لم يرتح الأغنياء لسماعهم ذلك القول. أليس ذلك الذي يدعو القوم إلى تلك المبادئ الخطرة ثائرا محرضا؟ بيد أن بين أولئك المستمعين من هم شباب وارثون، فنفذت تلك الكلمات في قلوبهم. ومن هؤلاء الشباب الأغنياء من سأله: «أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟» فأجابه: «إن أردت أن تدخل الحياة؛ فاحفظ الوصايا.» فقال له الشاب: «هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، فماذا يعوزني بعد؟» فراقت آماله واتضاعه يسوع، فود يسوع أن يظفر به فقال له: «إن أردت أن تكون كاملا؛ فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء.» فكان لهذا القول وقع شديد على ذلك الفتى الغني، فنظر إلى يسوع نظره إلى مفتون، فمضى مغتما حزينا، فتبعه يسوع بعينيه، ثم قال لتلاميذه: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله؛ لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله.»
لاحظ المستمعون معاملة يسوع لذلك الفتى الغني برفق مع عده الغنى إثما، ولاحظوا تفضيله الآثمين على الصالحين، فيا له من تناقض! قرأ يسوع على وجوه أولئك هذا المعنى؛ فلاح له مثل أوحت به روح تلك الساعة فقال: «أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحدا منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟ وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحا، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلا لهم: افرحوا معي؛ لأني وجدت خروفي الضال، أقول لكم: هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى توبة.»
ثم يقص يسوع نبأ ابن أنفق ما يملكه سفها فعاد إلى أبيه تائبا، فيقبله أبوه ويلبسه ثيابا حسنة، ويذبح من أجله العجل المسمن، فيغضب الابن الثاني الذي لم ينفك يعمل ما يرضي أباه من غير أن ينال جديا، فيصنع منه طعاما لأصدقائه، فيقول له أبوه: «يا بني، أنت معي في كل حين، وكل مالي فهو لك، ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر؛ لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد.»
ماذا؟ ألا يحق للولد المجد الطائع أن يألم من أبيه الذي ضن عليه بجدي مقابل خدمه الكثيرة؟ أيجب أن يؤدي حب الناس إلى مثل ذلك الإجحاف؛ حينما تخرب الأسداد فيفيض سيل الرحمة فيض رحمة الأب الرب؟ ألا يعني ذلك أن العبرة فيما يشعر به الإنسان وما يفكر فيه، لا فيما يصنعه وما لا يصنعه؟ هنالك عين تنفذ ما وراء الظواهر فترى دقات قلب الإنسان وضعفه، وما أبصره يسوع الصبي في صلاح بلده يبصر مثله الآن، فيبدو أشد من الشريعة نفسها تجاه الذنوب الخفية.
ويعرف يسوع أن الناس يوكدون اليمين من أجل الأمور المشكوك فيها، ولم يحلف الإنسان بالله ؟ «فلا تحلفوا ... لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء، بل ليكن كلامكم نعم، نعم، لا، لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير.» ولم يتصدق الإنسان على الفقراء فيذيع ذلك نافخا في الصور؟
11 «فاحترزوا من أن تضعوا صدقتكم أمام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات، فمتى صنعت صدقة فلا تصوت أمامك بالبوق كما يفعل المراءون في المجامع وفي الأزقة؛ لكي يمجدوا من الناس، الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك؛ لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية.» ولم يصلي الإنسان جهرا حتى يراه الجميع؟ «فمتى صليت فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.» ولم يبدو الإنسان شاحبا؟ «فمتى صمت فادهن رأسك، واغسل وجهك؛ لكيلا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.»
ولا تظنوا أن قرابينكم تكفر عن كل شيء، «فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك؛ فاترك قربانك أمام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك.» ويسوع الذي لم يقرب النساء قد عرف خائنة الأعين؛ فقد قرأ ذات يوم في عيني رجل ينظر إلى امرأة جالسة مع نسوة في المعبد معنى الشهوة، فتتظاهر بأنها تجهله فلا يبدو من الحضور ما يدل على علمهم أمر خيانتهما، فأبصر يسوع ما يدور في خلدهما، فقال مخاطبا سامعيه: «إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه.»
هنالك ارتبك من رأوا من السامعين انطباق ذلك القول عليهم فغضوا أبصارهم. •••
ولا تجد في يسوع واعظ توبة مع ذلك، فيسوع الذي يأتي عوام القوم بالبشرى لم يعد الفقر أو المرض فضيلة، بل كان يواسي ويشفي، ويسوع لم يشجع الخطأة ولم يعدهم بتحمل خطاياهم، فكان يقول لمن ينقذ: «اذهب ولا تخطئ أيضا .» وبهجة الحياة التي كانت تدني ذلك الولد الشاكر من الأب الرب أضحت ضعفي ما كانت عليه، بعدما أصبح الفتى البالغ الذي يستطيع أن يصب الآن كنوز محبته في قلوب كثيرة، وقد قال لمن يظهرون غلوا في التقوى: «لا تكونوا عابسين كالمرائين ...» والمرض خطيئة، أو دليل عليها؛ فقد قال لرجل شفاه: «ها إنك قد عوفيت فلا تخطئ بعد لئلا يصيبك أعظم.» ويسوع إذ هو في عافية يستطيع أن ينام في زورق فوق بحر هائج، ويسوع إذ هو مغتبط بحسه أنه ابن الرب لا يبالي بالغد الذي تكلم بعضهم عنه في حضرته لا ريب، ويسوع إذ يفكر في الحيوانات والنباتات التي رافقها منذ صباه يقول: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد، ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟ ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة؟ ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا، أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟ ... فلا تهتموا للغد، فإن الغد يهتم بما لنفسه.»
ويسوع يرضى شاكرا بما يأتيه به النهار اتفاقا؛ سواء عليه اجتمع بالناس في مكان عام، أم اجتمع بتلاميذه، أم قضى ساعة على شاطئ البحيرة وحيدا هادئا مفكرا، أم تناول طعاما حول مائدة عيد مشتملة على خبز أبيض، وحمل وخمر حمراء مستخرجة من كروم البلاد. ويسوع قد سئل ذات يوم: «لماذا يصوم تلاميذ يوحنا، وأما تلاميذك فلا يصومون؟» فأجاب مسرورا: «هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون؟»
Bog aan la aqoon