107

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

١١٠ وإذا كانت هذه مظاهر السياسة، ونضجها في الغاية التي تأدت إليها، وابتدأت بغرسها، وانتهت بثمراتها، وقد أدرك أحمد بعضه، وعاينه، وهو العربي الشيباني الذي كان جده من المجاهدين في إنشاء هذه الدولة، والذي كان أبوه محاربًا، ولكنه لم يعش حتى يرى ذل العرب، فلم تكن تلك الحال هي التي ترضي أحمد؛ ولم تكن مظاهر سخطه عليها حربًا يعلنها، فلم يكن من رجال السيف، ولا تكوين طائفة يحرضها، فلم يرتض أن يكون مقوضًا لبنيان الدولة الإسلامية؛ إذ أن كل تحريض على فتنة يفك من عرى الدولة عروة، ولم تكن مظاهر غضبه نقدًا لخلفائها وولاتها، ولومًا لمناصريها ومؤيديها، فلم يكن من دأبه التجريح والتأنيب، بل كانت مظاهر غضبه مما يتفق مع سمته وأدبه، وهو ألا يتصل بها، وأن ينصرف إلى العلم، وأن يقطع نفسه عن السياسة، وما ينبعث منها.

١١١ - وكان مسلك أحمد هذا وسطًا بين مسلك إمامين سبقاه، هما مالك رضي الله عنه والآخر أبو حنيفة، فأبو حنيفة نقدهم في درسه، وثبط الناس عنهم في بعض عبارات جاءت في أثناء فتاويه، وحرض الناس على معاونة الخارجين من بني علي في بعض عبارات وردت أيضًا في فتاويه، فهو لم يسكت عنهم، ولم يعلن الخروج عليهم إعلانًا صريحًا، ويدعو إلى ذلك في عبارات يسوقها لذلك، بل كان يلوم، ويثبط، ويحرض في عبارات تجيء في سياق كلامه، وإن كانت تدل في الجملة على أنه لا يرى الخروج عليهم بغيًا، ولا يشارك الخارجين فعلاً، ومالك كان لا يرى جواز الخروج، ولا يحرض عليه، ويوالي هؤلاء الولاة رجاء إصلاحهم، وحملهم على رفع المظالم، وأن يردهم عن إساءة لمحسن.

أما أحمد فقد كان بين ذلك قوامًا، لم يدع إلى فتنة، ولم يحرض عليهم، ولم يتعرض لهم تصريحًا، ولا تلميحًا بقول أبد، ولم يوالهم مع ذلك، ولم يقبل عطاء، بل كان الزاهد في مالهم الراغب عن عطائهم؛ المنصرف للعلم انصرافًا تامًا.

١١٢ - ولقد قارن ذلك الغلب الفارسي، أو بعبارة أدق قارن حكم المأمون أن صار الغلب في النفوذ العلمي وفي الحكم لطائفة هي المعتزلة، كان يرى أحمد مسلكها في الاستدلال على العقائد انحرافًا عن منهاج السلف الصالح، وانصرافًا عن السنة، وما كان ذلك هو العلم المنشود، أو الطلبة التي يتجه إليها طالب العلم والحقيقة، وقد زاده ذلك

106