له الأخبار، ما دام قد أذن له في مكالمتهم من خلال قضبان السجن، فتلاميذه هؤلاء هم الحمائم المرسلة للبحث له عن فيضان الأردن الذي يأمل ارتفاعه على الدوام من غير أن يهبط أبدا.
أنبأه أولئك في آخر مرة ظهور رجل ناصري يأتي بالآيات والمعجزات، فيملأ اسمه الأفواه والآذان، ويظهر أنه عمده أيضا، وحاول عبثا أن يتنوره من بين المئات التي عمدها، ومما قالوه له: إن صيته دوى في بلاد الجليل، ثم لا يستطيع يوحنا أن يتذكره. ومما قالوه له أيضا: إن ذلك الرجل الذي يجيء بالعجائب يلازم موائد العشارين وبنات الهوى، وإنه لا يصوم هو وتلاميذه، وإنه مرح ذو وجه طليق. أتلك هي البشرى؟ وما فيها من البشرى؟ فلم لا يعمد؟ ولم لا يقول بالاعتراف؟ ومع هذا ترى ذهن يوحنا مشغولا بذلك الذي يبشر بملكوت السماوات، وينذر الأغنياء وذوي البأس، ويتقاطر الجمهور إليه بما لا يسعهم به معبد، أليس من الغريب أن يظهر يسوع هذا في زمن يزج فيه يوحنا نفسه في السجن؟ أما كان الأجدر بالشعب أن ينظر إلى يسوع خليفة له؟ ألم يمهد له السبيل بقوله: «الذي يأتي بعدي هو أقوى مني»؟ وما الأمر إذا كان ذلك الناصري نبيا كاذبا مشعبذا يستغل ما صنعه يوحنا؟
صلصلت سلاسل باب السجن فدخله جنديان وبلغوه بالإشارة أن يتبعهما، أكان هذا ليقتل؟ غادر الديماس
14
بين الخوف والرجاء، بيد أنه لم يقتد إلى قاعة مظلمة، بل سيق إلى درج مؤدية إلى قصر ولي الأمر فأصعدوه فيها.
كان هيردوس أنتيباس ضعيفا جبانا فاسقا، غير حقود ولا نشيط كأبيه هيرودس، وهو حين كان نزيل أخيه برومة فيما مضى، وجدت زوجة أخيه هيروديا فيه الوسيلة التي تصل بها إلى السلطان، بعد أن جرد زوجها من الإرث، فأضحى رماحا عند القيصر، وهيروديا هذه هي سليلة هيرودس الكبير أيضا، فكانت تشابه جدها هذا، فحققت ما كانت تأمل، فهي لم تنشب أن أغوت أخا زوجها، فحرضته على تطليق زوجته، ومصاحبته لها زوجة في إيالته، فاضطرت زوجته الأولى التي هي ابنة ملك عربي - اسمه والي الحارث - إلى الاعتصام بأبيها في قلعة مخيروس، فاشتعلت الحرب، فاستولى هيرودس على تلك القلعة، ثم أخذ يقيم في الغالب بحدود بلاد العرب؛ إطفاء لنار الفساد بأسرع مما يقدر عليه لو كان في طبرية من بلاد الجليل.
كان يوحنا العابس في مكانه المناسب حيث الضفة الشرقية من البحر الميت، وما فيها من الأودية ذات الهوي، والينابيع الكبريتية، والصخور البركانية، وإلى هنالك أتى به جنود الأمير في يوم ربيع؛ لما رئي من التفاف جمع كبير حوله عبر الأردن، ولما بدا من خوف ذوي السلطان بأورشليم اتقاد فتنة جديدة. ومما لا ريب فيه أن بيلاطس كلم المجمع الكبير «السنهدريم» فيما يجب اتخاذه لمنع ذلك.
وكان المكان الذي يجتمع فيه فريق الساخطين خارج المنطقة التابعة للحكم الروماني رأسا، فأشار بيلاطس على الأمير التابع هيرودس بأن يحفظ النظام في إيالته، وما كان الاضطراب الأزلي ليهدأ في تلك البقعة من الدنيا، ففي الوقت الذي وقف فيه المعمدان أرسل بيلاطس فرسانه إلى جبال السامرة التابعة له؛ ليشتتوا فيها شمل أنصار مذهب جديد ، ويأسروا منهم، ويقتلوا من يرون خشية الفتنة.
سيق يوحنا من أروقة طويلة وحمامات مفروشة بحجارة ملونة، فإذا ما نظر من النافذة العالية أبصر في أسفل القصر أعتدة للحرب، ودارا للصناعة، ومن ذلك المحل سير بيوحنا مرتين فيما مضى.
السامري الصالح.
Bog aan la aqoon