يا لتلك الطريق ذات المخاطر التي فتحت أمام يسوع بغتة! يا لذلك الابتلاء في سؤال يوحنا الذي قد يكون إنذارا من الرب! ظل شعور يسوع بقدره راقدا فيه منذ صباه لسيره مع الله لا مع الناس، فلم يتحرك فيه إلا لوقت قصير بعد العماد والقبض على المعمدان، ثم تنبه فيه فجأة عند طرح ذلك السؤال عليه. ويسوع إذ رأى المعمدان يربكه للمرة الثالثة أملى احترامه للأنبياء عليه شعورا بأن المعمدان أرسل ليمهد له السبيل. ويسوع حين أبصر خصومه وفكر في المؤامرات التي تحاك حوله، وشاهد زيادة عدد من يؤمنون به، ومن شفاهم، ومن يعبدونه سمع النداء أعلى مما كان عليه؛ لقربه منه.
بدت حماسة قوية في يسوع النبي بعد ذلك القول، فلام المدن التي تم على يديه كبير شفاء فيها؛ لعدم إيمانها، وحذرها من يوم الحساب، وأنذرها بعذاب أشد مما أصاب سدوم، وأصبح جديدا غضبه ولهجته وكلامه، فيقابل بهز الرءوس، وتبع يسوع بعض تلاميذه، وتوجهوا معه إلى شاطئ البحيرة الآخر، وأوغلوا بين الأودية والجبال.
وإن تلك العوامل لتؤثر في يسوع؛ إذ أخبره تلاميذه بأن أمه وإخوته خرجوا ليمسكوه قائلين: «إنه مختل.» وليس قريبا الوقت الذي أضحى به هؤلاء غرباء عنه، ومما حدث في تلك الأثناء أن كانت امرأة من الشعب في حالة وله ووجد فقالت: «طوبى للبطن الذي حملك!» فلم يقابلها بالشكر، بل قال: «طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه!»
وإذا أضفت ما كان عليه يسوع من المحنة الروحية إلى عده ممسوسا من أولئك؛ وجدت نفسه مكلومة مرتين. أليس هذا الجحود مما يحفز قلبا جريحا إلى السير قدما في سبيل المجد؟ يجعل مثل هذا الجحود من أهله سبب ابتلاء له ما عدوه مفتونا؛ على حين تحترمه بلاد الجليل وتقدس له، وليست الناصرة بعيدة من تلك الأودية، فإذا غادر هذه صباحا انتهى إلى تلك مساء، فأمر تلاميذه بأن يظلوا حيث هم راغبا في الذهاب وحده ، فسار وشاطئ البحيرة الجنوبي، ومر بالقرب من المجدل، ومن المنطقة الغربية ذات العوارض تاركا جبل تابور عن شماله، ماشيا على طريق يعرفها جيدا.
يا لمضي الزمن! يا لسرعة دقات قلبه! أحقا أنه وجد أهله منذ بضعة أشهر في عرس بقانا الواقعة في تلك الأودية، فأحدث للضيوف خمرا، فعرف أمره؟ أجل، إنه جاب عالما في بضعة أشهر! والآن تبدو له أنوار تلك المدينة الصغيرة البيضاء الجاثمة فوق الوادي الأعلى، فيراها كما كانت عليه حينما تركها، ويسمع خرير الماء، ويدخل الكوخ، ويكون بين أهله، يا لشدة ذعرهم حينما أبصروه! أخوه يعقوب تقي ويراعي أحكام الشريعة، ويتبع رضوان الفريسيين، وتظهر على أمه وأخواته، على الخصوص، علائم الخوف؛ إذ ينظرن إليه بعد أن ترك حرفة النجارة من غير سابق إنذار، فيعود الآن بهدوء مثله يوم ذهابه، كما لو لم يحدث شيء، وغدا سيكون السبت، فماذا يقع؟
وينهض يسوع غدا صباحا في المعبد؛ حيث قضى شبابه صامتا، ويخبر الكاهن بأنه يرغب في الكلام فلا يمنع، فيحضر الخادم إليه سفر إشعياء، فيتوجه إليه الحضور بين ناظر وحاذر، فماذا يكون وعظ ابن الناصرة هذا؟ أفيحرك أفئدة الجمع بعذب الكلام كما صنع في غير مكان؟ نشر يسوع الرق قليلا فوجد الإصحاح الذي يرغب فيه، فقرأ من سفر إشعياء: «روح الرب علي؛ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب؛ لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز
17
بسنة الرب المقبولة.»
ثم يطوي يسوع الرق، ويعيده إلى الخادم، ويصعد في المنبر، ويتفرس في أبصار الجمهور الذي عرفه منذ سنين، فيقول بعد قليل صمت: «اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم.»
فدهش الحاضرون، فماذا يعني؟ ويداوم يسوع على القول مع أنه لم ينته إلينا جميع ما قال، ويهز السامعون رءوسهم استحسانا وإن وجد بينهم من ارتابوا فسألوا: «من أين لهذا هذه؟ أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته ها هنا عندنا؟» فصاروا ينظرون إليه حذرين.
Bog aan la aqoon