ويعلم يسوع حضور الكتبة، وهو لو لم يرهم لشعر بقربهم منه، وهو يعترض عليه للمرة الأولى في حياته بالنظام العام وبالشريعة وبأورشليم، ومثل هذا ما رآه حينما تصدى رسل مجلس السنهدريم ليوحنا مؤنبين مجادلين، فكانوا رسل الناس أمام رسول الله، فلم يختلفوا عن هؤلاء عبوسا ورفع أصابع، فيتمثل يسوع شخص المعمدان وصوته، ويتذكر قوله: «يأتي من هو أقوى مني!» وسؤاله عما إذا كان هو الذي أقوى منه، فينتبه فيه شعوره بقدر نفسه بغتة، بعد أن رقد فيه بفراره، فيبعث فيه حب مهاجمة العدو علنا، وإلى هذا يضاف ما يساور يسوع من القلق التقليدي عند نظره إلى تلك الوجوه، كما يضاف إليه توتر الوضع الحاضر. وليس في سؤال الكتبة المضحك ما يستحق أن يجيب عنه؛ وإنما يلوح أن سلاحا خفيا أصبح في يديه المعصومتين، فتحدى أعداءه في الميدان العام بصوت المعمدان الرخيم: «وأنتم أيضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم؟ فإن الله أوصى قائلا: أكرم أباك وأمك، ومن يشتم أبا أو أما فليمت موتا، وأما أنتم فتقولون: من قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به منى، فلا يكرم أباه أو أمه؛ فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم. يا مراءون! حسنا تنبأ عنكم إشعياء قائلا: يقترب إلي هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيدا، وباطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس.»
وهكذا يناهضهم يسوع بتقاليدهم، وهكذا يخاصمهم بكلام أنبيائهم، وهكذا يصفعهم بما يألم به من أثرتهم الأثيمة. ويظهر أن سهمه مس القلب فلم يقولوا كلمة، بل انقلبوا راجعين؛ وإنما أصاب سهمهم الذي صوبوه إليه مقتلا منه حينما حل وقت انتقامهم.
ويشعر يسوع بأن كلامه ناري، ولم يكلم يسوع الشعب منذ وقت غير قصير، ولم يحدث أن خاطب يسوع الشعب بمثل تلك الشدة، ويحدث يسوع الجمهور بحماسة يوحنا، وعلى ما تراه من وجود يسوع في بلد صغير كثير الغبار، فإنه يستأنف بذلك القول حكم أورشليم لدى بلاد الجليل بأسرها، ويهزأ يسوع بحظر بعض أنواع الطعام على أنه غير نظيف خلافا لأحبار أورشليم، فيقول على مسمع من أولئك الكتبة: «ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان.»
وذعر تلاميذ يسوع، فهم لم يروه هائجا مثل ذلك فيما مضى، وساورهم القلق من حدوث صراع جديد، فدنوا منه قائلين له بصوت خافت: «أتعلم أن الفريسيين لما سمعوا القول نفروا؟» ولكنه، وهو الذي كان حليما حذرا، لم يضبط نفسه في هذه المرة بعد أن تعاقبت الصور في ذهنه، فتحفزه إلى الاستهزاء بالفريسيين، فيقول بصوته الداوي: «كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع، اتركوهم، هم عميان قادة عميان، وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة.»
ألم يسمع وراءه صدى لضحك إلحادي؟ ويزيد تلاميذه غما، ويود بطرس ردعه فيقول له: «فسر لنا هذا المثل!» فيألم يسوع من قطع كلامه، فيجيب مؤنبا: «هل أنتم أيضا حتى الآن غير فاهمين! ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج، وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان؟» ويتطاير الشرر من عيني يسوع خلف الفريسيين الذاهبين فيقول: «من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف، هذه هي التي تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة؛ فلا ينجس الإنسان.»
وبهذا يكون يسوع قد أجاب عن سؤال الفريسيين المثير، وليعودوا إلى الكهنة إذن! وليحدثوهم عن جرأة يسوع النجار المتعصب إذن! ولتعلم أورشليم ذلك إذن! وهكذا يصرح يسوع لأعدائه أمام الناس بما يجول في خاطره نحوهم، فيفك قيوده فيصبح طليقا. •••
يزيد عدد مستمعي يسوع مرة أخرى فيتبعونه برا وبحرا في رحلاته، ويستقر يسوع أقل من قبل، وتقل خططه الصريحة أكثر من قبل، ويلتفت يسوع إلى خلفه في الغالب باحثا عن مكمن الخصم، ويضاعف إعلانه العداء عدد أتباعه لا ريب، ما انحاز إليه الفلاحون بغرائزهم ضد الكهنة، فهل قاسمهم الكهنة همومهم؟ وهل طالبوهم بغير مراعاة الشريعة؟ أفلا يمشي الكهنة في الأسواق مفتخرين بتقواهم مجتنبين غيرهم؟ وعكس هذا أمر يسوع الذي لم يفاخر بشيء، فكان يعاشر الفلاحين وينفخ فيهم روح الشجاعة ما دام واحدا منهم.
ولم يمنع ذلك من أن يكون إيليا أو غيره من الأنبياء الذين يظهرون قبل بدء العصر السعيد، ولكن أولئك لم يفكروا في أنه هو ابن داود أو المسيح، فكانوا يدعونه بابن الإنسان الذي سمى به نفسه مؤمنين بأنه صالح الأعمال في هذه الدنيا، أفلا يجيء إليه الفريسيون أنفسهم طالبين منه العون عند اشتداد الحاجة؟ ليس قليلا أن يلجأ إليه كهنة المعابد راكعين. ومن هذا أن جاءه رئيس المجمع فقال له متوسلا: «إن ابنتي الآن ماتت، ولكن تعال وضع يدك عليها فتحيا.» فيوافق يسوع على ذلك فيتبعه الجمهور فيسمع صراخ الخدم وهم يقولون: «ماتت البنت!» ويعرف يسوع تسرع الخدم في نعي المحتضر، فيسرع ماشيا ومعه بعض تلاميذه، فيدنو من البنت المغمى عليها فيقول: «لماذا تضجون وتبكون؟ لم تمت الصبية؛ لكنها نائمة!» فيضحكون عليه، فيخرج الجميع خلا أبوي البنت فيقول لأبيها: «لا تخف، آمن!» ثم يمسك بيدها ويقول لها: «يا صبية، قومي !» فيخضعها لإرادته على حسب عادته فتقوم.
ويستولي الدهش والخوف على الجميع، فإذا كان يسوع قادرا على إحياء الموتى؛ فإنه يكون ساحرا من النوع الهائل لا ريب، وإن قدرة الشفاء التي كانت تمهد له السبيل في البداءة فتبدو عاملة في انضواء الناس إليه؛ تقف حائلا بينه وبين الجمهور كما حدث في أمر خنازير جدرة، ثم تفض الناس من حوله كما هو واقع اليوم.
خاب أمل يسوع في ذلك الشعب بعد أن أسرف في حبه والصبر عليه، وكيف لا يفكر في تلك المرأة الوثنية التي هي على خلاف أهل ذلك البلد؛ حطمت قيود العناد بإيمانها المتين؟ والآن يبدأ يسوع بتعزير الجمهور الذي أكثر من إلقاء السكينة إلى قلبه، فيقول مغاضبا: «ويل لك يا كورزين، ويل لك يا بيت صيدا؛ لأنه لو صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديما في المسوح والرماد؛ ولكن أقول لكم: إن صور وصيداء تكون لهما حالة أكثر احتمالا يوم الدين مما لكما، وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية؛ لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم.»
Bog aan la aqoon