ويطوف محيي الدين بالأرض، وقلبه معلق بأمير المغرب وسيده، الذي أخلص له الحب والمودة؛ فلم يجد لحبه ولا لمودته جزاء إلا هذا الفراق الذي أكره عليه ولم يرده.
ويأخذ في تأليف كتابه الخالد الجامع المانع «الفتوحات» فيكتب وعينه على الملك الحبيب، بل يكتب لأنه يريد أن يعرف صديقه بفنون من المعارف حصلها بعد أن فارقه، ثم يتقدم خطوة أخرى أفصح وأوضح، فيقول: إنه يريد أن يهدي إليه هذا الكتاب بما فيه من جواهر العلم وكنوز المعرفة، وآيات الحكمة التي يؤتيها الله - سبحانه - من يشاء.
ولنترك محيي الدين يحدثنا عن القصة كلها بما فيها من وفاء وولاء، وحب صادق، وعتاب وفراق، وتلك القصة جعلها محيي الدين مقدمة وسببا في تأليف الفتوحات: «فاعلم أيها العاقل الأديب، والولي الحبيب، أن الحكيم إذا نأت به الدار عن قسيمه، وحالت صروف الدهر بينه وبين حميمه، لا بد أن يعرفه بما اكتسبه في غيبته وما حصله من الحكمة؛ فكأن وليه ما غاب عنه بما عرف منه، وإن كان الولي - أبقاه الله - قد أصاب صفاء وده كدر لعرض، وظهر منه انقباض عند الوداع لتتميم غرض، فقد غمض وليه عن ذلك جفن الانتقاد، وجعله من الله - أبقاه الله - من كريم الاعتقاد؛ إذ لا يهتم بك إلا من يسأل عنك، فليهنأ الولي - أبقاه الله؛ فإن القلب سليم، والود - كما يعلم - بين الجوانح مقيم، وقد علم الولي أن الود فيه كان إلهيا، لا غرضيا ولا نفسيا، وثبت هذا عنده قديما عني من غير علة ولا فاقة إليه ولا قلة، ولا طلب لمثوبة، ولا حذر من عقوبة، وربما كان من الولي في الرحلة الأولى، التي رحلت إليه سنة تسعين وخمسمائة، عدم التفات فيها إلى جانبي، ونفور عن الجري على مقاصدي ومذاهبي؛ لما لاحظ فيها من النقص، وعذرته في ذلك؛ فإنه أعطاه ذلك مني ظاهر الحال، وشاهد النص، فإني سترت عنه وعن بنيه ما كنت عليه في نفسي، بما أظهرت لهم من سوء حالي وشرة حسي، وربما كنت أسألهم أحيانا على طريق التنبيه، فيأبى الله أن يلحظني واحد منهم بعين التنزيه، ولقد قرعت أسماعهم يوما في بعض المجالس، والولي في صدر ذلك المجلس جالس، بأبيات أنشدتها وفي كتاب الأسرار أودعتها وهي:
أنا القرآن والسبع المثاني
وروح الروح لا روح المعاني
فؤادي عند معلومي مقيم
يناجيه وعندكمو لساني
فلا تنظر بطرفك نحو جسمي
وعد عن التنعم بالمعاني
وغص في بحر ذات الذات تبصر
Bog aan la aqoon