برز رجل لابس ثوبا مزقه شوك العوسج، طويل، هزيل، أشعث، لحياني، غضوب، مشابه لإشعياء إذا ما تكلم، فيختم كل موعظة بقوله : «توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات!» والجميع قريبون منه، ويحف به بعضهم فيلوح أنهم تلاميذه، وهو بعد أن يفرغ من كل موعظة يجبذ واحدا من الحضور لبضع خطوات، فيدخل معه مكانا من النهر قريب القعر، فيصب عليه بدلو قديم ماء أسمر أصفر من الأردن.
وإن الأمر لكذلك إذ يسمع للجمع ضوضاء، فتتوجه أبصار الجميع إلى الشرق لمشاهدة أناس ينزلون إلى الوادي من طريق أورشليم، وكان يسوع أول من عرف أمر أعدائه الخفيين، هؤلاء الذين لم يزد عددهم عن العشرة إلا قليلا، هؤلاء الذين هم من الكهنة واللاويين والفريسيين، فجاءوا للبحث في شأن ذلك الرجل الذي يأتي بالمعجزات، ويبدو التناقض بينهم وبين أولئك الفقراء؛ لثيابهم الحسنة وأوضاعهم مع تركهم أردية الأعياد في منازلهم بأورشليم، ويبدون فاترين؛ لأنهم لم يأتوا إلا ليروا ماذا يحدث في ذلك المكان الذي يبعد من أورشليم يوما واحدا، وفي أورشليم عقد مجلس، وعينت لجنة لترى وتسمع وتسأل ما قضت المصلحة بألا تقع تلك التجمعات طليقة، ومما ورد في التقارير أن المعمدان يحرض على نظام التملك، ومما وقع أن بيلاطس نفسه علم ذلك.
فسح الجمع للقادمين المجال احتراما أو اتباعا للعادة، فصار القادمون أمام يوحنا المعمدان، فتقابلت عيونهم الفاترة وعيناه الملتهبتان، وكان في كلامه ما يستفزهم، ما انطوى كل جواب منه على معنى التحدي، وما انقلب الوضع إلى ظهوره بمظهر المتهم، وظهورهم بمظهر المتهمين، وظهور الحجيج بمظهر الحضور.
سألوه: «من أنت؟»
فأجاب معترفا: «لست أنا المسيح.» - «إذن ماذا؟ إيليا أنت؟» - «لست أنا.» - «آلنبي أنت؟» - «لا.» - «من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟»
كان صمت وتوتر مع انتظار، وكان شعور من يسوع بأن المعمدان سينطق بكلام كالصاعقة، وكان جواب المعمدان الشديد: «أنا صوت صارخ في البرية، قوموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي.»
فسألوه: «فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟»
فأجابهم: «أنا أعمدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى مني، من لست أهلا لأن أحل سيور حذائه، هو سيعمدكم بالنار.»
ارتعش الحاضرون وتنفسوا الصعداء؛ لأن يوحنا تفلت من الشرك الذي نصبه الكهنة له بأسئلتهم، وساور القلق قلوب الحاضرين مع ذلك؛ لأنه تكلم عن المسيح وأعلن أنه ليس بالمسيح، وتبادل الفريسيون النظرات مضطربين، ورأوا أنهم لا ينقضون دفاعه بمثل ذلك، فسأله أحدهم عن السبب في عدم ذهابه إلى السامريين أو غيرهم من عبدة الأصنام ما احتاج هؤلاء إلى التوبة، فقال لهم بغلظة: «يا أولاد الأفاعي! من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا بالقول في أنفسكم: لنا إبراهيم أبا؛ لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.»
قال بعض اللاويين والكهنة لبعض: لقد علمنا ما فيه الكفاية. ثم عادوا، ومن المحتمل أن ساور الخوف غير واحد من هؤلاء فتدبر وهو في الطريق قول إشعياء: «من أجل ذلك حمي غضب الرب على شعبه، ومد يده عليه وضربه حتى ارتعدت الجبال.» ويسود الصمت ذلك الجمع عبر النهر، ولم يسطع الجمع أن يهتف كما يود ابتهاجا بيوحنا المعمدان، الذي أنذر مهددا أولئك الأقوياء والأغنياء، وأحاط به من غير أن يبدر منه صوت.
Bog aan la aqoon