لم يخب أوار الفتنة عدة سنين، وستدوم عشرات السنوات، فالصواب في سلوها والتفكير في غيرها.
وترعرع يسوع فغدا شابا، ويفرق شعره الأسود على الطراز الناصري، وسيكون ذا لحية عما قليل، وهو ضليع جيد الصحة ما جال في الجبال، وليس الهواء في منجر أبيه حارا كما في أسفل الوادي، ويسمع للرياح هزيزا بين التلال، ويرى اخضرار سفوح الجبال بفعل المياه، ويروى أنه فقد أباه يوسف حين كان في السنة التاسعة عشرة من عمره، فكفل هو وأمه إخوته الصغار.
ولم يفكر يسوع في الزواج مع أن الشريعة تحرض عليه مباركة للأب الكثير الأولاد، ويكن يسوع محبة للنساء والصبيان فيحبونه. ومن المحتمل أن كان يبدو شاذا ما ظهر هادئا كريما رءوفا رحيما بالناس، مجتنبا للخصام، أنيسا، مصغيا أكثر منه متكلما، وكان جامعا لمقادير البشر في صدره، مدققا في عواطفهم وآلامهم، كاشفا لعوامل السير فيهم كما لو كان قابضا على عصا سحرية، وأظهر ما يكشفه على الخصوص هو الضعف الخفي خلف الظواهر الصاخبة التقليدية، ويسوع إذ عرف كل شأن كان يلتمس المعاذير لكل إنسان، ويسوع إذ ابتعد عن الظهور حكما قاضيا كان موضع ثقة لكل إنسان.
ومن المحتمل أيضا أن كان القوم يعطفون على يسوع ما رأوا تجرده من الحرص، وابتسامه عند غضب الآخرين، ويدعوه الأغنياء إلى بيوتهم لاطلاعه على التوراة وعدم اندفاعه إلى الأمام، ويجلس حول موائدهم، ويشرب خمرا من التي تستخرج من عنب تلال البلاد، وما كان ليهرب من الأعياد ولا من مجالس النساء، وما كان ليقصر في مداعبة المدعوين.
ويفضل يسوع مجالسة أقرانه الفقراء على حافة الطريق أو على درج الكنيس، فيصغي إلى شكاواهم، ويصاحب يسوع المشردين مع تجنب الأتقياء العابدين إياهم، وما كان ليخشى البغايا، وما كان ليبتعد عن الجلوس حول موائد العشارين مع ازدراء العالمين إياهم، وما كان اليهود بالحقيقة ليعفوا عن أي واحد منهم يجمع الضرائب والمكوس التي يفرضها الأمير، فيدفعها الأمير جزية إلى رومة، فما يبقى للعشارين من الثروات حري بالاحتقار لذلك، والمال العام مال مسروق لذلك، وليس على اليهودي التقي أن يدفع شيئا إلى غير الهيكل لذلك.
وما الذي يدفع ذلك النجار الفتى إلى محادثة تلك الطغمة؟ يعلم كل واحد في الناصرة أنه لا مغنم له من وراء ذلك، فعليه أن يعرف أن مصاحبة العشارين والآثمين مما يشينه، والقوم لم ينشبوا، مع ذلك، أن أدركوا أن بحث هؤلاء الضلال عنه هو لعدم شتمه لهم، ولاستماعه إليهم عندما يقصون عليه سبب سلوكهم سبيل المال والغرام، وكيف أنهم لم يتركوا بابا إلا طرقوه قبل ذلك، ويظهر أن في الفتى استعدادا عجيبا لاكتشاف بقية الشرف في أرذل الآثمين، من غير أن يدرك هؤلاء ذلك، فإذا ما حضر فتح المردة أفئدتهم، ولانت قلوب الأشرار القاسية.
وأبناء الجليل أولئك متقلبو المزاج، فطورا تراهم من الشجعان المخلصين المتحمسين لمثل عال، وطورا تراهم من المنحطين النادبين القانطين لغير سبب، وليس من صفاتهم الاعتماد على النفس. ومما زادهم عدم ثبات اتصالهم بالمشركين من جيرانهم بصلة النسب، بعد أن انتحل هؤلاء ديانة اليهود، ولا بلد كالجليل يشتمل على ذوي الحماقة والخبل، وليس يسوع ممن يخاف الممسوسين؛ فهو يرى الشيطان الذي يتخبطهم فلم يحجم عن زيارتهم مع ابتعاد الآخرين عنهم مذعورين.
وإذا وجد من يمقتهم يسوع، أحيانا، فهم الكهنة والفريسيون الذين يجهرون بالزهد، ويبدون الطهر على ملأ من الناس، وكلما تبحر يسوع في التوراة وجد خلافا بين النص والروح، والمثل الفريسي يقول: «إذا اجتمع اثنان من غير أن يتباحثا في الشريعة؛ كان مجلسهما مجلس تجديف وإلحاد.» ومن أقوال الفريسيين: «ويل لمن يسير مفكرا في الشريعة فيقف ليقول: ما أجمل هذه الشجرة! ما أحسن هذا الحقل الذي أثير حديثا! فهو بهذا يعرض حياته للهلاك، وويل لمن يفسر الشريعة بما يخالف ما نص عليه الكهنة! فهو بهذا يخسر نصيبه في الحياة الآخرة!» ماذا؟ بهذا يحظر علينا الإعجاب بنخلة إذن؟ ماذا؟ بهذا يحرم علينا أن ننعم النظر في الأرض حينما نفكر في الرب إذن؟ ماذا؟ بهذا يفرض علينا أن نستعين بالكتبة حينما نرغب في الاطلاع على معنى الزبور إذن؟
ويسوع لا يقل عن الكهنة علما بالعادات والوصايا وحقوق الكهنوت، وأحكام النكاح والشريعة والصدقات وتاريخ إسرائيل والأنبياء، ويسوع في قرارة نفسه كاهن أيضا مع زهده عن الاشتهار بذلك، ولم يمشي أولئك في الأسواق ويبثون الأرصاد والعيون ليراقبوا نظافة الفقراء، وهم إذا ما سئلوا عن فك رقاب عبيدهم عند انقضاء سبع سنوات قالوا: «سننتظر حلول السنة الخامسة!» والأغنياء يمتصون الفقراء غير تاركين لهم ما يسد الرمق خلافا لما تأمر به الشريعة؟ وهم حين يطالبون الفقراء ببواكير الفواكه السبع في سبيل الهيكل يأخذون منهم صوفا وحطبا وغنما ضريبة للهيكل أيضا، فيزيدونهم فقرا، ولا يزيدونهم تقوى.
ويرى يسوع أن الأحرى بالفقير أن يجلس على طرف الطريق منتظرا من يستأجره ليومه، فالرب لا يدعه يموت جوعا، فلم يفكر في غده إذن؟ ومن المناسب أن تذهب أمه وإخوته معه إلى الجبل للاغتذاء باللبن والتين ما اشتغل أهل المدينة هنا بأنفسهم، وما أحبوا أن يرى الناس ما يصنعون من خير، وما التمعت عيونهم؛ حينما يقرءون التوراة أكثر من التماعها حينما ينظرون إلى نجوم السماء.
Bog aan la aqoon