رغب قيافا في وال أنيس. واليوم يتكلم الوالي أمام الشعب بصوت جاف قاس ما بدا ممثلا لرومة العظمى!
ومن أقصى أهداف الوالي ألا يبدو محابيا لحزب من أحزاب اليهود، فأمر حملة الفئوس بفصل يسوع عن قضاته، وجلبه إلى قاعة الحكم بداخل القلعة. ومن المحتمل أن يكون قد فعل هذا اتباعا لأحد التقاليد، ومن المحتمل أن يكون قد فعله لما ألقاه في روعه منظر مدين عرف أوضاعه وأحواله منذ زمن طويل، ثم يعود إلى الكهنة فيسمعهم يقولون بلسان واحد: «إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى جزية لقيصر.» ويكررون ذلك إلى أن يشير عليهم قيافا بالسكوت فيقول لبيلاطس: «يقول إنه المسيح، ملك اليهود!»
والذي رسم لرئيس الكهنة قيافا خطته هذه هو الداهية حنان؛ فقد نصحه بأن يجعل من القضية الدينية قضية سياسية ضد شخص خائن لرومة؛ لما للقضية الدينية وحدها من قليل أثر في وال مشرك كبيلاطس، ويحار بيلاطس، ويدخل من الباب ليسأل يسوع المتهم.
ويظل يسوع، في تلك الأثناء، هادئا ناظرا وهو واقف إلى ما يحيط به، فيرى داخل القاعة مصنوعا من الحجارة الثمينة المزينة، ويرى خلف تلك القاعة حديقة جميلة يوصل إليها بمسالك رائعة، ويرى الحمائم تطير حول حوض الماء، فيقول في نفسه صامتا غير حاقد: بمثل هذه المنازل يقيم الأقوياء في هذا العالم! وهو الذي لم يدخل قصرا أو برجا قبل ذلك قط.
دخل بيلاطس فدنا منه فأخذ يسأله باليونانية موجزا، فلا يكاد يفهم سؤاله، قال بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟»
يشعر النبي بموجة عطف في عروقه كالتي كان يشعر بها في الغالب عند مصاقبته للمشركين، فلا يجد فيهم ما يجده في اليهود من الغرور. وليس بمستبعد أن اعتقد وجود حنو في هذا الجندي مع عطل أولئك الكهنة منه، كما يدل عليه جوابه عن أسئلة بيلاطس بأسئلة أخرى؛ كقوله: «أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟»
تبسم بيلاطس فقال على الطريقة اليهودية: «ألعلي أنا يهودي؟» ثم سأله بأسلوب القضاء: «أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلي، ماذا فعلت؟»
رأى يسوع أن يوضح لهذا المشرك ما عجز عن فهمه أعداؤه من بني قومه، فلعله يجد في هذا الجندي رجلا يستطيع أن يدرك حقيقة أمره، فقال له بصوته الناصري الرخيم: «مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أسلم إلى اليهود.»
ويستمع بيلاطس له متعجبا فيجد فيه متهوسا متحمسا يمكن الانتفاع به ضد أولئك اليهود المغرورين، فيسأله باهتمام: «أفأنت إذن ملك؟»
Bog aan la aqoon