Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence
ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
وعكوفه على الحديث، يسير لطلبه، ويركب الصعب والزلول، حتى يصل إلى عالم يتلقى عنه. ذلك لأن الناس (ولو كانوا غير فضلاء) يشيع فيهم ذكر أهل الفضل، وينوهون بهم، وهم دونهم، فقد تسايرت الركبان بذكر أحمد وفضله ودينه قبل أن يجلس للتحديث والإفتاء، حتى إنه عندما ذهب إلى عبد الرزاق بصنعاء كان قد وصل إليه وزهده وتقواه وورعه، وهديه وعلمه وحفظه.
ويظهر أنه ما جلس للدرس والإفتاء إلا بعد أن قصده الناس للسؤال عن الحديث، والفقه، فاضطر لأن يجلس لإجابتهم في المسجد، وكانت حياته بعد ذلك تنعى هذه الشهرة وتقويها، فلقد عاين الناس فضله ووجدوا تعففه عما عند الولاة والأمراء، ومراعاته لحرمة المسلمين، ثم نزلت المحنة التي صهرت نفسه، وبينت مقدار جلده وصبره، وتوالت النوازل، فزاده ذلك علوا ورفعة، وزادت مكانته عند الله والناس، ثم كان تواضعه، ورغبته الواضحة في الخمول، وفراره من التنويه، فعرفه الناس، وأذاعوا ذكره، فكان يفر من الشرف، فيتبعه الشرف، كما قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
٣٦- وإذا كان أحمد قد ذاع ذكره في الآفاق الإسلامية قبل أن يجلس للدرس والإفتاء، فلا بد أن يكون الازدحام على درسه شديداً، ولقد ذكر بعض الرواة أن عدة من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف، وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة(١)، ولا بد أن المكان الذي يسع هؤلاء هو المسجد الجامع ببغداد دون سواه، فلا بد أن درس أحمد كان فيه، ولسنا نسلم بأن ذلك العدد هو الإحصاء الدقيق الصحيح لمن كانوا يحضرون درسه، ولكن ذكر العدد يدل على الضخامة، ولو نزل العدد إلى النصف بل إلى الخمس لكان كثيراً، ولدل على مكانة أحمد عند البغداديين، وإنها لمكانة عظيمة، وإن كثرة هؤلاء الذين كانوا يحضرون درسه في المسجد كانت سبباً في كثرة رواة فقهه وحديثه، كما سنشير إلى ذلك عند الكلام في فقهه.
(١) المناقب لابن الجوزي ص ٢١٠.
35